هل يوجد حقاً إعلام محايد؟
عمّار علي حسن
هناك نوعان من الحياد، ربما رسختهما الممارسة السياسية أكثر من العمل الإعلامي، الأول هو الحياد الإيجابي الذي يعني عدم الانحياز إلى طرف ضد الآخر، والاستقلالية في القرار، بما ينتج قيمة مضافة، تساعد على البناء والتقدم الذاتي. والثاني هو الحياد السلبي الناجم عن الضعف وقلة الحيلة، والذي لا يريد منه أصحابه سوى تجنيب أنفسهم المشكلات، أو حتى أصناف القلق التي تترتب على الانخراط والفاعلية. وفي مجال الإعلام يمكن أن يكون هناك حياد لا يهمل المصالح الوطنية العليا ولا مجموعة القيم والسلوكيات التي توافقت عليها الجماعة الوطنية، ولا يهمل الأهداف والمقاصد الرئيسة للعمل الإعلامي. وهذا النوع من الحياد مرتبط بالموضوعية، باعتبارها إحدى أهم القيم في العمل الإعلامي.
وهناك اتجاهان حول مسألة الموضوعية، والحياد بوصفه جزءاً منها، الأول يرى أصحابه أن “الحياد خرافة”، وأنه قد آن الأوان لأن يصبح القائلون بالموضوعية أكثر واقعية، وأن يعترفوا بأنها شيء لا وجود له، إلا في أذهانهم فقط. فإذا كانت الموضوعية تتطلب أن تكون المواد الإعلامية أمينة؛ ونزيهة؛ وناطقة بالحق، فأين هي هذه التقارير؟ فلا يوجد مراسل صحفي يعرف الحقيقة كل الحقيقة. ومن ثم فليس بمقدوره أن يكتب تقريراً يضاهي الواقع بكل أبعاده.
وهنا يرى ولبور شرام أن عملية التعرض الانتقائي ليست عملية قاصرة على جمهور يتعرض للمحتوى الذي يريده فحسب، ولكنها تحدث كذلك للقائمين على اختيار الأخبار، فهم يختارونها، في ضوء خبراتهم، ويفسرونها لكي تقاوم أي تغيير في ثقافاتهم والأطر المرجعية لأفكارهم.
وهناك رأي وجيه للصحفي المصري الراحل الأستاذ صلاح الدين حافظ في هذا الشأن، إذ يرى أنه “لا يمكننا الحديث عن الحياد والموضوعية والتوازن في العمل الصحفي والإعلامي، في غياب الحرية الحقيقية، وليس الحرية الشكلية، ذلك أن حرية الصحافة وتدفق المعلومات وحرية إصدار الصحف وملكيتها وإدارتها، هي جوهر القضية، ومن دون فك الاشتباك القائم بين الصحافة والإعلام وبين الدولة والحكومة في معظم الدول العربية، فلن يتحقق حياد ولا موضوعية ولا حرية ولا مصداقية”.
ويفرق حافظ بين موقف مختلف الألوان من الحياد، ويؤكد أن الحياد ضروري في نشر الأخبار والمعلومات المدققة، لكن المقالات والتحليلات التي تحمل أسماء كاتبيها لها مقياس آخر، يميل غالباً نحو الانحياز بحكم أفكار وانتماءات كل كاتب واجتهادات كل مفكر، وهذا هو مصدر التنوع والتعدد الذي يفتح نوافذ الاجتهاد ويثرى الحوار ويحقق الحرية.
وهذه المسألة ليست قاصرة على الإعلام في بلادنا العربية فحسب، إذ نجد أمامنا نماذج عديدة في العالم من حولنا، وفي بلادنا لو بدأنا مثلاً بالصحف اللبنانية ووسائل الإعلام الأخرى، لوجدناها في غالبيتها، صحفاً خاصة، ولكنها في الوقت نفسه منحازة إلى تيارات سياسية وحزبية واضحة. وفي الولايات المتحدة يختلف الوضع باختلاف مساحة الحرية والديمقراطية التي يتمتع بها المجتمع الأميركي وصحافته وإعلامه، ولقد تابعنا كيف أن الصحيفتين الأهم أميركياً وعالمياً، نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، المستقلتين المحايدتين كما هو مفترض، لم تحافظا بدقة على ميكانيكية الحياد خلال انتخابات الرئاسة قبل الأخيرة، وخرجت كل منهما قبل يوم التصويت بساعات، بافتتاحية نارية تهاجم فيها سياسة الرئيس المرشح بوش، من دون خوف، ودون كسر لمبدأ الحياد.
ويتفق الدكتور فيصل القاسم مع الرأي السابق ويقول: “نرى أن الكثير من الإعلام العربي يسعى جدياً لتطبيق القيم الإعلامية الطوباوبة والالتزام بها، وفي مقدمتها طبعاً ما يُسمى بالحيادية، والموضوعية، والاتزان، والتسامح، واحترام الرأي المخالف، حتى لو كان رأي العدو. ولا أدري لماذا يحاول إعلامنا العربي أن يكون ملكياً أكثر من الملك في تعامله مع الآخر المعادي، هذا في الوقت الذي يعاملنا فيه ذلك الآخر، إعلامياً، بعنصرية وعدائية وتحامل وتحيز وتسلط صارخ”.
ويدلل القاسم على وجهة نظره هذه بعدة أمثلة منها، إصدار الحكومة البريطانية قراراً، حين اشتد الصراع بينها وبين “الشين فين”، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي، يحظر على كل وسائل الإعلام البريطانية المسموعة والمرئية بث أي تصريحات للمسؤولين في تلك المنظمة بأصواتهم الحقيقية. ومنها كذلك تغطية وسائل الإعلام البريطانية للحرب بين بريطانيا والأرجنتين حول جزر الفوكلاند في الثمانينيات من القرن الماضي، أو تغطية الإعلام الغربي لأحداث الحربين العالميتين الأولى والثانية. وتوجد إحصائية تبين عدم الحياد في عدد المقابلات التي أجرتها الصحف الأميركية مع المؤيدين والمعارضين للغزو الأميركي للعراق قبيل الغزو، فقد أجرت صحيفة “نيويورك تايمز” مثلاً نحو أربعمئة مقابلة تبين أن ثلاثمئة وخمساً وتسعين منها كانت مؤيدة للحرب وخمساً فقط ضد الحرب، وفي هذا تحيز واضح وفاضح لوجهة نظر أو توجه سياسي بعينه.
وأثناء الحروب استخدمت مختلف الدول تدابير شتى للتحكم في وسائل إعلامها، للتأثير على الحلفاء والمحايدين والأعداء في آن، وخلال الحربين العالميتين كانت الرقابة الإعلامية على أشدها، فحين يبدو الأمن القومي معرضاً لخطر داهم، يكون من اليسير على الدول أن تقنع المراسلين والمصورين الصحفيين، وصانعي الأفلام التسجيلية، بأن يتقبلوا بصدر رحب الحد من حريتهم.
وقد حدث هذا بشكل واضح في حرب فيتنام، ففي البداية وقفت وسائل الإعلام الأميركية بجانب الحرب، حتى حدث انشقاق بين النخبة المسؤولة عن الحرب، فبدأ الإعلام يكشف الحقائق للشعب، حتى اتهمته القيادة بأنه دمر معنويات الناس، ودفعهم للوقوف ضد استمرار القتال. وفي حرب الخليج التي اندلعت عام 1991 بذل “البنتاجون” جهداً بالغاً في سبيل التحكم في تدفق الأخبار، فحد من إمكانية وصول المصورين والمراسلين إلى ساحة المعركة، ليس للحفاظ على سرية المعركة فحسب، بل للتلطيف من غلواء الحرب وقسوتها وصدمتها.
وهناك فريق يرى أنه إذا كان الحياد خرافة، فإن الموضوعية هدف صحفي يمكن تحقيقه، وهنا يقول الخبير الإعلامي ياسر عبدالعزيز إنه يمكن للصحفي أن يكون موضوعياً إذا أراد، وسعى من أجل ذلك. وهو وإن لم يصل إلى الشكل الدقيق للموضوعية، الذي يتحدث عنه أصحاب الاتجاه الأول، فإنه يستطيع الوصول إلى درجة من الموضوعية، تثبت أن الموضوعية مفهوم ذو معنى، وليس خرافة على الإطلاق. ويضع عبدالعزيز آليات لتحقيق الموضوعية، ومنها: الإحاطة الكافية واللازمة بالموضوع الذي يتصدى لمعالجته، ومراعاة الدقة، والإنصاف، والتوازن، ووضوح الرسالة، والشمول، وعدم إهمال السياق.
الاتحاد