صفحات العالم

هل يقرأ السوريون التاريخ؟


محمد خليفة

الوضع في سوريا بلغ مرحلة حرجة، والحدث الأكبر نهاية هذا الأسبوع هو مقتل وزير الدفاع السوري ونائبه ورئيس خلية الأزمة . وأصبحت سوريا ساحة مفتوحة على مفاجآت قادمة قد لا يحسمها نزاع القوة الدولية، بل الشعب السوري . ومع ذلك، فإن السجال الذي يدور اليوم على سوريا، هو ذاته السجال الذي كان يدور قبل الحرب التي شنت على العراق، إلا أن الاتجاهات لاتزال متباينة والموقف المباشر العسكري ليس محسوماً في سوريا . ويقول المحللون العسكريون إن الأحادية والضربات العسكرية ضد سوريا مستبعدة، لأن تدخل الولايات المتحدة في العراق تم في صورة حرب وقائية قررتها أمريكا من طرف واحد، وهذا لا ينطبق على سوريا . وقد استبعد وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا، في معرض حديثه عن أزمات تشهدها منطقة الشرق الأوسط، التدخل العسكري في سوريا، بالرغم من طلب المعارضة ذلك، وقال إن الوقت غير ملائم لتسليح المعارضة السورية، ومع تزايد الأدلة على وجود قِوى إسلامية متشددة بين صفوف المعارضة السورية . ودافع بانيتا عن قرار الإدارة الأمريكية بعدم تسليح المعارضة السورية وأوضح: “اتخذنا قراراً بعدم تقديم مساعدات قاتلة في هذه المرحلة، وأعرف أن آخرين اتخذوا قراراتهم الخاصة بهم” . وأضاف بانيتا: “إن بلاده يساورها القلق من احتمال أن الصواريخ المضادة للطائرات، التي تطلق من فوق الكتف والتي سرقت من ليبيا، يمكن أن تجد طريقها إلى سوريا” . أما وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، فقد صرحت بأنه يجب العودة إلى مجلس الأمن من أجل تطبيق الفصل السابع الذي ينص على فرض عقوبات أو اللجوء إلى القوة العسكرية . ووزير الخارجية البريطاني وليام هيغ صرح أنه يجب عدم استبعاد أي خيار في سوريا، مؤكداً الحاجة إلى قرار يتخذه مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع .

نأمل ألا يتكرر سيناريو التدخل العسكري في العراق، فما وصلت إليه الأحوال فيها لا يمكن أن يسرّ غير الأعداء، ولنا عبرة من التاريخ أيضاً؛ ففي أواخر عهد المملكة الحميرية دخلت المسيحية إلى اليمن، وانتشرت في نجران خصوصاً، واستقام أمرها فيها، وأنشأ المسيحيون الكنائس، وكانت الحبشة المجاورة لبلاد اليمن على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر، قد اعتنقت المسيحية منذ القرن الرابع الميلادي، وأصبح ولاؤها للإمبراطورية الرومانية المسيحية . وكانت بلاد اليمن ذات حضارة عريقة، وكان عموم أهلها يعبدون القمر والنجوم . وقرر النجاشي ملك الحبشة نشر المسيحية في اليمن، فأرسل الدعاة إلى هناك للتبشير . لكن ملك اليمن آنذاك يوسف ذو نواس، خشي من أن يؤدي انتشار المسيحية إلى فقدان بلاد اليمن استقلالها، وتصبح تابعة للحبشة بحكم الاشتراك في العقيدة . لذلك قرر هذا الملك اعتناق الدين اليهودي، وأمر جميع أبناء شعبه باعتناق هذا الدين . ولم يكتفِ بذلك، بل سار بجيشه من عاصمة ملكهِ ظفَارْ إلى منطقة نجران المسيحية، فأمر بحفر أخاديد في أرضها وبإضرام النار فيها، وأرسل في طلب المسيحيين فوُضِعوا في هذه الأخاديد . وعندما بلغ النجاشي ملك الحبشة ما فعله ذو نواس بأتباع المسيح عليه السلام، وما لاقوه من أصناف العذاب والتحريق بالنار، ثارت ثائرته، وقرر الانتقام من هذا الملك . فأرسل جيشاً بقيادة أرياط بن أصحمة سنة 525 للميلاد، فقابله ذو نواس في جيش كبير، لكن الأحباش انتصروا وانهزم ذو نواس . غير أن ذو نواس لم يطقِ الهزيمة، فدخل بفرسه في البحر ومات غرقاً . ومَلكَ أرياط على اليمن عشرين سنة، ثم وثب عليه أبرهة الأشرم فقتله ومَلكَ اليمن . وقام أبرهة ببناء هيكل في صنعاء لكي يصرف به الحجاج عن مكة، وقرر أبرهة هدم الكعبة ونشر المسيحية، لكنه لم يوفق وهلك سنة 574 للميلاد، وهلك بعده أخوه مسروق بن أبرهة، وكان ظالماً، فاشتدت وطأته على اليمن، وعم أذاه سائر الناس . وخاف أشراف اليمن وكبراؤه أن يستمر حكم الأحباش في اليمن، فيغلب العنصر الزنجي على العنصر العربي فيه، فاجتمع هؤلاء إلى سيف بن ذي يزن سليل الأسرة الحميرية، وسألوه النجدة، فركب سيف بن ذي يزن البحار، ومضى إلى قيصر يستنجده، لكن قيصر أبى النجدة لأن الحبشة تابعة له، وعندها مضى إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس، ورأى كسرى في ذلك فرصة لتوسيع نفوذ الإمبراطورية الفارسية في تلك الأرجاء . لكن كسرى كان مشغولاً آنذاك بحرب الروم، فمات سيف بن ذي يزن من دون أن يستطيع تحقيق حلمه بطرد الحبشة من اليمن . فقام بعده ولده معديكرب بن سيف، وقصد كسرى أنوشروان يطلب منه تنفيذ وعده لأبيه سيف بن ذي يزن . عند ذلك وجّه كسرى معه أحد قواده واسمه وهرز، وقال كسرى لوهرز: “إن فتحوا لنا، وإن هلكوا فلنا، وكلا الوجهين فتح” . فحملهم وهرز في السفن عبر دجلة ومعهم خيولهم وعددهم وأموالهم، فساروا حتى أتوا ساحل حضرموت، فخرجوا من السفن، وأمرهم وهرز أن يحرقوا السفن ليعلموا أنه الموت، ولا وجه يؤملون المفر إليه لكي يقاتلوا بشدّة . وسمع ملك اليمن مسروق بن أبرهة بخبرهم، فأتاهم في مئة ألف من الحبشة، وغيرهم من حمير وكهلان ومن سائر مَنْ سكن اليمن من الناس . والتقى الجيشان، فانهزمت الحبشة وقتل مسروق وخواص الحبشة ورؤساؤهم، وسيطر الفرس على اليمن . وقام وهرز بتنصيب معديكرب ملكاً، لكنه أبقى في اليمن حامية عسكرية فارسية . وكان كسرى أنوشروان قد اشترط على معديكرب لقاء مساعدته شروطاً، منها أن الفرس تتزوج باليمن ولا تتزوج اليمن منها، وأن يدفع خراج اليمن إليه . وكان معديكرب قد اتخذ من جيش الحبشة السابق ممن لم يهلكوا في الحرب حرّاساً له . لكن هؤلاء لم ينسوا ما فعله معديكرب وحلفاؤه الفرس بهم وبملكهم، لذلك قتلوه . وتدخلت الحامية العسكرية الفارسية على الفور، وقَتَل جنودُها جميعَ الجنود الأحباش، وعيّن كسرى والياً فارسياً على اليمن، وتخلّص اليمن من حكم أجنبي لكي يقع تحت حكم أجنبي آخر . وظل اليمن تحت الحكم الفارسي حتى انتصر العرب المسلمون على الفرس في معركة القادسية عام 16 للهجرة 637 للميلاد . وكان آخر من حكم اليمن من الفرس هو بازان بن ساسان، فعاد اليمن عربياً وتحت السيادة العربية الإسلامية .

لكن ما حدث لليمن قديماً أو للعراق حديثاً، قد يحدث لسوريا الآن . ونتمنى ألا تسعى المعارضة السورية إلى طلب النجدة للأسباب نفسها التي دفعت كسرى أنوشروان إلى مساعدة معديكرب . ولنا في العراق مثال كيف أصبح مستباحاً، وأصبح العراقيون الشرفاء يسامون سوء العذاب، ويقتلون من دون ذنب اقترفوه؛ وبات العراقيون بحاجة إلى قوة أخرى تنقذهم من المآسي المفجعة، والمظالم الفادحة، ومن فقر مدقع وخراب مفزع؛ مدنهم حوّلتها قاذفات الصواريخ والطائرات إلى أنقاض وأطلال تتعالى فيها ألسنة اللهب، حتى أضحت خبراً بعد عين . وكل هذا حدث ويحدث على الساحة العالمية تحت أنظار العالم الغربي “المتحضر” وبفعل قِواه “التقدمية الإنسانية” .

على الشعوب العربية إصلاح واقعها الذي يتمثل في معرفة ماضيها، وبناء شخصيتها، وتحقيق نوع من التكامل، والبحث عن نقاط الالتقاء، والقفز فوق تمزقاتها الداخلية وتشنجاتها السياسية، والارتفاع بالسياسة إلى مستوى إنساني أخلاقي علمي يُسهم في بناء إنسانية جديدة قائمة على تعاون حرّ بين أمم حرة، .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى