هل يطوي الوطنيون العرب أحلامهم؟/ غازي دحمان
ينطوي العمل الوطني في العالم العربي على تعقيدات هائلة، تبدو أمامها تنظيرات المفكرين وطموحات السياسيين أشبه بحالة انفصال عن الواقع، أو، في أحسن الأحوال، ممارسة أنماط من التبشير تتصادم مع الحقائق، ولا تصمد أمام الواقع، لتجاهلها المعطيات التي تصنع الحاضر وتوجه المستقبل.
يقول الواقع إننا أمام بلاد أنجزت عمليات تفكّكها، واتجهت إلى مرحلة البلورة الكيانية الجديدة، وعملية تفكّكها تلك لم تحصل بسبب العنف وحده، على ما تصور التحليلات، بل جاءت متناسبة مع تصورات نظرية وحقائق ديمغرافية وسياسية حاكمة. أي أنّ ما حصل نتيجة عملية تصحيحية لأوضاع منحرفة، جرى خلالها استخدام آليات عديدة لإنجاز هذه الحالة. وكان العنف واحداً منها. وفي النتيجة، تخلصت هذه الكيانات من أوهام حملتها كأعباء عقوداً طويلة ما بعد الاستقلال، ولم تستطع هذه الأوهام صناعة تاريخ مختلف، بقدر ما كانت وسيلة لاستعباد البشر في إطار حرب أهلية دائمة، اتخذت الإخضاع هدفا لها، وتمظهرت في صيغة الغالب والمغلوب.
تبدو، اليوم، الحقائق عارية من كل ما تلفعت به، لتشكّل حائطاً صلباً وقطوعاً صادماً أمام سردية أحلام التغيير التي شكّلت محفّزاً لكثيرين من أبناء العالم العربي، في إطلاق الثورات ومواجهة المخاطر. فقد تبين أن ما أرادوا الوصول إليه تكشّف أنّه أمر غير ممكن، بسبب افتقاد القدرة على تطوير الواقع إلى ما هو أفضل، فلا يمكن الانطلاق نحو الحرية والمساواة والتطور في كياناتٍ أصلاً غير مؤهلة لاستيعاب مثل هذه القيم وتوطينها، بل إن استعدادات مكوناتها للذهاب إلى الانفصال أقوى، إذا شعرت أن مواقعها في معادلة الحكم سوف تتغيّر، وأن درجة تمسكها بالأوطان تحدّدها حساباتها لحصصها في الموارد والمناصب، وفي حال ما تأثرت هذه، فلا حاجة لها بالوحدة أصلاً، ولا حاجة لها في الاستمرار في أوطانٍ، لا تحصل فيها على المزايا المرغوبة.
اليوم، يتكشّف أنّ هذه الكيانات يمكن أن تستمر موحّدة في حالة واحدة، هي تحقق شرط الإخضاع من مكون لمكونات أخرى، وهو ما تنبّه له روبرت كابلان الذي دعا إلى عودة الإمبريالية لاستعادة النظام بلداناً دمرتها الفوضى. وعلى الرغم من غرضية أطروحة كابلان التي يشتم منها محاولة لتبرئة الغرب من تأسيسه حالة الفوضى، إلا أنّ الحقيقة أنّ هذه البلدان تفتقر إلى العوامل التي يمكن الاعتماد عليها لصيانة الوحدات الوطنية فيها، فلا هي تمتلك حوامل حقيقية للوحدة، ولا شروط تحقّقِها موجودة في ظل سيطرة نخب سياسية مستبدّة، ولا تملك المبادرة لتطوير بلدانها، ونقلها إلى وضعيات أفضل.
وهنا ثمة من يلجأ إلى طرح سؤال اقتراضي وإشكالي، ليس له هدف سوى الهروب من الواقع، أو التملص من الاستحقاقات التي رتبتها التغيرات الحاصلة، وهو: هل كان من الأفضل للمجتمعات العربية البقاء ضمن معادلة الحكم السابقة، والقبول بالواقع على علّاته، بدل الاندفاع وراء أحلام التغيير الطوباوية؟
“هل كان من الأفضل للمجتمعات العربية البقاء ضمن معادلة الحكم السابقة، والقبول بالواقع على علّاته، بدل الاندفاع وراء أحلام التغيير الطوباوية؟”
الجواب المنطقي أنّ ذلك لم يكن ممكناً، على الرغم من كارثية النتائج، ولا تتحمل الشعوب التي اندفعت إلى تغيير واقعها، بعد أن تجمّدت مستقبلاتها، وافتقدت أي بدائل ممكنة للعيش الآدمي، ولا يلام الشباب الذي لم يبق أمامه من خيارات سوى الغرق في البحار، بحثاً عن فرص للعيش أو الموت في بلدان تتقاسمها مراكز القوى ومافيات الفساد. بالنسبة لهؤلاء، كان الدمار حاصلاً، سواء باستمرار صيرورة التهميش والإفقار والاستبعاد، أو بعمليات العنف التي ستقوم بها الأنظمة ضدهم.
لكن، بالعودة إلى السؤال الرئيس: هل نطوي أحلامنا، ونقبل بما تفرضه القوى التي ثرنا عليها، والتي تشترط بقاءها في الحكم أو الذهاب إلى تفتيت الأوطان وضياعها، بعد أن مارست الجنون بكل أصنافه على جسد شعوبها وأوطانها؟ هل نستسلم للوقائع الجارية وحاكميتها؟ يقول الواقع إنّه لا أحد يدافع عن فكرة الوطن الموحد في سورية واليمن وليبيا والعراق، فالصراع يجري الآن من أجل تحصيل مساحات أكبر وموارد أكثر. وفي جميع هذه الأوطان، لا يبدو وجود مآلات واضحة لأزماتها، والحديث عن استعادة الوحدة يبدو تبشيرياً أكثر منه واقعياً، ويوماً بعد آخر تترسخ معادلات القوة وموازينها، ولا يوجد ما يعارض هذا الأمر في الواقع، وما تمر به هذه الكيانات يشكّل قطوعاً خطيراً، وليس ثمّة ما يؤكد إمكانية استعادة الأمور بالضرورة إلى ما كانت عليه قبل الأحداث؟
في تجارب التاريخ المعاصر أنّ أوروبا مرّت بما هو شبيه بحالتنا العربية، حيث استمرت الحروب الدينية فيها بصورة متعاقبة 131 سنة بين عامي 1517- 1648، وجرت في بقاع واسعة، وحصلت فيها عمليات إبادة لمناطق بكاملها، كما أن الثورات التي حصلت في أوروبا سنة 1848 فشلت جميعها، على الرغم من توفر ظروف الثورة وأدواتها. ويقول المؤرخ أ. ب. جي تايلور عن تلك اللحظة إن “التاريخ بلغ منعطفاً، ولكنه لم ينعطف”.
يدفع ذلك كله وسواه إلى الأمل بأن الحلم ما زال ممكناً، فوسط مناخ الإحباط لم تزل القوة التي فجرت الثورة تقاتل بعناد على جبهات عديدة. صحيح أنها ضعيفة في معادلة القوة الموجودة، والتي يشكل مكونات الاستبداد والظلام عناصرها الفاعلة، لكنها القوة الوحيدة التي تملك مشروعاً عقلانياً وواعياً، ومن شأن صمودها أن يحوّلها إلى القطب القادر على إنقاذ الواقع والانطلاق صوب التغيير، وهي القوة الوحيدة التي تجعل غالبية المكونات محكومة بالسير وراءها، لأنها تملك ما هو أكثر من الحلم، مفاتيح الخروج من تحت الركام.
العربي الجديد