هل يكون “جنيف ـ2” يالطا جديدة؟
غازي دحمان
بينما تثبت الربيع العربي على وعد بالتغيير، كانت مصالح الدول وتوجهاتها تشهد حراكاً واسعاً على مروحة ضخمة من الخيارات والممكنات، وما حدث أن الفترة الفاصلة بين انطلاقة الربيع العربي واللحظة كانت كافية في تفاعلاتها الدولية لإنجاز تموضعات نهائية في المواقع وتبلور للمصالح. وإعادة تعريف الفرص والمخاطر ونمط الاستراتيجيات الممكنة وجدواها وتكاليفها.
وتشي التفاهمات والترتيبات الجارية بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بأن الطرفين قد أنجزا الإطار النظري لصيغة التفاهم التي رست عليها مداولاتهما العلنية والسرية، وجرى تحديد نقاط الاتفاق والقواسم المشتركة، وخرائط النفوذ وحدود وتخوم التلاقي والافتراق، كما جرى الاتفاق على مناطق المبادلة، ومناطق الإدارة المشتركة، والمناطق الخاصة أو ذات النفوذ الحصري.
اليوم بتنا أمام حالة، لم تعد الأطراف السورية، بشقيها، الثوري والنظامي، تملك هامشاً كبيراً، الأمر الذي يشرعن إعادة طرح سؤال هل كان سياق الاستجابة الدولية للحدث السوري سياقاً بريئاً بكامله، أم أنه خضع في بعض مفاصله إلى عملية بناء واعية ومنظمة، وبخاصة في ظل صورة المآلات التي توصلت إليها القوى الفاعلة من إعادة لتوزيع الحصص وتقسيم الأدوار، لتكريس المكاسب، والاتفاق على حدود جديدة وقواعد عمل جديدة في سير النظام الدولي، وتحديد الفرص والمخاطر والإمكانيات؟.
على ذلك، تبدو جنيف2 فاتحة عهد عالمي جديد أو منبراً للولوج لهذا العالم، ليس على حساب سوريا والمنطقة وحسب، على ما يعتقد الكثيرون، بل حتى أن ثمة قوى كبيرة ووازنة أدركتها الفرصة ووجدت نفسها خارج أطر الاتفاق الأميركي الروسي، منظومة البريكس التي أنشأتها موسكو على عجل لتقوية موقفها التفاوضي، وأوروبا القارة العجوز التي تلطت واشنطن خلفها طوال الأزمة، فالاتفاق، على الأقل في مراحله الأولى، لا يتسع سوى للأميركيين والروس، ولعل هذا ما يفسر النزق الأوروبي، ومحاولة استعجاله إرباك الترتيبات الأميركية- الروسية، عبر إعلان رفع قرار حظر التسلح عن المعارضة السورية.
جنيف 2، هو بمثابة يالطا الجديدة، بموجبها سيتم إعادة صياغة الاستراتيجية العالمية، وتحديداً منها مسار وتوجهات الاستراتيجية الأميركية في المرحلة المنظورة المقبلة، بمساعدة روسية بوصفها قوة ثانية يمكن تحميلها جزءاً من تنفيذ هذه الاستراتيجية، ما يذكرنا بالدور الياباني والكوري الجنوبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتحويلهما إلى أحد عناصر الاقتصاد الأميركي وتوسعته عمودياً باتجاه أسواق آسيا.
إن أي محاولة لفهم التوجهات الأميركية في المرحلة القادمة وأدوارها المحتملة، لا بد أن تنطلق من معطيين باتا يعبران عن نفسيهما بجلاء في الخطاب السياسي الأميركي، وهما وصول أميركا إلى حالة من الاكتفاء النفطي وتخلصها، أخيراً، مما كان يطلق عليه سياسيوها “استعباد النفط” وبالتالي فإن النفط ومناطق إنتاجه باتا خارج خطوط استراتيجياتها. في مقابل ذلك، ثمة نزوع أميركي شديد للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية التي تهدد وضع أميركا العالمي وموقعها، وهذا الخروج يتطلب ليس فقط البحث عن خطوط صادرات جديدة، وإنما أيضاً التفرغ للقوة الصينية الناعمة التي تشكل الخطر الأكبر على متابعة مسار التفوق والحلم الأميركي.
في هذه الحالة يبدو المحيط الهادئ مرسى السفن الأميركية القادم، وتوجه بوصلتها الحقيقي، فيما تتراجع بقية المناطق الأخرى في سلم الاهتمامات والأولويات إلى درجة أدنى، في هذه الحالة تحتاج أميركا إلى تلزيم المناطق الأخرى لقوى دولية أقل درجة في القوة، ويمكن دمجها بطريقة أو أخرى في إطار الاستراتيجية الأميركية، في هذا الإطار تبدو روسيا صاحبة الطموحات الاقتصادية والجيوسياسية الإقليمية والتي تعرض خدماتها بطريقة مداورة شريطة أن يتم الحفاظ على شرايين حياتها الاقتصادية والتي تتمحور حول ضمان تصدير نفطها وغازها إلى أوروبا، وعرقلة أي مشروع استراتيجي قد يؤثر عليها، مثل احتمال مد خطوط النفط والغاز الخليجي إلى الأراضي السورية ونقلها إلى أوروبا.
القضية إذاً، لا تخرج عن كونها ترتيبات أميركية خرجت من دون ضجيج، استراتيجية أميركية هادئة، تبلورت على ضوء دراسة هواجس القوى المختلفة والفرص والمخاطر التي يتيحها الظرف الدولي الحالي، مع مزاوجة الإمكانيات المتاحة لتطبيق هذا النمط الاستراتيجي، الفرق بين أميركا والقوى الأخرى أن الأزمة السورية هددت مصالح هذه الأخيرة بطريقة أو أخرى، وجميع هذه القوى، روسيا وأوروبا، اشتغلت تحت وقع تهديد تداعيات الأزمة على أوضاعها ودواخلها ولم تملك رفاه التنقل بين خيارات متعددة، وبناء عليه فإن استجابات أغلب الأطراف صدرت عن توتر مشوب بنزق الخوف من التداعيات.
لقد قرأت روسيا الحدث السوري من زاوية مصلحية مباشرة، تنطلق من رؤيتها لأمنها الاقتصادي القائم على بيع الغاز لأوروبا وبيع السلاح للنظام السوري، وروسيا لم تحقق المكاسب التي جرى الحديث عنها، سوريا كانت ملعبها، والتفاوض جرى على ملعبها ومن كيسها، وهي في النهاية تكسب أرضاً خربة وذات قيمة استراتيجية تعادل الصفر، فقط روسيا تعتقد أنها بتشبثها بنظام الأسد تمنع تحول الموانئ السورية إلى معبر للغاز المنافس لغازها، وهي تعتقد أنها، وبمساعدة إيران سدت هذا الاحتمال حتى من العراق والأردن، لكن مقابل ذلك سيُطلب منها الكثير من الإجراءات، وللحفاظ على الجرح الاستراتيجي السوري ستنزف روسيا كثيراً في سبيل إغلاق هذه الكوة المفتوحة على مختلف الاحتمالات، باختصار روسيا تحمي مصادر عيشها المهددة بطريقة أو أخرى ولا تتقدم أو تتمدد، وهي تحمي تخومها الإسلامية في أنغوشيا وأوسيتا، وهي في كل الحالات طرف مدافع والمدافع لا يملك أكثر من التكتيكات.
ربما يبدو نتيجة صادمة هذا المآل الذي يتكشف عنه الحدث السوري، إذ قياساً بحجم وطبيعة انخراط بقية الأطراف، كانت الولايات المتحدة أقلها، ويبدو أن استراتيجيتها الحذرة كانت أكثر جدوى في خدمة مصالحها. حيث أغرقت كل من روسيا وإيران في أزمة لن تكون النجاة منها سهلة، وها هي تدفع أوروبا، إذا ما طبقت قرارها بتزويد الثوار بالسلاح، إلى حرب بالوكالة مع روسيا وإيران، ما يعني مزيداً من الاستنزاف في الساحة السورية.
هل يعني ذلك أن الأمور استقرت على هذه الشاكلة؟، أميركا تريد حراساً على مصالحها وهي تشغل الروس، الخطر النووي الإيراني يهدد الروس أكثر بكثير من تهديده لأميركا، ولن تستطيع واشنطن معالجته بغير تحفيز الهواجس الروسية تجاهه، وخطر المتطرفين بات يدق أبواب موسكو، عدته صارت جاهزة في الجبال الخلفية لموسكو، مهمة روسيا شاقة في الشرق، وتباشير الصعود التي لاحت لبعض قصيري النظر في الكرملين ليست سوى علامات الانحدار، ثمة فوائض مالية كبيرة في خزائن القياصرة آن أوان استهلاكها في زواريب صراعات الشرق العبثية قبل أن يجري توظيفها في مجالات منتجة.
المستقبل