هل يشهد عام 2016 انكفاءً إيرانياً؟/ غازي دحمان
بعد انقشاع ضباب الاتفاق النووي بين إيران والغرب بدأت تنجلي صورة مختلفة في المنطقة بعد أن راح جزء كبير من المشهد يتفكك شيئاً فشيئاً، وكان توجيه الأنظار طوال الفترة الماضية صوب عواصم القرار وملاحقة أخبار الاتفاق قد غيّب كثيراً صورة الوضع في المنطقة وتحديداً في مقلب ما يسمى حلف إيران، حينها لم تتسنّ قراءة المشهد على حقيقته خارج تهويلات إيران وحلفائها حتى من قبل خصوم هذا الحلف وأعدائه.
وبالتزامن مع الاتفاق انطلقت جملة من التقديرات التي روّجت لعهد إيراني جديد ومختلف قوامه سيطرة كاسحة للأدوات الإيرانية على المنطقة، وبنيت جميع تلك التقديرات على فرضية أنّ الطرف الذي يواجه إيران لم يكن يتبنى استراتيجية واضحة ومحددة لمواجهتها، وانحصر سلوكه بمجرد ردود فعل آنية وضربات هنا وهناك، في حين كانت للمشروع الإيراني إستراتيجية وأدوات تنفيذ وبرنامج وموارد، أو على الأقل هكذا كان في نظر خصومه، لكن يتضح أن تلك التقديرات وقعت ضحيّة الدعاية السياسية الإيرانية التي قدمت معلومات جاهزة لم يتم تفحّص حقائقها، وبالتالي إسقاط جملة من الحقائق: أولها أنّ الضربات التي تلقاها المشروع الإيراني، وإن كانت متفرقة، فقد ساهمت بدرجة كبيرة في تثخين جروحه وإنهاك جسده، والحقيقة الثانية أنّ المشروع الإيراني بدأ يواجه بالفعل قوة منظمة تجلت في «عاصفة الحزم»، والحقيقة الثالثة أن هذا المشروع جرى استنزاف احتياط قوته الإستراتيجية (نظام الأسد و «حزب الله» والميليشيات العراقية واليمنية) وعلى المستويات العسكرية والاقتصادية، عبر تفاصيل وتكتيكات هامشية وبقوة احتياطية، في حين ما يزال خصومه يحتفظون بفائض قوتهم الأساسية.
وللمفارقة فان الاتفاق النووي الذي ادّعت القوة الحليفة لإيران أنه سيشكل متغيراً فارقاً على صعيد توازنات القوى، هو نفسه الذي كشف عن تهافت قوة إيران، حيث صار مطلوباً منها، وبشكل ملحّ، تسييل هذا المتغير في الوقائع الميدانية وترجمة عوائده السياسية ما أمكن، وعند هذه النقطة انكشفت صورة المشهد أكثر للعالم ولأهل المنطقة بأن المشروع الإيراني دخل مرحلة الضعف منذ زمن من دون أن يلتفت أحد، ربما باستثناء دوائر صنع القرار الغربي التي كانت تملك تقديرات أكثر دقّة عن حقيقة قوة الحلف الإيراني ومقدار تراجعها، وقد يكون ذلك وراء تصريحات مدير وكالة الاستخبارات الأميركية جون برينان التي قال فيها إن «الولايات المتحدة لا ترغب في انهيار نظام بشار الأسد»، وهذا يعني أن أدوات المشروع الإيراني من صنعاء وبغداد إلى دمشق وبيروت صارت تحت مظلة الغرب، ليس بهدف حمايتها أو رعايتها، إنما بانتظار تحقيق تسوية لإخراجها من المشهد وضمان حماية بيئاتها، وهو ما فسره بشكل واضح بعد أيام كلام وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند «لا نرغب في سقوط نظام بشار الأسد، إنما نريد مرحلة انتقال سياسي».
وفي الوقائع صدرت عدة مؤشرات عن انكماش وتراجع قوة المشروع الإيراني ودخوله في مرحلة النهايات:
المؤشر الأول: نضوب الموارد البشرية التي تشكل الأداة الأساسية في توسع هذا المشروع، وقد أقر أحد أركان هذا المشروع، بشار الأسد، بهذه الحقيقة، وهو عندما فعل ذلك لم يكن يتحدث عن مشكلة ساحة واحدة. طبيعي أنه يتحدث عن جسم المحور كله باعتبار سورية أحد أركانه، ذلك أن طهران بعد أن حشدت جميع مواردها التي راهنت عليها، اتبعت إستراتيجية أدت إلى استنزافها من دون تحقيق جدوى مهمّة، فقد لوحظ عند مفاصل ومحطات معينة من الصراع تكثيف إيران لتحشيد أدواتها في معارك موضعيّة ذات أهداف أنية، كالفترة التي سبقت إعادة انتخاب بشار الأسد، وكذلك ربيع هذا العام عندما كانت المعركة الدبلوماسية النووية على أشدها.
المؤشر الثاني: حالة النزق والاستعجال التي باتت تنطوي عليها سلوكيات إيران وأذرعها، وذلك يتجلى من خلال مظاهر عديدة، مثل عمليات الإبادة العلنية التي ازدادت وتيرتها في سورية، وعملية خلط الأوراق عبر استهداف الجولان، وعمليات التطهير العرقي والطائفي في غلاف دمشق، كل هذه المحاولات تؤشر إلى أنّ إيران تسعى إلى التعجيل بإحداث متغيرات تستند إليها لتقوية مواقفها، أقله في الوقت الراهن، بانتظار حصول متغيرات تستفيد منها، ويندرج في هذا الإطار أيضا ما يسمى «مبادرة إيران» لحل الأزمة السورية وكذلك الموافقة على خطة دي ميستورا، وكذلك مساعي روسيا كلها تنطوي في إطار شراء الوقت الإضافي علّ ذلك يساهم في حصول تطورات تغيّر المعادلة.
ولعلّ الإشكالية التي باتت تواجه طهران تتمثل بخروج غالبية أذرعها من حقل المساومة وعدم فعاليتها في هذا المجال، فمن يساوم بعد على منظومة فوضوية مشتتة غارقة في الهزائم مثل منظومة الأسد؟ وكيف يمكن صرف وضع «حزب الله» في السياسة والمساومة الحاصلة في سورية وهو يحتاج لمن يخرجه من هذه الورطة؟ والأمر نفسه ينطبق على المنظومة الحوثية الآيلة إلى التفكك. بالأصل ليس مطروحا أمام هذه التشكيلات سوى طريقين إجباريين، إما استمرار النزف حتى السقوط في الميادين، وإما الخروج والنجاة بأنفسهم من دون أي أثمان سياسية.
يبقى أن المشروع الإيراني يمثل نمطاً من المشاريع الصلبة التي تكون مصممة باتجاه واحد لا تعرف المرونة والتعديل وإعادة التقويم، بل يجري الإصرار على اتباع النهج ذاته عبر ترقيعه وتغذيته موسمياً، تارةً بمقاتلين من آسيا وتارةً أخرى بما يتيسر من عوائد نفطية. بناء على ذلك يصعب وضع تقديرات سياسية صحيحة عن خطواته القادمة، لكن المؤشرات الميدانية تشير إلى قرب انتهاء طاقة هذا المشروع واستنفاد جهوده، وأنّ ما يملكه من إمكانات تكفيه لفترة محدودة سقفها أشهر وليس سنوات.
* كاتب سوري
الحياة