هل يوقف الجيش آلة القتل بسوريا؟
رضوان زيادة
منذ اليوم الأول لبدء الاحتجاجات في سوريا والنظام يفكر بالطريقة الأنسب من أجل التعلم من الدروس التي قادت إلى نجاح الثورتين التونسية والمصرية من قبل وهي السماح بالوجود الإعلامي، وثانياً يجب توريط الجيش منذ اللحظة الأولى بحيث لا يكون هناك مؤسسة ما يشعر معها المتظاهرون بأنه يمكنهم الاعتماد عليها.
هناك إذاً تخطيط مسبق من قبل قادة الأجهزة الأمنية بإطلاق النار على المتظاهرين لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تردع المزيد من الشباب من الانضمام إلى المظاهرات لأنهم سيعرفون أن كلفتها ستكون عالية جداً وأنها ستكلفهم حياتهم، وهو ما تحقق على أرض الواقع.
فمنظمة هيومان رايتس ووتش وثقت أنه حصل إطلاق نار مباشر يوم الجمعة 22 أبريل/ نيسان في 16 مدينة سورية مختلفة وسقط فيها أكثر من 112 متظاهرا، كما أن معظم الذين قتلوا في هذه المدن إنما سقطوا برصاص القناصة، وتكتيك القناصة استخدم قبل ذلك في مصر وتونس ولكن ليس بنفس الحجم والطريقة المخيفة التي استخدم بها في سوريا.
وبالحقيقة فإن هؤلاء القناصة كانوا يتلقون أوامرهم مباشرة من قادة الأجهزة الأمنية المختلفة وعلى رأسها المخابرات العسكرية والجوية.
تتكون الأجهزة الأمنية السورية من أربع إدارات مختلفة وهي تتبع بشكل مباشر لأوامر رئيس الدولة، فالأسد الأب بنى مؤسسات الدولة على شكل هرم يكون فيه رئيس الدولة رأس الهرم أما أضلاعه الثلاثة فهي أولاً الإدارة الحكومية وثانياً الجيش وأجهزة الأمن (المخابرات) وثالثاً الحزب.
هذه الأجهزة الثلاثة عبارة عن هياكل هرمية متمركزة تنحدر كلها من قيادة النظام نزولاً إلى المدينة ثم القرية إلى الحي بدرجات متفاوتة، ومتوازية خطياً بعضها مع بعض.
وهكذا على مستوى المحافظة، يتمثل الرئيس بالمحافظ، فالمحافظون الأربعة عشر في سوريا ممن ينفذون أوامر الرئيس مباشرة هم الذين يهيمنون ويشرفون على أعمال الإدارات التابعة للوزارات الحكومية المركزية والقطاع العام في المحافظة وما حولها من مناطق وقرى، فالمحافظ هو الرئيس التنفيذي للإدارة الحكومية، وهو بحكم منصبه أيضاً رئيس المجلس البلدي في المحافظة، وفي حالات الطوارئ يكون المحافظ أيضاً قائداً لقوات الشرطة والجيش المتمركزة في محافظته، وبموازاة المحافظ يكون أمين فرع حزب البعث في المحافظة ممثلاً للسلطة المركزية أيضا.
فأمناء فروع الحزب في المحافظات يكونون موضع الاختيار الدقيق من قبل الرئيس بوصفه الأمين العام للحزب وهم يتوجهون إليه مباشرة بتقاريرهم، وتراقب فروع الحزب الموجودة في المحافظات الأربع عشرة أعمال الإدارات والمؤسسات الحكومية والتعليمية والجامعية والصحية والثقافية والفنية والرياضية ومؤسسات القطاع العام عبر شعبها أو فرقها الموجودة في كل هذه المؤسسات، وترفع تقاريرها إلى قيادة الفروع.
علاوة على ذلك فإن أمين الفرع قد يقوم مقام المحافظ في حال غياب الأخير عن محافظته، وعلى المستوى الثالث والأخير فإن أنشطة الحزب والإدارة المختلفة وعلى كل المستويات الإدارية تكون موضع المراقبة اليومية للأجهزة الأمنية الأربعة الموجودة في سوريا.
هذه الأجهزة هي المخابرات العامة (أمن الدولة) والتي تتبع رسمياً لوزارة الداخلية، والأمن السياسي الذي هو دائرة من دوائر وزارة الداخلية، والمخابرات العسكرية ومخابرات القوى الجوية اللتان تتبعان اسمياً لوزارة الدفاع، ويشرف على هذه الأجهزة المختلفة مكتب الأمن القومي التابع للقيادة القُطرية لحزب البعث.
إن لكل هذه الأجهزة مهمات المراقبة المحلية، وتمتلك فروعاً في كل المحافظات وفروعاً مركزية داخل العاصمة دمشق باستثناء مخابرات القوى الجوية ذات المهمات الخاصة، وفي ظل حمى التنافس الأمني بين هذه الأجهزة المختلفة فقد توسع دور بعض الفروع الأمنية بشكل كبير حتى على حساب الإدارة التابع لها وذلك يعود إلى نفوذ رئيس الفرع وإلى سلطته التي غالباً ما تتعزز بحسب علاقته المباشرة مع الرئيس، ولذلك غالباً ما تعدت هذه الفروع صلاحياتها في الكثير من الأحيان وترافق ذلك مع نمط من الحصانة القانونية أُعطي لها، وهو ما سنتعرض له لاحقاً.
وهذا جعلها صاحبة التأثير الأول والأخير في القرار سياسياً كان أم اقتصادياً أم إدارياً، وأصبحت ترى نفسها مسؤولة أمام الرئيس مباشرةً مما حرضها على النمو بشكل مخيف.
يذكر الصحفي البريطاني آلان جورج صاحب كتاب (سوريا.. لا خبز ولا حرية) أن عدد الموظفين في أجهزة الأمن السورية المختلفة بلغ 65 ألف موظف بدوام كامل وعدة مئات من الألوف بدوام جزئي، فهناك وفقاً لذلك عنصر مخابرات لكل 257 من المواطنين السوريين، ولما كان 59.5% من السوريين فوق سن 15 سنة، فعندها يكون هناك رجل مخابرات لكل 153 مواطنا وهي تعتبر من النسب الأعلى في العالم.
وإذا استخدمنا لغة الأرقام للإشارة إلى مدى التوسع البيروقراطي في أجهزة الدولة المختلفة في عهد الجمهورية الثالثة لوجدنا أن عدد موظفي القطاع العام في الإدارات الحكومية المختلفة عام 1965 بلغ 70000 موظف لكنه تعدى 685000 موظف عام 1991 وتجاوز 900000 موظف عام 2004، أما عدد العاملين في الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة فقد بلغ عام 1965 ما يعادل 65000 شخص، وبلغ عام 1991م 530000 شخص لكنه تجاوز 700000 عام 2004.
وقد لعب عدد من ضباط وقادة الأجهزة الأمنية دوراً ميدانياً ومباشراً في إعطاء الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، في أكثر من مدينة سورية كالمعضمية ودوما ودرعا ودرايا وحمص واللاذقية وتلكلخ وغيرها من المدن.
لكن السؤال هو أن هذه الأجهزة الأمنية لا تستطيع المضي في سياسة القتل إلى ما لا نهاية، فسقوط مزيد من القتلى لم يوقف الاحتجاجات كما رأينا ذلك في أكثر من مدينة سورية في درعا ودوما والمعضمية واللاذقية وبانياس ودمشق وغيرها، فما دامت الاحتجاجات متصاعدة فإن آلة القتل لن تكون فعالة في وقف المظاهرات بقدر ما تزيد من مأزق النظام ومن تصاعد الاحتجاجات الدولية ومزيد من العقوبات من طرف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وربما من قبل مجلس الأمن في المستقبل.
إن استمرار آلة القتل سوف يدخل سوريا في خيارين اثنين لا ثالث لهما هو إما أن يلعب الجيش دوراً في حماية المتظاهرين ويقود شبه انقلاب عسكري ضد الأجهزة الأمنية التي باتت تقتل دون محاسبة وبالتعاون مع الفرقة الرابعة التي يقودها فعلياً ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري، أو أن ذلك سيفتح الباب للتدخلات الدولية عبر طلب المتظاهرين لشكل من أشكال الحماية من أجل وقف القتل المستمر بحقهم.
إن الجيش السوري هو جيش نستطيع أن نطلق عليه أنه جيش محترف، لكن ليس بمستوى الجيش المصري، ولكن أيضاً ليس بمستوى الجيش الليبي فهو في منزلة بين المرتبتين، فهو يدخل في تعداد الجيوش الكبيرة في العالم في المرتبة الـ16 لجهة عديد المقاتلين ضمن صفوفه، حيث يتألف من 240 ألف مقاتل، معظمهم من المجندين بحكم أن كل مواطن سوري بلغ الثامنة عشرة من عمره عليه أن يخدم في الجيش السوري لمدة عامين ونصف العام قبل أن يجري تخفيضها لأسباب اقتصادية إلى عامين ثم عام وتسعة أشهر ثم عام ونصف العام حسب مرسوم رئاسي صدر في منتصف مارس/ آذار الماضي.
لذلك يمكن القول إن الجيش النظامي هو مكون من الشعب السوري تقريباً، وبالرغم من أنه يغلب على بعض قياداته الانتماء الأقلوي وخاصة في الطائفة العلوية، والذين انتسب إليه معظمهم لأسباب اقتصادية حيث تنعدم الفرص الاقتصادية الخاصة في مناطق الساحل السوري حيث يتركز معظم أبناء الطائفة العلوية.
ومع ارتفاع نسبة التعليم في هذه المناطق فإنهم يستفيدون من شبكات الولاء للتطوع في الجيش، لكن هذه النسبة هي أقل بكثير من نسبة القيادات العلوية في قيادات الأجهزة الآمنية التي يتكون معظم قياداتها تقريباً مع استثناءات نادرة من الطائفة العلوية، وهي تعتبر الأكثر ولاء لنظام الأسد من القيادات العلوية الموجودة في الجيش التي دخلت فيه كما قلنا لأسباب اقتصادية محضة.
ولذلك فإن الأسد يضع شكوكاً في مدى ولاء الجيش له وإمكانية تخليه عنه في حال تصاعدت الاحتجاجات، ومن هنا أتت فكرة تسمية وزير الدفاع الحالي علي حبيب ورئيس الأركان داوود راجحة في وثيقة صادرة للمعارضة تحت اسم المبادرة الوطنية للتغيير حيث رشحت كلا الشخصين كي يلعبا دوراً محوريا في وقف عملية القتل ضد المتظاهرين وإدارة المرحلة الانتقالية.
فعلي حبيب ينتمي إلى الطائفة العلوية وهو شخصية تحظى باحترام ما كونه لم يخدم مسبقاً في أي جهاز أمني كما لم يعرف عنه ارتكابه أي انتهاكات لحقوق الإنسان، وهو ما سيرسل رسالة أيضاً إلى الطائفة العلوية أنه لن يجري استثناؤها من مرحلة ما بعد الأسد حيث إن أحد شخصياتها المحورية سيلعب دوراً مركزياً في المرحلة الانتقالية.
وقد أكدت المبادرة الوطنية للتغيير أن “المؤسسة الوحيدة التي بإمكانها قيادة هذا التحول هي الجيش وتحديداً وزير الدفاع الحالي العماد علي حبيب ورئيس الاركان العماد داوود راجحة فكلا الشخصين بما يمثلان من خلفيةٍ يدركها السوريون قد يكونان قادرين على لعب دور محوري بعملية التحول وقيادتها عبر الدخول في مفاوضات مع المدنيين الممثلين لقيادات المعارضة أو أية شخصيات أخرى تحظى باحترام السوريين من أجل تشكيل حكومة انتقالية”.
فهل سيلعب الجيش السوري ولو متأخراً بعد سقوط أكثر من ألف قتيل الدور نفسه الذي لعبه الجيش التونسي والمصري من قبل في حماية الثورة، والأهم حماية سوريا من التدخل العسكري الخارجي الذي ربما يصبح مطلباً داخلياً في حال استمرت آلة القتل في سوريا في قتل المتظاهرين السلميين.
الجزيرة نت