هل يدفع بوتين ثمن تأييده الأسد؟
بسليم نصار
يجمع الديبلوماسيون في موسكو على القول بأن رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين سيضطر الى مراجعة مواقفه السابقة المتصلبة، والى اعتماد ديبلوماسية أكثر مرونة من الديبلوماسية الصارمة التي يشرف عليها الثلاثي: لافروف وبريخودكا وأوشاكوف.
استغلت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون موضوع الانتخابات في روسيا، لتتهم فلاديمير بوتين بتزوير النتائج لمصلحته واضعاف شعبية منافسيه السياسيين.
كذلك وظفت التظاهرات الضخمة التي حملت ألوف الشبان والشابات الى الساحات العامة مطالبة باعادة الانتخاب واستقالة رئيس الحكومة بوتين ورئيس الجمهورية دميتري ميدفيديف.
وبدلاً من أن يتصدى وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف للرد على اتهامات تزوير الانتخابات… ركز في دفاعه على ادانة الدول الغربية وأساليب تعاطيها مع الملف السوري.
واعتبر لافروف ان الولايات المتحدة بالتعاون مع حلفائها الاوروبيين، تقوم بتحريض المعارضة السورية بهدف التسبب بكارثة انسانية دفعاً لتدخل خارجي. وعليه وصف الضغط المتواصل بأنه موقف “لا اخلاقي”.
هذا، وكان المندوب الروسي في مجلس الأمن، بالتنسيق مع المندوب الصيني، قد استخدما “الفيتو” لاسقاط مشروع قرار ادانة سوريا. لهذا رأى أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، ان الموقف الروسي يطيل أمد معاناة الشعب السوري الذي خسر في عشرة أشهر أكثر من خمسة آلاف قتيل.
في حال استمرت الولايات المتحدة في تشجيع قوى المعارضة الداخلية، فإن بوتين سيضطر الى نقض الاتفاق الذي عقده مع أوباما حول تحديد شروط التعاون. أي الشروط التي وضعها رئيس وزراء روسيا كقاعدة لتنظيم التعاون بين البلدين. وتتلخص هذه الشروط بثلاثة: أولاً- أن تكف واشنطن عن التدخل في شؤون النظام الذي أرسى بوتين دعائمه عقب سقوط يلتسين. ثانياً- ألا تتعاطى الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى، في الأجزاء التي كانت في السابق تابعة للاتحاد السوفياتي. ثالثاً- أن تعترف الادارة الاميركية بمكانة روسيا الدولية، وتعتبرها قوة عظمى مساوية لها في التأثير والقوة.
ادارة أوباما تتهم بوتين بنقض هذا الاتفاق لأنه في نظرها – أيد نظام الرئيس بشار الأسد، واستخدم تحالفه مع سوريا وايران لمواجهة مواقف الأسرة الدولية الداعمة لـ”الربيع العربي”. لذلك أرسل حاملة الطائرات “كوزنتسوف” الى المياه الاقليمية السورية كنوع من التحدي لحلف شمال الاطلسي. ومثل هذه الاجراءات، في نظر القيادة الاطلسية، تشكل عودة سريعة الى مناخات الحرب الباردة. خصوصاً بعدما أعلنت موسكو عن انشاء اتحاد جمركي – اقتصادي يضم روسيا وكازخستان وروسيا البيضاء.
وقد وعد الرئيس دميتري ميدفيديف بتوسيعه كي يشمل دول آسيا الوسطى. ومعنى هذا ان المرحلة المقبلة ستشهد ولادة قوة جديدة بقيادة روسيا تضم دول آسيا الوسطى الغنية بالثروات كالنفط والمناجم والمطلة على بحر قزوين.
يقول المراقبون أن الوفاق الاميركي – الروسي تصدع عقب زيارة بوتين لطهران سنة 2007. وكان بتلك الزيارة يسجل سابقة لأول رئيس روسي يزور طهران منذ اجتمع ستالين في هذه العاصمة بروزفلت وتشرشل. وبسبب عزلة ايران وضغوط العقوبات الغربية، احتفل الرئيس احمدي نجاد بضيفه على نحو غير مألوف. وقد وصف بوتين جاره الجنوبي بأنه يمثل سوقاً تجارية واسعة.
وعلى الرغم من اعتراض الدول الغربية، فإن بوتين وقع عقوداً بمليارات الدولارات ثمن صفقات عسكرية لايران، اضافة الى تعهد بتنفيذ مفاعل “بوشهر”. وعندما اعترض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على تفعيل المفاعلات الايرانية، أبلغه بوتين بأنه من حق نجاد تطوير طاقة نووي سلمية.
الرد الغاضب من قبل بوتين على انتقاد الوزيرة كلينتون، كان له ما يبرره في نظر رئيس الحكومة الروسية. وهو يتطلع الى اداء بوش وأوباما كسياسة اميركية منهجية للمس بنفوذه. ففي سنة 2005 زار ديك تشيني ليتوانيا، حيث ألقى خطاباً هاجم فيه بوتين شخصياً لعدم وجود ديموقراطية في بلاده.
وبعد الحرب الاهلية في جورجيا، قام نائب الرئيس الحالي جو بايدن بزيارة هذه الدولة المتاخمة لروسيا، ووعدها بالدعم السياسي والعسكري لمواجهة تسلط الجارة الكبرى.
في أحد اللقاءات السياسية بين أوباما وبوتين، حاول الزعيم الروسي انشاء علاقة وثيقة مع الرئيس الاميركي من طريق ابراز الفرق بين نظام الاتحاد السوفياتي والنظام الذي يعمل بوتين على نشره. وقال له ان النظام الشيوعي السابق نشر عقيدته على حساب مصالح اميركا المركزية. وأظهر له أن خلافاتهما الحالية تبقى في حدود المصالح القابلة للتسوية.
ويبدو ان أوباما لم يأخذ بهذه النصيحة، بدليل انه ظل يتعامل مع العهد الجديد بطريقة عدائية لا تختلف عن تعامل ايزنهاور وكينيدي ونيكسون في عهود ستالين وخروتشيف وبريجينيف.
ولكن خصوم بوتين لا يتفقون معه حول هذا الاستنتاج لاعتقادهم بأن روسيا في عهده تخلت عن دورها السابق كدولة تدعم حركات التحرر وتناصر الجماهير الشعبية. والشاهد على ذلك ان “حزب روسيا الموحدة” ناهض حركة “الربيع العربي” وأيد بقاء القذافي ضد المجلس الانتقالي الليبي. ولما حصل الاعتراض المتأخر، أعلن ممثلو شركة النفط الغاز الوطنية الليبية ان روسيا والصين قد لا تحصلان على عقود جديدة جراء دعمهما نظام القذافي.
ومثلما تعثرت موسكو في حسم موضوع ليبيا، فهي حالياً تظهر بعض التعثر والارتباك في موضوع الدفاع عن الرئيس بشار الأسد. علماً بأن الوزير لافروف لم يخف قلقه من رفض الدول الغربية ممارسة الضغط المطلوب على الجانب المتطرف والمسلح في المعارضة. وشدد في مؤتمره الصحافي على الحاجة الى معالجة الأزمة السورية من خلال المبادرة العربية، ومن دون انذارات متواصلة للقيادة في دمشق.
وأكد لافروف ان بلاده تعارض فرض عقوبات ضد سوريا، “لأن التجارب علمتنا ان مثل هذه العقوبات لا تحقق النتائج المرجوة”. والمعروف ان روسيا ترتبط مع سوريا بعقود ضخمة أبرزها في مجال التسلح. وقد ألغت موسكو ديون سوريا البالغة عشرة مليارات دولار، مقابل عقد صفقة تقود الى تطوير سلاح الطيران والصواريخ. ولكن هذا لم يمنع ابعاد سفيري روسيا في ليبيا ومصر. كما لم يمنع لافروف من تقليد موقف ا يران الداعية الى تلبية المطالب المشروعة للمحتجين السوريين، والى العدول عن سياسة اراقة الدماء.
يجمع الديبلوماسيون في موسكو على القول ان بوتين سيضطر الى مراجعة مواقفه السابقة المتصلبة، والى اعتماد ديبلوماسية أكثر مرونة من الديبلوماسية الصارمة التي يشرف على تنفيذها الثلاثي: لافروف وبريخودكا وأوشاكوف. والدافع الى هذا التغيير – حسب المراقبين – حاجة بوتين الى الرئاسة لدورة ثالثة يحقق خلالها أحلامه. واللافت ان رئيس الحكومة بدأ يتصرف كرئيس جمهورية منذ أعلن شريكه في المسرحية، ميدفيديف، ترشيحه لانتخابات آذار المقبل. ومعنى هذا ان فترة التغيير المطلوب تحقيقها عبر شهرين فقط، قد لا تكون كافية لاقناع الشعب بأن الانجازات التي تمت في عهده تبرر لجهازه الانتخابي ما اقترفه من تجاوزات. علماً بأن آلاف المتظاهرين رددوا شعارات طالبت برحيله من الكرملين، والقضاء على حكم “حزب اللصوص” الذي فاز بـ238 مقعداً من أصل 450 في مجلس الدوما. كتب غاري كاسباروف، رئيس جمعية دعاة الديموقراطية، وبطل لعبة الشطرنج سابقاً، مقالة في جريدة “التايمز” اللندنية، دعا فيها الغرب الى تأييد الشعب في اسقاط الحاكم الذي استخدم التسلط والتزوير للحفاظ على مكاسبه.
ومثل هذا الاقتراح قابله الحزب الحاكم باتهام الولايات المتحدة وحلفائها، بالتدخل في شؤون روسيا الداخلية. علماً بأن “جيل الانترنت” في ليبيا ومصر وسوريا، ليس بحاجة الى تدخل خارجي كي يعبر عن مواقفه الجريئة.
بعض كتاب سيرة حياة بوتين لا يأملون خيراً في المرحلة المقبلة، كونه استخدم العنف للتخلص من منافسيه وخصومه. وبما انه وصل الى الحكم من مركز الاستخبارات (كي جي بي)، فإن تراجعه عن سياسته قد يبدو صعباً. لذلك يتوقع دعاة التغيير، ان يقدم على اتخاذ خطوات حازمة بحق مستشاريه الذين سيضحي بهم لانقاذ حكمه.
في حين يرى خصومه ان هذا الاخراج الممجوج لم يعد ينطلي على المتظاهرين الذين قرروا اسقاطه في الشارع من الآن حتى موعد انتخابات الرئاسة في آذار.
الملاحظ ان الشعب الروسي تعرف الى ثورة الالوان التي عصفت بجورجيا واوكرانيا وقيرغيستان. وهو حالياً يحمل اللون الابيض كرمز لموسم الثلوج الذي يغطي شوارع المدن ومنازلها. وقد تم توزيع الاشرطة البيضاء على المحتجين والمحتجات بغرض التدليل على لون “الثورة البيضاء” التي يحملونها ضد بوتين وحزبه. واللون الابيض يخالف اللون الاحمر الذي تميزت به ثورة لينين وتروتسكي وستالين، والتي اقامت نظاماً استمر سبعين سنة. وبما ان بوتين ولد من رحم تلك “الامبراطورية” قد يدفعه الى القيام بمغامرة عسكرية كالتي قام بها رئيس الـ”كي جي بي” ضد غورباتشيوف. عندئذ تدخل يلتسين لانقاذ “الثورة على الثورة”. ومثل هذا الوضع قد يتكرر اذا واصلت الدول الغربية تأجيج المشاعر ضده، الامر الذي يشجعه على سحق المتظاهرين مثلما فعل القيصر نيكولا الثاني في بداية الثورة.
المفكر الالماني الكسندر راهر، كاتب سيرتي غورباتشيوف وبوتين، يقول ان الروس اجبروا على تبني العقيدة الشيوعية مدة طويلة من الزمن. ولما انهار ذلك النظام، تبنوا النموذج الرأسمالي الديموقراطي. ولكن هذه النقلة النوعية لم ترسخ في اذهانهم كنموذج وطني خاص منبثق عن دورهم الريادي، لذلك من المتوقع ان يكون التغيير صعباً ودموياً، لان احفاد ايفان الرهيب وستالين، لا يقبلون بأقل من قبضة الفولاذ شعاراً لحكم أكبر دولة مساحة في العالم!
النهار