هموم السوريين في ذكرى الجلاء/ أكرم البني
يندر بين السوريين من لا يعرف أن السابع عشر من نيسان (ابريل) هو ذكرى جلاء الفرنسيين عن أرضهم، لكن غالبيتهم تبدو اليوم غير مكترثة، كأن الحديث عن الاستقلال ومظالم الاحتلال لم يعد يعنيها، لم لا؟ وهي التي تكابد محنة ومظالم لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلاً.
أين صار الوطن الذي يفترض الاحتفاء باستقلاله؟ تسمع السؤال يتكرر بعفوية ومرارة، أهو في ذاك المشهد الذي لا يصدق من الدمار والضحايا والتشرد؟ أم في لغة العنف والسلاح التي باتت تعصف بكل مفاصل الحياة وتخلف المزيد من الرعب والاضطراب والتشرذم؟ أم في ملايين اللاجئين والمهجرين وهم يتحسرون بألم على حياتهم الضائعة؟ أم في مئات آلاف الأطفال الذين غادروا ديارهم صغاراً ويعانون الأمرّين للحصول على الغذاء والصحة والتعليم، عداك عن تعرضهم لأبشـع ظواهر الاستغلال والقهر والتمييز؟!
عن أي استقلال تتحدثون؟! يعترضك سؤال مختلف، تحدوه الإشارة الى تعدد القوى الخارجية التي استجرتها أطراف الصراع إلى البلاد، إلى وطن بات مستباحاً وأشبه بساحة لتصفية حسابات الهيمنة والنفوذ على المنطقة، إلى مجتمع تمزقه هويات القوى المتحاربة والاستقطابات الثأرية والإقصائية، وما تخلفه من تخندقات حادة وتغذية للعصبيات وأثمان تدفع من حساب تعايش الشعب الواحد ومستقبله ومقومات استمراره؟
ويفاجئك آخر بسؤال يتجاوز المألوف: «ماذا لو استمر الاحتلال الفرنسي، هل كان ليفتك بنا كما نفتك بأنفسنا؟!»، سؤال ما كان ليخطر على بال أحد في الماضي، لكنه يبدو اليوم مقبولاً، كاعتراض على ما حصل ويحصل من عنف وتنكيل، وكرد فعل احتجاجي على ما خلفه الصراع البيني من مآسٍ ودمار وضحايا ومشردين ومن أحقاد وشروخ اجتماعية يصعب أن تزول.
ويستدرك السائل، أليس ما نعيشه اليوم هو حصاد ما زرعته أيادينا؟! متى كان شغلنا الشاغل تنمية الوطن وهويته الجامعة؟ ألم تتحكم بعقولنا ونفوسنا أحلام وأيديولوجيات أكبر من الوطن؟ أولم يكن الوطن عند القوميين من بعثيين وناصريين وغيرهم محطة طارئة نحو الأمة العربية الواحدة؟! ولمْ ننس مفاخرة الشيوعيين بانتمائهم الأممي على حساب هويتهم الوطنية، أو كيف يقدس الإسلام السياسي الرابطة الدينية ويعتبر ما دونها مجرد نقاط عبور صوب مشروع الخلافة؟ والأهم، لمْ ننس أثر تحويل الدولة كسلطة عمومية إلى أداة لحماية فئة حاكمة وتمكينها، ودور القمع والتمييز والإقصاء في تفشي الفساد وتخريب البنية الوطنية وتدمير خلايا التجدد والتشارك في المجتمع؟! وهل يمكن من غير ضمان المساواة بين الناس وحقوقهم وكراماتهم تحصين الاستقلال وردع أي طامع؟! حزن السوريين في ذكرى الجلاء على ما حل بوطنهم عميق، وقلقهم من احتمال تطور الصراع نحو الإيغال في العنف أو التقسيم أو المحاصصة العرقية والطائفية عميق أيضاً، ليس فقط لأنه يتعارض مع ما طمح إليه رواد الاستقلال، أو مع شعاري الحرية والكرامة اللذين رفعتهما ثورتهم، بل أساساً بدافع من رغبة صادقة بوقف دوامة الأحقاد وحمامات الدم، ولأنهم يعرفون جيداً المصير البائس الذي ينتظرهم إذا ما فشلوا في وقف العنف وبناء اجتماع ديموقراطي ووحدة وطنية يحتضنان تنوعهم وتعدديتهم.
«لا تزال أيادينا على قلوبنا ونأمل بأن لا نشهد اندفاعات للعنف تمعن في هتك مقومات السيادة والهوية الوطنية»، يستهل أحدهم حديثه ويستدرك متمنياً استمرار الهدنة على هشاشتها ونجاح مفاوضات جنيف في رسم مسار الانتقال السياسي، غامزاً من هذه القناة الى ضرورة التوفيق بين المصالح والمواقف المتباينة، وإلى خطورة تغييب العقل والاستمرار في شحن الأجواء بنوازع التطــرف والمـــغالاة، بينما يرشــح التشاؤم في تساؤل أحدهم، عن الجدوى من الرهان على وطن لا يثق أبناؤه به أو ببعضهم، ولا يعترفون بعد سنوات من العنف الأعمى بأن الخلاص بات جمعياً، وبأن ثمة ضرورة وجودية اليوم لتقديم التنازلات لإنقاذ الحضور الوطني، وإحياء روح التعايش، والتأسيس لعقد اجتماعي يمنح دولة المواطنة دورها العمومي في إدارة البلاد وضمان أمنها وإعادة إعمارها.
الدرس واضح، يعلن أحدهم بحزم، جلاء المستعمر ليس سوى عتبة الإقلاع نحو الاستقلال الناجز، والقــــصد أن المعنى الحقيقي للاستقلال يتأتى مما درجت تسميته بالاستقلال الثاني الذي يكرس قيم الحرية وبناء دولة المواطنة الديموقراطية، كطريق مجربة للنهوض بمجتمعنا المأزوم، ولحضّ الجميع على تجاوز حساباتهم الضيقة وجعل الانتماءات الطائفية والإثنية هي الأضعف أمام انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء إلى الوطن، بخاصة أن الدولة السورية لا تزال حديثة العهد، ولم تتبلور في المجتمع منذ استقلاله، هوية قوية جامعة تستند إلى عقد ديموقراطي يعترف بخصوصية مختلف المكونات وحقوقها، فكيف الحال مع تعاقب سلطات استبدادية ساهمت في تشويه الهوية الوطنية والانتكاس بالمجتمع إلى روابط ما قبل مدنية، متوسلة لضمان سطوتها وامتيازاتها أساليب التمييز والولاءات المتخلفة.
الدرس واضح، يضيف آخر محذراً من التغني بسيادة ومناعة وطنيّتين ضد التدخلات الخارجية عبر الشعارات التعبوية وتوسل استقرار وأمن شكليين تكرسهما قوى القهر والاستبداد، فما تفرضه سلطة تقمع مكونات المجتمع وتئد حقوق أبنائه ومشاركتهم لن يمنع الانفجار والتلاعب بالبلاد عند أول امتحان، بدليل ما ذهبت إليه أوضاعنا الراهنة.
والحال، لا يمكن دون الحرية والكرامة حماية الاستقلال وخلق إنسان ووعي جديدين تتألق بهما الوطنية السورية بعمقيها الإنساني والحضاري، درس يستـــقي معنى الكـــرامة من إصــرار يوسف العظمة على مواجهة الجيش الفرنسي في معركة يدرك مـــسبقاً أنها خاسرة، كي لا يكتب التاريخ يوماً، أن محتلاً دخل دمشق ولم يقاومه أهلها! درس يستمد قيمة الحرية مما قاله شكري القوتلي في يوم الجلاء، عام 1946 «إن الحرية والاستقلال صنوان، صيانتهما أشق من الظفر بهما، هما أمانة الشهداء في أعناقنا، كي نورث أبناءنا وطناً سليماً قوياً محترماً».
* كاتب سوري
الحياة