صفحات العالم

هل من أمل للأكراد في “الربيع العربي”؟


    مالك ابي نادر

قارىء تاريخ الاكراد يلمس انقساماتهم المستمرة بالعلاقة مع أحداث المنطقة. صحيح ان التدخلات الاقليمية والدولية تفعل فعلها في منع الوحدة الكردية، لكن قابلية المجتمع الكردي للانقسام اعطت هذه التدخلات دوراً أكبر. فماذا عن الأكراد في “الربيع العربي”؟

طُبعت المنطقة الممتدة من حدود افغانستان الى البحر الابيض المتوسط بطبيعة العلاقة بين ايران وتركيا، والتي لطالما شهدت مداً وجزراً وتوترات واتفاقيات منذ ايام الامبراطورية الصفوية والامبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر حتى ايامنا هذه وفي جميع هذه المراحل كانت كردستان باقاليمها الاربعة عامة وكردستان  العراق خاصة ساحتها الاساسية وفقاً للواقع الجيوسياسي التاريخي والانقسام المذهبي الطائفي الذي يُجير للمصالح الايرانية والتركية قبل اية اعتبارات اخرى.

فالصراعات والتوترات تسود عندما يختل التوازن بينهما من حيث القوة والتحالفات، والاتفاقيات  تأتي مع توازن القوى والمحاور الدولية التي تستطيع اي منهما الاستفادة منها. وفي كلتا الحالتين تأتي النتائج على حساب الاكراد الذين يعيشون منذ مئات السنين اوضاعاً متحولةً تبعاً لواقع هذا المد والجزر. وقد اثبت التاريخ ان الاقاليم الكردية الاربعة، ولاسيما كردستان العراق، بحاجة دائمة لتحالفٍ مع احدى هاتين القوتين نظراً الى الموقع والسلطة اللذين يتحلى بهما اي منهما.

وقد اثبت التاريخ ايضاَ ارجحيةً في العلاقة بين كردستان العراق وايران لان المخاوف التركية من الوحدة الكردية تفرض نفسها بالوقائع. فالحلم الكردي يؤرق الاتراك لان تحقيقه سيقتطع من الديموغرافيا والجغرافيا التركيتين ما لا تحتمل خسارته، بالاضافة الى الخوف من ذوبان الاقلية التركمانية المتواجدة في كردستان العراق، ما يشكل خسارةً لاوراقٍ  تركيةٍ اضافيةٍ في بلد تعتبره بوابة اساسية للعالم العربي والخليج، حيث مصادر الطاقة التي تفتقر اليها والحاجة الماسة للمياه مُنتجها الاساسي.

ومنذ فوز الثورة الخمينية الشيعية في ايران في بدايات العام 1979 ونجاح انقلاب كنعان أفرين التركي في منتصف العام 1980 وُلد شبه توافق استراتيجي بين البلدين، فبرز تأثيرهما الفاعل في أمن المنطقة، بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما، فضلاً عن انهما يتشـاركان في الموقف من القضية الكردية. وفي تسعينات القرن الماضي كان هناك توافق ثلاثي بين تركيا وإيران وسوريا لاتخاذ موقف موحد إزاء القضية الكردية في العراق، خصوصاً بعد ان اُجبر النظام العراقي على التخلي عن إدارته السياسية والادارية والمالية لكردستان حيث رعى المجتمع الدولي فيها حكماً ذاتياً خارج سلطة العراق المركزية، الامر الذي ضاعف من مخاوف الدول الثلاث من احتمال قيام دولة كردية في شمال العراق.

الموقف الموحد الذي وازن بين المقتضيات الدولية الراغبة في اضعاف سلطة صدام حسين بكل الوسائل المتاحة والمخاوف من قيام نواة دولة كردية في المنطقة الوسطية من كردستان والتي تتمتع بموقع تواصلي مع جميع مكونات الجغرافية الكردية، وبقوة اقتصادية كبيرة تتمثل بالاحتياطي النفطي الذي تعوم عليه، هذا الموقف استمر ابان الاحتلال الاميركي للعراق على الرغم من محاولات اكراد العراق تثبيت هذا الواقع. فلا الدستور العراقي الجديد نص صراحةً او مواربةً على انفصال الشمال الكردي، ولا السياسات الرسمية “الشيعية” المتحالفة مع الاميركي سمحت لهم بارساء اوضاع ادارية يستطيعون  من خلالها استلام زمام المبادرة بالانفصال، فبقيت المقدرات المالية والعسكرية بيد الحكومة المركزية، المتحالفة مع ايران، في التزام شبه واضح باتفاق الحكم الذاتي الموقع بين البعث والملا البرزاني في بدايات السبعينات من القرن السابق.

وقارىء التاريخ الكردي يلمس الانقسامات الافقية والعمودية في كردستان العراق تبعاً للتوازنات الاقليمية وللاحداث التي تشهدها المنطقة، فصحيح ان المؤثرات والتدخلات الاقليمية والدولية تفعل فعلها في منع الوحدة الكردية، اقله في العراق، ولكن قابلية الانقسام التي طبعت المجتمع الكردي اعطت لهذه التدخلات دوراً اكبر في تجيير اية تسويات او توازنات لمصلحة المحاور الاقليمية على حساب قضية الشعب الكردي الذي يدفع الاثمان ويتكبد الخسائر المادية والمعنوية.

ولا تختلف الحقبة الحالية عن سابقاتها فالاحداث المصيرية التي تشهدها المنطقة العربية والشرق الاوسط ادخلت الفسيفساء الكردية في صلب تداعياتها، فانقسام اكراد العراق  بدا واضحاً في التعاطي مع المرحلة. فالرئيس جلال طالباني، رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، ورئيس العراق، يميل الى النظام الايراني، ويتبنى سياسة طهران ويطالب ببقاء النظام السوري مع اجراء اصلاحات فيه، وعدم التدخل الاجنبي في شؤون سوريا الداخلية. بينما السيد مسعود البارزاني رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني ورئيس الاقليم يتجه نحو أنقرة  ويتبنى السياسة الاردوغانية وسياسة “العثمانيين الجدد” التي تسعى لتعميم ما تسوّق انها سياسات اسلامية منفتحة وديموقراطية في الدول الاسلامية غير الخليجية، ولكنها في الواقع تعمل لهدفين اساسيين: اولهما تصفية القضية الكردية  بواسطة الاسلام،  وثانيهما السيطرة على اقاليم المنطقة وجعلها منطقة نفوذ سياسي واقتصادي لها في استعادة لحقبة العثمانيين، بعد ان سدت في وجهها ابواب الانخراط في الاتحاد الاوروبي.

ومع اندلاع  النار “الاخوانية” في اليباس البعثي السوري، واقترابها من الهشيم  العراقي، وسعي الاطراف الاقليمية والدولية كلٌ حسب مصالحه لاستعمال الساحة العراقية في المنازلة السورية، تسعى الانظمة العربية وتركيا والدول الغربية لادخال الاكراد في المنازلة الدائرة الامر الذي لم يلقَ التجاوب من اكراد سوريا وتركيا وايران وقسم كبير من الكرد العراقيين حتى الآن. لان المعطيات والمؤشرات لم تعطهم اجوبة واضحة واكيدة لتساؤلات كبيرة هي:

اولاً- هل تلحظ الاجندة الغربية – الاسلامية بعنوانها “الديموقراطي” حلا للاكراد على قاعدة حقهم في تقرير مصيرهم، ام ان التاريخ سيعيد نفسه الى ايام معاهدة سيفر في اوائل القرن الماضي عندما اعُطي للاكراد والسريان حلم ما لبثوا ان خسروه في معاهدة لوزان بصفقة تقاسمٍ بين القوى والدول الموقعة على خريطة الشرق الحالي؟

ثانياً- هل سيقبل الاخوان المسلمون اي تمايزٍ اتني في منطقة ينادون فيها بشمولية الامة ووحدتها بالاسلام الذي يرونه موحداً للشعوب والامم تحت رايته ووفق شريعته؟

ثالثاً- هل سيخطف الاكراد في غفلة الزمن الحالي، حيث تتهاوى الانظمة وتسقط الخطوط وتستباح المحميات، دولةً مستقلةً على اكبر مساحةٍ ممكنة من الجغرافيا الكردية؟

رابعاً- هل ستقبل كل من ايران وتركيا وسوريا والعراق بكيانٍ كرديٍ يتمتع بمساحةٍ جغرافيةٍ كبيرة وقدرات نفطية كبيرة، وتواصلٍ حدوديٍ يربط بين عالمين: متقدمٍ غني يبحث عن مصادر للطاقة، و فقيرٍ يملك اهم واكبر مصادر الطاقة ؟

يتضح من “رأس جبل جليد” الربيع العربي ان ما يحضّر وما يجري لا يتعلق بنشر الديموقراطية ولا بمساعدة الشعوب على تقرير مصيرها، اقله بالنسبة للاكراد، لان الاجندة التركية بالنسبة لـ”أتراك الجبال” (يطلق الاتراك هذا الاسم على الاكراد) لم تتغير، والتضييق على الحريات والتمييز بين السكان على اساس المذهب والعرق والسيطرة على الثروات الوطنية واعتبارها ارثاً عائلياً، هي سياسات متبعة ومطبقة وتلقى الدعم الدولي في امارات الخليج العربي وممالكه.

وبعد الحديث عن مشاريع نقل النفط والغاز العربي الى أوروبا بدلاً من النفط الروسي وخرائط الانابيب التي ستخترق سوريا لتصل الى اوروبا مروراً بتركيا  لم يبقَ من حلم الربيع العربي بالنسبة للاكراد الا الاقتناع بأن درب الاستقلال وتقرير المصير بالنسبة اليهم لن يبصر النور في خضم هذا الكم الهائل من التدخلات الدولية والمصالح. والامل الابقى هو بالوحدة الكردية والتزام اجندة خاصة لا ترتبط بأية سياسات، اقليميةً كانت او دولية.

كاتب

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى