همسات في أذن الجولاني/ إياد الجعفري
ذكرتني تصريحات أبو محمد الجولاني، زعيم “جبهة النصرة”، التي بثتها وسائل إعلام مساء السبت، بمقال شهير كتبه أحد رموز التنظيمات الجهادية في سوريا، في نقد “السلفية الجهادية”، وأبرز أسباب فشلها في تحقيق أهدافها، رغم الظروف التي أتاحت لها فرصاً عديدة.
قبل اغتياله ببضعة أشهر، مع كوكبة من قيادات حركة أحرار الشام، في عملية تصفية ما تزال غامضة، كتب أبو أيمن الحموي، مقالاً مطولاً، وشديد الأهمية، يبث فيه أوجاعه حيال الحال الذي وصلت إليه التجربة “الجهادية” في سوريا، محذراً من أن تلقى المصير ذاته الذي لقيته في نهاية المطاف، في تجارب أخرى، كالجزائر والعراق.
وكأن الحموي المُتوفى منذ أكثر من سنة، كان يتحدث عن الجولاني يوم أمس، الذي ظهر على شاشات أكثر من تلفزة محلية وعربية، متعالياً بطروحاته، يحصر تمثيل المشروع الإسلامي بثُلته، ويُنفّر عوام المسلمين السوريين الباحثين عن الخلاص، من الجهاديين ومن مشروعهم الذي يقترب من العبثية.
يصادر الجولاني التاريخ القريب للسوريين، حينما يُعمم على جميع الثوار هدف السعي لإقامة “حكومة إسلامية راشدة”، وينسى أنه وصحبه كان من المُلتحقين بحراك شعبي لم ينطلق معظم ناشطيه من دوافع دينية.
تصريحات الجولاني أمس، ذكرتني بعبارة أبو أيمن الحموي في المقال المشار إليه، حينما أقر بأن السلفية الجهادية فشلت فشلاً ذريعاً في حل مشكلة الأمة، كغيرها من التيارات الإسلامية، رغم ما بذلته من دماء، فهي لم تستطع جرّ عوام الناس إلى مشروعها، وإقناعها به، بل تعاملت مع الناس بنخبوية متعالية.
تلك النخبوية المتعالية ظهرت في ردود الجولاني على أسئلة محاوريه حيال فك الارتباط بالقاعدة، رغم أن ذلك مطلب كثير من السوريين، كي لا يُحتسبوا على “الإرهاب” في نظر قوى عالمية كبرى. كما ظهرت تلك النخبوية المتعالية في استهانة الجولاني بحاجة الناس في المناطق المحاصرة لهُدن بعد أن أنهكهم الجوع والقصف، بأن قارن جوعهم بدماء “المجاهدين” وحيواتهم، وكأنه يرهن تلك المناطق المحاصرة لمشروع “الجهاديين” السياسي، من دون أي تلميح لمراعاة خيارات سكان تلك المناطق ورغباتهم.
أحد الأسئلة المهمة التي طرحها أبو أيمن الحموي، في مقاله المعنون “أليس منكم رجل رشيد”، المنشور في شباط 2014، كان عن أسباب فشل “السلفية الجهادية” في جرّ الناس لمشروعها وإقناعها به. وأتى الحموي بجملة أجوبة، مستخلصة من تجربته المديدة في حقل “الجهاد”، وهو ابن هذا التيار، المُخلص له، لعقود.
أبرز هذه الأجوبة، كانت “الكِبر والعُجب وحب الرياسة واحتقار المسلمين” في أوساط قيادات التيارات الجهادية. ربما لم تظهر هذه الصفات في سلوكيات الجولاني أثناء المقابلة، فهو كان متواضعاً، وتقبل كل طروحات الإعلاميين الذين حاوروه، وإن كان التوتر قد ظهر جلياً على وجوه بعضهم. لكن الجولاني كان متعالياً في طروحاته، فهو خوّن شركاء له في ساحة “الجهاد” يختلفون معه في الرأي. كما كان متعالياً في تسخيف رغبة السوريين في “الحرية”، في عبارة لا يبدو أنها كانت هفوة منه، بقدر ما كانت تعبيراً عن مكنونات صدره. والأخطر من ذلك، أنه كان متعالياً حيال رغبة الكثيرين من السوريين في انفكاك جبهته، عن تنظيم القاعدة، وهي خطوة أتاحها له زعيم التنظيم نفسه، أيمن الظواهري، منذ أكثر من سنة.
يمكن تفهم وجهة النظر التي تقول بأن انفكاك جبهة النصرة عن القاعدة قد يهدد بانشقاق جزء كبير من مقاتليها عنها لصالح تنظيم الدولة الإسلامية، لكن ما لا يمكن تفهمه، أن زعيم جبهة النصرة الذي لا يملك قدرة ضبط هياكل جبهته ومنتسبيها إلا بخيارات قد لا يتفق معها جزء كبير من السوريين، يُخوّن قيادات جهادية أخرى، تتماشى مع رغبة هذا الجزء الكبير من السوريين، بالخلاص، حتى لو كانت فرص هذا الخلاص واهية. إذ لا ضرر من المحاولة، إن كانت ستفيد في توحيد الصف، والإفادة من الدعم الإقليمي.
والأخطر من كل ما سبق، تلك المغالطات التي أطلقها الجولاني باستخفاف كبير في تصريحاته، من قبيل أن 80% من تراب سوريا محرر، متناسياً أن معظم هذا الجزء “المحرر” في قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي لا يقل خطراً عن نظام الأسد حيال غالبية السوريين. ناهيك، عن تحريض الجولاني لمقاتلي الفصائل التي حضرت مؤتمر الرياض، ضد قيادييها.
لا يعني ما سبق دفاعاً عن مؤتمر الرياض، أو عن حاضريه، أو عن خلاصته، ولا يعني ذلك أن المؤتمر نجح بالفعل، فبذور الفشل تجلت فيه منذ أن تجلى الخلاف في أوساط قيادة “أحرار الشام” حيال التوقيع على وثيقة تجاهلت تماماً الثقل الوازن للإسلاميين على الساحة السورية. وكان يكفي لإطفاء النار تحت الرماد، أن تتم الإشارة إلى هوية الشعب السوري المسلم، كما طلبت قيادة الحركة، مع إضافة عبارة “احترام حقوق الأقليات”، لإرضاء البقية. فعالم السياسة هو عالم التسويات والحلول الوسط.
بكل الأحوال، وفيما حرص منظمو مؤتمر الرياض على الخروج بصيغ نظرية تُرضي الغرب، تبدت أولى التشققات في أوساط البيئة السورية المعارضة. تشققات أفقية أرساها الجولاني أمس، بين جبهته وبين فصائل معارضة وازنة، من قبيل “أحرار الشام” و”جيش الإسلام”. وتشققات عمودية مرجحة في أوساط الفصائل الجهادية التي حضرت مؤتمر الرياض، أرستها وثيقة الرياض التي تجاهلت مشاعر “الجهاديين الإسلاميين” برفض أية إشارة صريحة للـ “الإسلام”، فيما كان من الممكن توفيق صيغة نظرية تحل هذه المشكلة، وتحرج الجولاني ذاته وقيادات جبهته.
المدن