هل ينتحر الاستبداد العربي بفائض عنفه أخيرا!
مطاع صفدي
منذ أن نجحت الثورة الفرنسية في إسقاط ما يُدعى بالنظام القديم أي الحكم الملكي المطلق بجناحيه الإقطاع وسلطة الكنيسة -، سادت في الفلسفة السياسية النظريةُ القائلة: أن الطغيان والإصلاح نقيضان لا يلتقيان أبداً، إلا بإزاحة أحدهما للآخر. فليس ثمة نظام ديمقراطي أصيل في تاريخ الغرب، لم يولد إلا من رحم ثورة حقيقية، جذرية وشاملة. ذلك أن الطغيان لا يمكنه أن يُصلح نفسه بنفسه، وإلا فَقَدَ أمانه الذاتي، وعَرّض بنيته الحديدية للتفكيك. لا يمكن للطغيان أن يحتفظ بامتيازاته المفرطة، وهو يتقبل جرعات من إصلاح مهادن مرحلياً. لكنه يراكم نجاحاته النسبية حتى اللحظة التي يغدو فيها الطغيان مجرد ذكرى عهد بائد.
من هنا يقول التاريخ أن أكثر الطغاة يصمّون آذانهم عن الإصلاح معتقديِن أنهم ما داموا ممتلكيِن لوسائل العنف والبطش التي أتاحت لهم ديمومة سلطانهم الماضي، فإنهم قادرون على إجهاض حركات الاحتجاج التي لم تتمكن بعْد من إثبات قوتها الذاتية. فالطاغي ينطلق دائماً من موقف الرافض للاعتراف بالآخر، طالما لم يتحْ للآخر أن يكتسب بعض عوامل المقاومة. الطاغي لا يؤمن إلا بمنطق العلاقة الرأسية مع الآخر، مع المجتمع الذي يعتبره الخصم المنافس له غير المؤتمن على مصالح القمة المتسلطة ورعيتها المختارة. ذلك أن كل طاغية محتاج إلى استبدال كلية المجتمع بحفنة من أزلامه، يعتبرها هي الممثلة لشعبيته، وبالتالي يحدث ذلك الانفصامُ العميق بين السلطة وقومها من ناحية، والأكثرية العظمى من بشرية القاعدة. ولن يتهدّد هذا الانفصامُ الذي يريح شعب القمة، إلا عندما يُتاح لهذه الأكثرية من يكشف لها عن أصالة القوة التي تمتلكها، وأنها هي المالكة الفعلية لإمكانياتها، بما يجعلها، في الصراع القادم، هي المرشّحة لقلب المعادلة الرأسية البائسة.
أما (الإصلاح) فقد يتم اللجوء إليه للتغطية على حقيقة المعادلة غير المتكافئة هذه، بين قوة للبطش الأعمى تعويضاً للطاغية عن لا محدودية الخوف الغريزي المحركة لأفكاره وخططه وأفعاله، وبين ما ينطوي عليه عدوه، الشعب، من مخزون قواه الطبيعية والإنسانية المكبوتة أو المقموعة؛ فيحاول (الإصلاح) أن يجعل الطاغية يختار بينه وبين حالة الانفجار المتوقعة لتلك القوى الجماهيرية التي يخشاها، وإنْ كان لا يعترف بوجودها. كأنما الإصلاحيون يدخلون كوسطاء لمقايضة خوف القمة من انفجار القاعدة، فيما يشبه صفقة تجارية، فيها يدفع المتسلط الثمنَ ببعض التنازلات الشكلانية، مقابل أن تتراجع المعارضة عن مطلب الثورة الناجزة، الهادفة إلى إسقاط النظام كلياً، وتتقبل ما يسمى بأنصاف الحلول. هذا الوضع الملتبس يُصطلح عليه بالنفاق السياسوي.
الثورة العربية الجديدة مهددة بعدوها المفهومي المزمن الذي هو هذا النفاق السياسوي. سواء أطاح الشارع الشبابي بالطاغية وبعض الحاشية كما في القاهرة وتونس، أو أنه يصارع سلمياً أمنياً كما في اليمن، أو يقاتل حربياً كما في ليبيا، فإن المستقبل المرسوم لليوم التالي على التغيير القمّي بالشخص، أو ببعض الإجراءات الفوقية، كما في الجزائر والمغرب وسورية… وربما الأردن والسعودية، إلخ.. هذا المستقبل القريب أو المؤجل يراد له أن ياتي بكل الحواجز الممكنة لمنع الثورة، باسم مسيرة الاصلاح. في هذا السياق سوف تسود ثقافة النفاق السياسوي إعلامياً وحركياً في آن معاً. فقد يمكن تحويل الثورة إلى مجرد إيديولوجيا مشاعة، في الوقت الذي يتفاقم عجز النُخب الشبابية القائدة عن تفعيل المضمون الاجتماعي للديمقراطية المنشودة. إذ لا يمكن تغييرُ النظام الحاكم.. بمجرد الإطاحة بالرأس وبعض الحاشية، أو بالحد من سلطانه فحسب. هنالك ماهو الأهم والأفعل في هذا النظام: إنها بورجوازية الليبرالية الغربية المستوردة. فالمجتمعات العربية عانت، في ظلِّ الاستبداد، انقلاباتٍ طبقيةً حادّة وصارخة، أقامت سدوداً نفسية واقتصادية أمام نزعات الأدلجة القديمة، ما أبطل تأثيرها الشعبي.. إلى أن ارتدَّ الوعيُ العام إلى بديهية التغيير التأسيسية وهي: الحرية.
لكن المناداة بالحرية أولاً لا تعني التوقف عند حدود التغنّي بالكلمة وحدَها. فهي قد تموّن الشبيبة بذخيرة الاندفاع الجماهيري المطلوب لإطاحة أرباب النظام، أو التوصل إلى تبديل رموزه أو بعض سلوكه، لكنها محتاجة إلى نوع من المواجهة الجذرية مع المركّب الأعلى والأعقد في صيغة الاستبداد/الفساد. فقد يتم تحديد المستبدين بسهولة، لكن الفاسدين وأوكارهم، يستوطنون جذع الهرم الاجتماعي. فالمعركة مع هؤلاء تتطلّب أن يُعطىَ للحرية مضمونُها الاجتماعي الإنساني، وليس السلطوي المباشر وحده.
الفساد ليس عادة اخلاقية سيئة أو مرذولة، تُكافح بالإرشاد التربوي أو القانون القضائي. إنه مصلحة طبقة كاملة، ترعرعت في كنف الطغيان، لكي تشكّل له مداميكه الاجتماعية. فالمركّب: الاستبداد/الفساد، متضامن بنيوياً بين قطبيه، مادامت الأكثرية محرومة من حق التعبير، وليس من حق الاعتراض فحسب. ولن يشرع هذا الوضعُ التضامني بالتصدّع إلا مع هبوب رياح من مصادرها الشعبية المتحركة. في هذه الحالة قد ينزاح قطب الفساد عن قطب الاستبداد المشخصن ببعض وجوهه القائدة. هكذا تُضطر البرجوازية الطارئة، إلى التضحية ببعض تحالفاتها السياسية، على أنها لن تتخلى سريعاً عن أسس المركّب الأصلي الذي يجمعها مع نظام التسلّط القديم. وإن خلا من تماثيله السابقة. هذا يعني أنَّ انتهاء الثورة من رموز الحكم هو ابتداء الصراع مع قاعدته الطبقية. ولعلّه سيكون الصراع الأصعب، إذ لن تفيد معه فقط وسائلُ المعارضة الشارعية الناجحة في إسقاط نموذجيْ الطغيان المطلق، كما وقع في القاهرة وتونس.
المرحلة الراهنة من تاريخ ثورتيْ هذين البلديْن، سيكون لها عنوان واحد هو الحيلولة دون إعادة إنتاج مركب الاستبداد/الفساد، وذلك بالتصدي الاجتماعي والثقافي ضد أية سلطة قائمة، ظاهرة أو خفية، سوف تفرزها شبكياتُ الفساد لحساب مصالحها الفئوية والخاصة ضداً على مصلحة الأكثرية، غير المتأطرة بعْدُ تنظيمياً أو سياسياً. في هذه المرحلة سيكون على الحرية الانتقالُ من مكافحة الطغيان السلطوي المنتهية رموزه، إلى مصارعة سلطة المال مباشرة. حينما يتطلب الأمر أن ينقلب المجتمع على ذاته، أن يعيد صياغة التراتبية الطبقية لتوزع قواه البشرية. ذلك أن سلطة المال تتمتع بقوتين متناقضتين ظاهرياً، قوة التمركز في أشخاص ومؤسسات وفعاليات فئوية أو قطاعية، وقوة الانتشار في حلقات منداحة حول بعضها، حتى تكاد تغطي مساحات شاسعة من أنشطة الدولة العصرية، ومعها جماعات الحراك الانتاجي. فلا ننسَ أن ثورة الحرية هي ثورة استرداد الكرامة، ليس من قبضة الطغيان الدولاني وحده، بل من خزائن المال السياسي، وصفقاته الاحتكارية لجهود التنمية المزدوجة للبشر والحجر معاً.
الحرية والنهضة ممنوعتان تحت قبضة كل من الامن والاستغلال معاً. ما تدافع عنه القلاعُ الأخيرة للنظام العربي، ليست هي السلطة المطلقة في حدِّ ذاتها، إلا باعتبارها هي أداة الكسب غير المشروع. فما انتهى إليه هذا النظام هو تكوين أخطر طبقة طفيلية، طارئة على بنية المجتمعات الأصلية، عِمادُها الفُحْش غير المحدود في التسلط الغريزي، والنهب اللامشروع والمضاد لأية مفاهيم أخلاقية، واقتصادية، بما فيها الليبرالية عينها؛ فأصحاب الطغيان وزبانيته، وزبائنه، يؤلفون ثلاث زُمر متكافئة متضامنة، واضعةً ذاتَها ما فوق الوطن والقانون والمواطنين. هذا الجشع للتملك من كل شيء، هذا النَّهم البهيمي لطقوس الصلَف الأجوف، والتمظهر الصارخ بأفانين البذخ الفاحش، حَفَر هوة سحيقة بين أهل السلطان وغالبية عظمى من أحرار الشعب، الذين يراد لهم أن يتحولوا إلى مجرد عبيد لسادة الأمر الواقع.
عندما يُفاجأ مجتمعُ الطواغيت بصياح الناس المجهولين من حول قلاعهم الصمّاء وقصورهم الشاهقة، ليس لهم ألا أن يعلنوا حرباً غير مقدسة على (شراذم) المتمردين على الذل والهوان والفقر. فكيف يمكن للسيد المتجبّر أن يتنازل طواعية عن السوط في يده، فيكفّ عن لسع ظهور عبيده القدامى. وقد آن لهؤلاء أن يطالبوا هم بانحناء ظهور أعدائهم، وليس فقط بالتخلي عن الأسواط كلها في الأيدي القاتلة القذرة.
هل كان لفرعون مصر أن يبكي بين أيدي قضاته أخيراً، لولا أنه لم يخسر معركة المجزرة الأخيرة من سلسلة مجازره ضد أنبل شعب عربي في مصر الخالدة. فليس للاستبداد إلا رأسمال واحد، وهو فائض العنف الوحشي على كل عنف آخر لاعتراضٍ إنساني يمارسه شعبُ المضطهدين المظلومين. ولكن عندما تختلّ هذه المعادلةُ لن يتبقَّى لنظام الاستبداد إلا أن يبكي فرعونه الأكبر بين أيدي قُضاته العادلين. أما زملاؤه الفراعنة الصغار فسوف يتبعون مصير زعيمهم أخيراً.. أليس من المحزن والمفجع حقاً ألا يتبقى لأي (زعيم) عربي ثمة من رصيد له عند شعبه، إلا مقابر القتلى والشهداء، ومفاتيح السجون، ورسوم دماء المعذبين على جدران الأقبية المظلمة.
غير أن المؤسف كذلك في تاريخ الاستبداد أن سلالة الطواغيت فاقدةٌ لذاكرة أصنامها، كبيرها وصغيرها، لذلك لن تنقرض هذه السلالة إلا عندما تتعلم شعوب العرب والإسلام كيف تحترم ثقافة الحقيقة، ما فوق كل أدلجة أو عقيدة أو طَقْسنة. المسؤول الحقيقي عن إنتاج سلالة الطواغيت واستمرارها هو هذه الشعوب نفسها. الفاقدة لحسّ الاتجاه عقوداً طويلة، قبل أن تهتدي إلى الحرية كفعل وليس كلفظ.
لعلّنا دخلنا عصر الرهان المستحيل الممكن: أن تُمارس جماهير العرب أفعالُ الحرية، بديلاً عن أكاذيب الزعماء والأدلجات.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي