هل ينجح المفكر الحُر في قيادة مجتمعات «الربيع العربي»؟
منحت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية الرئيس التونسي المؤقت منصف المرزوقي المرتبة الثانية من بين أهم مئة مفكر عالمي لسنة 2012.. رشقه شعبه بالحجارة الأسبوع الفائت، خلال إحياء ذكرى الثورة التونسية، احتجاجا على سوء الأداء.
وفي المشهد السوري أفل نجم المفكر برهان غليون، احد أساتذة جامعة السوربون الشهيرة، بعد أن استبدلته مجريات الأحداث السورية بمعاذ الخطيب، أحد خطباء جامع بني أمية الكبير في دمشق.
وسبق ذلك المشهد في العراق حين عاد المفكرون والتكنوقراط إبان سقوط النظام السابق في العام 2003، ولكن الأحداث غيبتهم جميعا، ولم يعد لكنعان مكية أو ليث كبه أو الباججي أي ذكر، فيما بقي “قراء مجالس العزاء” يتصدرون المشهد.. فهل ينجح مفكر حر في إدارة مجتمعات مقيدة بإرث دكتاتوري صار سمة ثقافية ضاربة الجذور، في ظل تضخم حضور الأحزاب والتيارات الدينية؟
“الكويتية” توجهت بهذا السؤال لعدد من المثقفين والأكاديميين العرب لمعرفة رؤاهم وتصوراتهم لهذا الموضوع، وهذه التفاصيل:
مدير عام شبكة الإعلام العراقي، محمد عبدالجبار الشبوط قال بهذا الصدد: بناء الدول وإدارة المجتمعات علم وفن، ومن يتصدى لذلك ينبغي ان يكون قد وصل الى درجة مرموقة في علم إدارة المجتمعات وبناء الدول، وأن يكون قادرا على استنباط الأفكار النظرية والعملية التي تتطلبها هذه العملية، وهذا لا يتأتى الا لذوي المعرفة والثقافة والفكر والعلم والإبداع. ليست المسألة في أن ينجح أو لا ينجح المفكر في إدارة المجتمع، وإنما المسألة التي من اللازم توفرها فيمن يتولى الإدارة أن يكون كذلك، هذه بالأساس فكرة قديمة قال بها أفلاطون والفارابي وغيرهما، علما أن من يتولى الإدارة من المفكرين لا يستغني عن المؤسسات ومراكز البحث والتفكير التي تعينه في عمله.
إرث الدكتاتورية
أما الكاتبة والصحافية السورية سوزان خواتمي فقد قالت بهذا الشأن: دروس التاريخ لا يمكن تلقينها، هي تأتي بالتجربة والممارسة، ما وصلت له المجتمعات الغربية في كونها تمارس الديمقراطية بالطريقة الصحيحة وفق اعتبارات تقدم الدول وتطورها، هو وضع لا يشبه وضعنا الحالي، الحالة الغربية لا يمكننا الوصول إليها بوقت قصير خصوصا أننا كشعوب المنطقة العربية عانينا طويلاً من ارث الديكتاتورية، التي عززت الانتماء الطائفي والتحزب الديني.. إن حالة الفساد والتفسخ وعدم تكافؤ الفرص من جهة، وانهيار الأيديولوجيات العلمانية كونها لم تحقق المطلوب منها، من جهة أخرى، جعل الشعوب تتجه بشكل تلقائي نحو القيادات الدينية التي أقصيت لوقت طويل من قبل أغلب الأنظمة.
لا بد من الاعتراف بأن صعود التيارات الإسلامية هو أبرز نتائج ثورات الربيع العربي حتى الآن. ويبدو أن الثورة السورية رغم الرهانات السابقة عليها لم تكن استثناء. وهذا ما جعل ظهور معاذ الخطيب، أمراً مرغوباً من قبل الشارع السوري الثائر كبديل لبرهان غليون الذي بذل ما في وسعه ضمن بيئة عمل جديدة كلياً وشديدة الوعورة لم تخل من الألغام.. الجماهير تميل حالياً الى الثقة بالأحزاب الإسلامية، خصوصا أن الثورات الاجتماعية لا تقوم في مجملها وفق التخطيط والعقل، بل تحدث نتيجة رد فعل تلقائي وحماسي لكل ما يلبي طموحها وآمالها. وبالتالي فإن هذا الاختيار الجماهيري يعتمد في استمراريته على مدى ما سيقدمه الآخر البديل (الإسلام السياسي) لتحسين الأوضاع المعيشية وتحقيق العدالة الاجتماعية والقدرة على تقديم كل ما فشلت في تقديمه الأنظمة التي تمت المطالبة بإسقاطها.
أيا كانت النتيجة، فإن شعوب استطاعت المطالبة بحقوقها في ظل السطوة الديكتاتورية وعنفها لن تتوانى عن المطالبة بحقوقها في ظل أي نظم أخرى قادمة. تلك الممارسة هي المحك الطبيعي للخوض وتجربة الممارسة الديمقراطية بشكلها العميق والمتأني بعيداً عن العاطفة والتلقائية ورد الفعل.. وهو ما نتطلع إليه جميعاً كمستقبل!
نغمة نشاز
وفي السياق ذاته، قال الكاتب والإعلامي يحيى البطاط: أظن أنه من الصعب فهم ما يجري في المنطقة العربية منذ أكثر من قرن بمعزل عن طبيعة وحجم الصراع العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي الدائر فيها وحولها على المستويين الدولي والإقليمي، منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية بداية القرن العشرين، ومن ثم قيام الدولة اليهودية منتصف القرن الماضي.
لقد عجل قيام دولة إسرائيل بتشكل نظام عربي جديد على أيدي العسكراتية القومية، من خلال سلسلة انقلابات دموية أطاحت بالأنظمة السياسية التي أسستها المرحلة الكولنيالية، وتوجت الطبقة العسكرية العربية حاكمة ومتحكمة بمصير المنطقة قرابة نصف قرن.
غير أن بزوغ شمس الربيع العربي طوى بالكامل بقايا صفحة العسكر، وقدم في الوقت نفسه مسودة مشروع ديني جديد على أنقاض وخرائب المشروع القومي، لا تبدو ملامحه واضحة بعد حتى لأصحابه.. وهذه مفارقة عجيبة تستحق النظر والتأمل.
ثمة سؤال محير يطرح نفسه الآن بقوة: هل أن العرب يقفون على أعتاب عصر دولة اللادولة؟ وهل ستكون نماذج (طالبان) والصومال و(غزة) قابلة للتعميم بحجوم أكبر في المنطقة العربية، وهل هناك قوى دولية تدفع بهذا الخيار الرهيب إلى الأمام؟
يبدو لي أن بروز قيادات من أمثال محمد مرسي في مصر، والمنصف المرزوقي في تونس وأحمد معاذ قائدا للمجلس العسكري السوري، هي حقا النماذج الملائمة للمرحلة القادمة التي يراد لها أيضا أن تلعب نفس الدور التبريري الذي يمد الدولة اليهودية بقوة دفع جديدة للبقاء ولتدمير ما تبقى من الجسد العربي لنصف قرن آخر.. إن الاحتلال الأميركي للعراق وما قام به من عمل منهجي لتدمير مفاصل الدولة العراقية التقليدية المتهرئة أصلا، ودفعه للقوى الدينية الشيعية والسنية لتقود صراعات المنطقة، لا يمكن فصله عن مجريات الأحداث على المستوى العربي، وهو ما أعطى الضوء الأخضر للأحزاب الدينية العربية المنظمة جيدا، والشرهة للقفز إلى أعلى هرم السلطة السياسية، أن تلعب دورا مماثلا.
أصل أخيرا إلى استنتاج أن برهان غليون والعلمانيين الآخرين، رغم قدراتهم الفكرية والمنهجية لا يستطيعون أن يتمتعوا بالمرونة، ولا بالشعبية التي يتمتع بها إمام جامع أو رجل دين لا تتعدى حدود مداركه حدود الجنة والنار، والتي هي ذاتها مدارك رجل الشارع العادي الذي أفلست جيوبه وعقله وروحه الأنظمة الدكتاتورية السابقة.. ولهذا السبب فإن برهان غليون ورفاقه إنما يغردون خارج السرب، إنهم ببساطة نغمة نشاز وسط جوقة هائلة تردد نشيدا واحدا: الله أكبر… الله أكبر.
خريف دموي
بينما عبر الشاعر والصحافي السعودي زكي الصدير عن يأسه مما يجري، قائلاً: ربما أكون يائساً جداً من الربيع العربي الذي تحوّل سريعاً لخريف دموي لا يمكن حصاد الديمقراطية عبر نتائجه، بقدر ما سنحصد مزيداً من الخسائر للمكتسبات الحضارية والثقافية التي وصلنا لها في ظل حكومات علمانية دكتاتورية كانت متصالحة مع التيار الديني المنبطح لها علناً، هذا التيار الديني نفسه أصبح الآن هو المعارضة الرسمية لهذه الحكومات!
من الواضح أن ميكافيلي كان ناضجاً بما يكفي حين استعدى “الأخلاق” وحيّدها بعيداً عن أي معادلة سياسية لها حسابات خاصة بمنطق القوى، فما ينتج الآن من قيادات على الأرض يشير بنتائج لا تحتمل التأويل للبراغماتية السياسية التي تتقلّب مثل الحرباء حسب الطلب والحالة القائمة. هذا التلوّن الفج من القيادات تجعلنا أمام واقع عربي يبحث عن مكتسباته الدينية والطائفية فقط من دون أي اعتبارات أخرى تصب في صالح الأمة، وباعتقادي أن هذه النتيجة طبيعة جداً إذ إنها تجيء بسبب حالة التجويع الكبير للحريات التي عاشها الوطن العربي خلال قرن كامل من الزمن!
نحن الآن أمام جيل كامل لا يريد من قياداته إلا أن يكون تمثّلاً لها من دون وساطات أو تأويلات، تريد قيادات تردد ما تريده الجماهير، وفي حال اختلف معها سيتم نفيه وتصفيته واستبداله بنموذج آخر يمثلهم مهما بلغ هذه التمثّل من سطحية فجة وفقر في الرؤية والاستراتيجية، لهذا فمن الطبيعي أن نجد القيادات السياسية الآن تغازل الجماهير لتصفية حساباتها الشخصية على حساب الوطن والأرض والطين! ومن هنا تتحوّل القيادات من قيادات للأمة لقيادات للقبيلة والطائفة والجماعة، وهنا الكارثة! الكارثة التي تجعلنا نتساءل: هل الأمة العربية تحتاج لقيادات أم لتنمية ثقافية عميقة تغير النسق من جذوره؟! وهنا سنتقاطع مع الجدل الكبير القائم بين التنمية والديمقراطية وأيهما له الجاهزية على الأرض في ظل اقتصاد عربي منهوب من الحكومات والأسر المالكة؟ ومن هنا أعتقد أن أي محاولة قيادية تنويرية للتغيير هي محاولة لا تتعدّى الثرثرة تكرار الكلام فالساحة العربية جميعها الآن ملك للتيارات الدينية يلعبون فيها كيف يشاؤون!
احتراق التصورات المثالية
ومن ناحيته، قال د.أيمن بكر، الأستاذ في جامعة الخليج بالكويت: أرى أن السؤال الآن ليس سؤال القيادة بل سؤال الشعوب التي تعود إلى التاريخ لتواجه مصيرها للمرة الأولى في العصر الحديث بعد فترات التحرر الوطني من الاستعمار.. هناك مساحات من الوهم في وعي الشعوب تقابلها مشاريع مثالية لم تتعرض للاختبار يوما من قبل تيارات الإسلام السياسي.. هما إذاً خطان متوازيان كلاهما يهبط من سماء الوهم والنظرية كي يلتقيا أو لنقل يصطدما على أرض الواقع.. التفاعل الصدامي محتوم إذاً بين تلك التيارات التي تحكم بما تبقى من مؤسسات النظم العسكرية.. وتتخلى بصورة سريعة عن مقولاتها المثالية المتعالية على الواقع فلا تجد سوى القمع الذي يفوق قمع الأنظمة العسكرية.. وبين الشعوب التي اعتادت أن تلعب دور المتفرج وأن تبني تصورات نظرية نيئة عن العالم.. احتراق التصورات المثالية هو ما سينضج وعي الشعوب التي تتحمل مسؤولياتها للمرة الأولى.. لكنه إنضاج مدفوع الثمن .. ولا سبيل سوى القبول بهذا الثمن أيا كان مؤلما.. بعدها سيكون للمثقف والمفكر دور في توجيه حركة المجتمعات التي ستكون قد تعلمت ساعتها كيف تنصت لصوت العقل وكيف تنتخب من الأفكار والأشخاص ما ومن يفيدها.
الشاعر والكاتب الصحافي اليمني فتحي أبو النصر قال بهذا الموضوع: يفترض ان تكون هناك قطيعة بين الثورات والأيديولوجيات، الإرث الصدامي سيكون اكثر خطرا- مما كان قبلاً- لو تجدد، يفترض ان نتعلم التجاوز ومؤمنين بأهمية استئصال الإلغاء الذي كان سائداً في مجتمعات ما بعد الثورات العربية الأولى، ذلك ان ثورات 2011م هي هويتنا الجديدة التي ينبغي لها ان تنال حقها من التحقق في إطار الدولة المدنية والمواطنة المتساوية بكل ما تحمله من مضامين الحقوق والحريات، فيما العصر ليس للديكتاتورية العسكرية أو للأصولية الدينية أبداً، لكن للأسف الإرث ثقيل ومجتمعاتنا لاتزال مأزومة ونخبنا لن تتخلص من حالة الاستلاب بسهولة أيضا كما تبدو المهمة أصعب لاشك.
غلاف قشري هش
فيما تحدث الكاتب المثير للجدل شلش العراقي بالقول: اعتقد أن أي زعامة ناجحة في حالتنا يجب ان تكون قماشتها من نفس نوع النسيج المجتمعي، وإذا تبنى ما تسميه الفكر الحر فإن فرصته بالنجاح المؤقت ممكنة مع استخدام السلطة واحتكارها لأدوات العنف، والفرض القسري لأنماط عيش تغريبية، تجعل من الحداثة المجتمعية غلاف قشري هش، مثلما حصل مع تجربة أتاتورك وأبو رقيبة، ولكن المشكلة تظهر بشكل معكوس تماما عند حدوث أي تصدع في نسيج القشرة الحداثية، وهنا ايضا تركيا وتونس مثالا، وقد نجحت تجربة التحديث ولا اقول الحداثة شكليا في دولة الإمارات مثلا، بسبب من ان شيوخها هم شيوخ المجتمع التقليديين القادمين للزعامة من هذا القماش البدوي نفسه دون رؤى حداثوية ولكن بعقلية بدوية للبناء الحديث لتقدم نموذجا هجينا بين التطلع لمشاهدة اعلى برج في العالم والانحناء لتقبيل يد الزعيم والركوع بين يديه، واعتقد ايضا ان صاحب الفكر الحر كما تسميه بإمكانه ان يكون زعيما مؤسسا إذا ما وضع مخططا طويل الأمد للانتقال بمجتمعه نحو افاق حديثة يبدأها بالتعليم ويحتاج مصادفات لكي يراكم أسلافه هذا التأسيس من جهة ومن جهة أخرى ان يتطور العقل الديني من داخله وعبر شخوصه، والإسلام هنا لديه ممانعة عضوية للتقوقع ضد الأجسام الغريبة والطارئة عليه، انه السجن الكبير الذي يعزلنا عن تنفس هواء الحداثة برئة إنسانية معافاة.
تنازلات المفكر
ومن جانبه، قال الكاتب والمعارض السوري عبدالرحمن الحلاق: بداية لا أعتقد أن مفكراً حراً يمتلك القدرة على إدارة مجتمع أياً كانت صفة هذا المجتمع، إذ بمجرد تعاطيه للسياسة سيفقد جزءاً ليس باليسير من حريته، قد تشكل له مرحلة القيادة تجربة يمكن لها أن تثري مشروعه الفكريـ إن كان يمتلك مشروعاًـ لكن لن تسلس له قيادة المجتمع فكيف إذا كان هذا المجتمع رازحاً تحت سطوة الإرث الدكتاتوري ومنقسماً إلى كتل متباينة لم تمارس الديمقراطية يوما، وكل كتلة منها تحتكر الحقيقة؟ بكل تأكيد سيضطر هذا المفكر (الحر) لتقديم سلسلة من التنازلات التي ستتعارض حتما مع رؤيته الفكرية. هذا في الإطار العام أما عن تجربة المنصف المرزوقي فهي تجربة لم تكتمل بعد ولايزال المجتمع التونسي في طور التفاعلات الحادة ويحتاج إلى المزيد من الوقت وأرجو ألا يكون بحاجة أيضاً إلى المزيد من الدماء كي يصل إلى عقد اجتماعي توافقي يرضي كافة الأطياف السياسية ويضع في مقدمة اهتمامه تنمية الوطن والمواطن، بعيداً عن الشعارات الأيديولوجية يمينية كانت أم يسارية.. أما في حالة الدكتور برهان غليون فالوضع مختلف جدا، إذ لا نستطيع اعتباره قائد مجتمع، صحيح أن السوريين نادوا به قائدا للمرحلة عبر لافتاتهم السلمية إلا أن تركيبة المجلس الوطني وهيمنة بعض الجهات عليه، وعدم التعامل العالمي معه بجدية قد سحب من يدي هذا المفكر الكثير من الأوراق التي تظهر قدراته القيادية، لذلك لا يمكننا البت هنا فيما إذا كان المفكر برهان غليون قادراً أم غير قادر على قيادة المرحلة فهو بالأصل لم يمارس هذه القيادة في الداخل وعلى رأس السلطة، وكذلك لا يمكننا اعتبار مجيء الدكتور المهندس معاذ الخطيبـ (وهو إمام الجامع الأموي سابقا)ـ نتيجة إفراز مجتمعي داخلي علماً أنه من قادة الحراك السلمي على الأرض وقد اعتقل مرتين قبل أن يتمكن من الخروج، لقد تم انتخابه رئيساً للائتلاف الوطني من قبل شخصيات المعارضة في الخارج وليس نتيجة تصويت ديمقراطي في الداخل.. لاشك أن الإرث الدكتاتوي، وتباين التيارات السياسية المؤدلجة سيلقي بظلاله على أي رئيس قادم، ولن ينفعه فكره مهما كان حراً فللمجتمعات تفاعلات خاصة أعتقد أنها ستمر بها بحكم الضرورة التاريخية ولن ينفعها كثيراً النظر إلى تجارب الشعوب الأخرى فللديمقراطية الحقيقية ثمن لابد وأن يدفع نتيجة التباينات الأيديولوجية الحادة.
استعداد المفكر للصدمة
كما عبر الشاعر والكاتب البحريني مهدي سلمان عن رؤيته بالقول: إن مجتمعاتنا ليست بمعرض النجاح أو الفشل الآن، إنها في طور التجربة التي يجب أن تحتمل الخطأ كما هي تحتمل النجاح، لذلك فإنني مع أن يتخلى المفكرون عن حذرهم الشديد الذي اعتادوا أن يحصروا أنفسهم فيه، ويعدّوا أنفسهم للصدمات والمواجهات، بل وحتى الصراعات من أجل تقويم أو محاولة تقويم أي اعوجاج في رسم مسار الحرية الذي لابد من صنعه الآن.
لقد فقدت المجتمعات العربية الكثير منذ تخلى المثقفون والمفكرون العرب عن ممارسة العمل الاجتماعي والسياسي، فأفسحوا المجال إما للانتهازيين، أو للدينيين ليستفردوا بالشارع العربي، فيما اهتموا بهموم فردية أو جماعية نظرية، لا تسعى للتطبيق على الأرض، وبذلك تخلوا عن أهم أدوار المثقف وهو نشر الوعي الحر، وتركوا المجال للديكتاتوريين والدينيين ليسيطر أحدهما على السياسة فيما يسيطر الآخر على الدين والمجتمع.
إن قدرة المفكرين تتخطى الممارسة المباشرة للعمل السياسي القيادي، لكنها تعدوه إلى العمل على خلق وعي بالحرية في المجتمع، من خلال ممارسة حقيقية ومستمرة، وعبر مشاركة فاعلة في أي تغيير، أعتقد أن المثقفين والمفكرين العرب كانوا في الأجيال السابقة قد تخلوا عن هذا الدور، لكنهم في الوقت الراهن يعلمون بحاجة مجتمعاتنا إلى هذا التحرك من قبلهم، لذلك فإن بروز أسماء لمفكرين من أمثال المنصف المرزوقي أو برهان غليون أو علي فخرو في البحرين يشاركون في خلق التغيير في بلدانهم يعد مؤشراً قوياً على حاجة المجتمعات العربية للحرية، التي يجب على الجميع بما فيهم المفكرين أن يجتهدوا للحصول عليها.
الفراغ يتطلّب امتلاء
الشاعر اللبناني، المقيم في استراليا، شوقي مسلماني قال بدوره: للآخر أن يستقدم هذا المثقّف وأن يستبعد ذاك، أن يسبغ على هذا صفة المثقّف العالمي وينسى أو يتناسى ذاك، فهو ينطلق من وجهة نظر، وله مصالح. ولا ينجو من هذه البديهة لا المرزوقي ولا غليون ولا غيرهما في العالم العربي تحديداً الذي كلّما تتناتشه الذئاب، ومن الداخل أيضاً، والآخر ليس الأجنبي وحسب، بل أيضاً ابن الوطن المحافظ من وجهة نظري كنتيجة لانهيارات كبرى ومشاريع تنويريّة لم تر النور، ومشاريع قوميّة ويساريّة لم تكن على قدر طموحها وانهارت تباعاً. والكأس، وهو يفرغ من الماء، يمتلئ بالهواء، مثالاً لا حصراً. الفراغ يتطلّب امتلاء. حتماً على الجماعات الدينيّة أن تتقدّم وأن تسود ثقافتها أكثر، وهذا حقّها ما دامت قادرة، أمّا الخشية من حقّها أنّك في أوساطها تسمع من يسمّي الثقافة سخافة، والفلسفة سفسطة وفسفسة، وكلّ خلق وإبداع في الضلال، وإلى ما هنالك. أمام هذا الواقع، والضباب كثيف، يعرف المثقّف المتنوّر الذي ينظر إلى المستقبل لا إلى الماضي، فضلاً عن الماضي البعيد، أنّ عليه أن يتقدّم. الميّت فقط هو الذي يتوقّف. هل يستطيع أن يُحدث اختراقاً في حصار تستمزج بعض نواحيه قيم ماضويّة تفتي بالقتل على مخالف؟ من هنا منطلق الحراك، وعدم الاستسلام، والاستعداد للتضحية، وأن تكون كلمة حق بوجه سلطان جائر.
الكويتية