هل يمكن لفن الترجمة أن ينقذ العالم من العزلة والجنون/ عبدالله مكسور
الترجمة تعطي للعالم ألوانه
لطالما كانت الترجمة هي الوسيلة الوحيدة لاكتشاف الآخر والاتصال به وبناء جسور الثقة التي باتت اليوم تنهار في كل أرجاء العالم، فإتقان لغة قوم هو باب واسع لتطوير المعرفة التراكمية وتناقلها، مما يسهم في تكوّن صورة أشمل وأكثر انفتاحا على العالم.
الواقع العربي يخبرنا بأنه رغم وجود عدد كبير من مشاريع الترجمة، سواء كانت حكومية أو خاصة، إلا أن هناك عدم مواكبة كافية لكل ما يصدر فنرى إصدارات يتم نقلها إلى العربية بعد عقود أو سنوات من إصدارها بلغتها الأم، وفي هذا التحقيق تستضيف “العرب” أربعة مترجمين من مصر وسوريا والمملكة العربية السعودية في محاولة لاكتشاف هذا العالم الواسع.
المترجم السفير
يقول المترجم السوري عن الإيطالية كاصد محمد عن الدور الذي يقع على عاتق المترجم، إنَّ المعرفة ليست قضية شخصية، وبالذات المعرفة اللغوية، بل هي قضية اجتماعية مشتركة ويجب اقتسامها مع الآخرين، لذلك تظل مهمة المترجم ثقيلة جدا وفعالة في الوقت ذاته، فهو يملك بين يديه مفاتيح أبواب موصدة وعصية الدخول على من لا يعرف اللغة الأخرى، ودوره هو فتح هذه الأبواب، أبواب الثقافات الأخرى، وعرض كنوز تراثها على الطامحين إلى الغنى المعرفي، الثقافي والإنساني، فالمترجم كما يراه كاصد هو الجسر الذي تعبّر عنه الثقافات المختلفة لتيسير التواصل المعرفي والعلمي والحضاري في آن معا. لذلك فإن مكانة المترجم في حضارته تقع في كونه الشخصية الرئيسية وصاحب الدور الأكثر فعالية في هذا المضمار باعتباره سفير الكلمة، سفير حضارته وسفير لديها أيضا عن الحضارات الأخرى، وهو أشبه بمرآة تعكس نور تراث الآخرين إلى الآخرين وعنهم.
نسأل مترجم “القرصان الأسود” عن المعايير التي يجب أن يحملها عمل ما كي تتم ترجمته إلى لغات مختلفة، فيقول إنَ المعايير ليست ثابتة دائما، فهناك اعتبارات تاريخية وثقافية وسياسية تجعل من العمل عالميا وناجحا للترجمة، كذلك هناك أعمال تعالج الشأن الإنساني وتتجاوز حدود التأريخ والحضارة، لأنها تدغدغ جوهر الإنسان في أي بقعة، وبالتالي فإن أي عمل يضع قارئه في فضاءاته يستحق الترجمة.
ذائقة الجمهور
المترجمة المصرية عن الصينية يارا المصري تنطلق في فهمها للترجمة من كونها “إبداع نص في لغة إلى لغة أخرى” لكن لا يعني ذلك تغيير النص الأصلي، وإنما جلاء إبداعه ومكوناته الجمالية في اللغة المترجم إليها، وهذا يتطلب دراسة ورؤية عميقتين وفهما وإدراكا للنص الأصلي، وبالطبع معرفة شاملة بالثقافتين المترجم منهما والمترجم إليهما.
الصينية التي تعتبر من أصعب اللغات في العالم تقول يارا عن تحديات الترجمة منها، أنها تبدأ من تحدي النص ذاته بكل مكوناته الجمالية والإبداعية والمعرفية والثقافية والاجتماعية، فالنص عند يارا ليس مجرد لغة وإنما هو حياة مجتمع بكل حوامله المعرفية والثقافية، فالصينية والعربية تحملان من الثراء والتعقيد ما يجعل المترجم في تحفُّز شديد خلال عملية الترجمة أمام أبعاد كل كلمة في أي نص.
لا بد أن يستند النص المترجم إلى جماليات العربية التي ينقل إليها طالما أن الهدف هو إرضاء القارئ العربي
وترى مترجمة رواية “الذوَّاقة” أنّ اللغة تحمل ثقافة الشعوب وتاريخها، والمبدعون الذين ينسجون نصوصا أدبية في أي لغة كانت يلجأون إلى الحياة الإنسانية وبيئات شعوبهم لبناء فضاءات نصوصِهم إلى جانب المخيال الأدبي طبعا، لكن لا تجزم ضيفتنا بأن الأدب المترجَم هو صورة كافية لفهم طبيعة وتاريخ الشعب المنتِج له، وتضرب هنا مثلا بأنها تشتغل على ترجمة رواية صينية تتحدث عن مرحلة ما من حياة الشعب الصيني ولكنها لا يمكن أن تكون بالمعنى المطلَق للكلمة صورة مطابقة للشعب الصيني عبر تاريخه الممتد على الآلاف من السنين.
المترجم السوري معاوية عبدالمجيد يقول إن أهمَّ التحديات التي تواجه المترجم خلال اشتغاله الأدبي هو إظهار النص بلغة عربية جيدة، فهل على النص المترجم أن يبدو وكأنه مكتوب بالعربية أم أن يحافظ على كونه منقولا من لغة أخرى؟ هذا التساؤل يشكّل جدلا مفتوحا تتعدد فيه وجهات النظر، ليؤكد معاوية أن ذلك يفتح مجالا لتقديم الأفضل دوما كما ينمّي خبرة المترجم ويطوّر أساليبه وإمكانياته، وبالتالي فإن ضيفنا يسعى دوما إلى أن يكون النص الأدبي منسوجا بصيغة أدبية في المقام الأول، وأن يكون مستندا إلى جمالية اللغة العربية طالما أنّ الهدف هو إرضاء القارئ “العربي” أولا وأخيرا.
وعن معايير ترجمة أي عمل يقول مترجم “ظل الريح”، إن هناك عوامل كثيرة تتحكم في الذائقة، لكن هذه العوامل باتت تخضع لشروط معينة أهمّها أن الذائقة العربية أصبحت حرة في البحث عن جديد الأدب العالمي، وأنّ الشبكة العنكبوتية ساعدت على التواصل السريع بين القراء في أنحاء العالم ما جعلهم يسبقون القائمين على الثقافة في اكتشاف الأعمال الأدبية الصادرة مؤخرا، وبالتالي صارت دور النشر، التي كانت تتحكم سابقا في توجيه الذائقة لدى جمهورها، تترصد أصداء الروايات العالمية عند القرّاء فتسعى إلى ترجمة الكتاب وتأمينه للذين كانوا يبحثون عنه ويحثّون دور النشر على إصداره باللغة العربية. ولكن بالرغم من هذا يرى معاوية أنَّ دور النشر تستحوذ على نصيب الأسد من التحكم في ذائقة الجمهور.
الترجمة هي الفن الأقرب للنزعة الملائكية الكامنة في البشر
ولعلنا ننسب تقديم كاتب دون آخر إلى الضجة التي أحدثها في بلاده أو الشهرة التي نالتها رواياته حين ترجمت إلى لغات كثيرة. كما يوجد معيار الجوائز أيضا، فالرواية الحاصلة على جوائز أو المرشحة على الأقل، لها حظوظ أكثر في ترشيحها للترجمة. وهذا ما يدفعنا للحديث عن “أدوات المترجم المفيدة”، إذ لا بدّ من تصفح المواقع الإلكترونية الأجنبية كل يوم لاصطياد الجديد، والغوص في مجلات نقدية متخصصة تضمن رؤية أوسع عن الأدب الذي تمت ترجمته وعن أدبائه الكبار وتياراته المختلفة وكلاسيكياته.
المترجم السعودي راضي النماصي يقول إن الترجمة فعل قاهر لا إرادي يحاول المرء بواسطته رفع معرفته الشخصية ومعرفة من حوله بالذات والآخر والوجود في عالم مجنونٍ يتشظى بشكل أسوأ كل مرة، وهي معرفة تقود إلى انتشار يقود بدوره إلى معرفة أكبر وغرابة تقود إلى التجديد في اللغتين الثقافتين، الأصل والهدف، وهي (الترجمة) الفن الوحيد الذي يتحسن ويتطور بالمشاركة لا بالأنانية، وتفيض بالمنح لا بالاستحواذ لدرجة تقود في بعض الأحيان إلى إنكار الذات. فالترجمة هي الفن الأقرب للنزعة الملائكية الكامنة في البشر كما يراها ضيفنا الذي يؤكد على أنَّ المترجم الحقيقي شخص مهموم بطبعه، وهو كائن قلق ومضطرب لأنه يطلع على ثقافتين فيدرك ابتعاده عنهما كلا على حدة في ذات الوقت، فيجب عليه أن يرسخ قدميه كالأوتاد في الجهتين بما تحملانه من تصورات وأفكار ومشاعر قبل الإلمام بجهتي المعجم حفظا، وأن يعي أن دوره لا يقتصر على النقل فقط، مما يقتضي العمل والتطوير المستمر على ذاته ثقافيا وعلميا لأجل ترجمة أفضل، وبالتالي فإنَّ الترجمة لم تزل رافدا لتطور الأمم كما يؤكد التاريخ، إذ أن المعرفة تُنقل من حضارة إلى أخرى عبرها.
العرب