هنادي زحلوط أو “هيام جميل”
سيرة ناشطة سورية
فراس سعد()
لسنة مضت لم أكن أعرف هنادي زحلوط شخصياً، ماعلق بذهني أنها ناشطة نسائية، تدافع عن النساء المعرضات للقتل فيما يسمى جرائم الشرف، تردد إسمها على مسامعي بعد خروجي من السجن. بعد شهرين تعرّفت عليها عن طريق أصدقاء، وبالصدفة علمت أنها هي هيام جميل (ولم يمض على ولادة تلك الشخصية ستة أشهر أو سنة). قابلت هيام جميل (هنادي زحلوط) للمرة الأخيرة في جرمانا بعد يوم أو يومين من خروجها من اعتقالها الأول، كان تأثير الإعتقال عليها كبيراً. بعدما وصلتُ إلى بيروت بشهرين تبادلت وهنادي بضع رسائل اخبرتني في إحداها أنها ستأتي إلى بيروت. لكن الإعتقال للمرة الثانية منعها من القدوم، وحين خرجت في المرة الثالثة كانت اتخذت قراراً بالسفر خارج البلاد، كما فعل قبلها عدد لا بأس به من نشطاء وناشطات الثورة .
هنادي زحلوط باختصار، ناشطة سياسية ونسائية، كاتبة قصة، وهي أيضأً مهندسة زراعية من محافظة اللاذقية، أما هيام جميل فهي شخصية إفتراضية ولدت فجأة على الفيس بوك من الخوف ورغبة الحرية، اتهمتها “قناة الدنيا” التابعة للنظام السوري بأنها صديقة ملاذ عمران الذي هو بدوره “صديق عميل اسرائيلي”؟!! مسعود عكو الصحافي والناشط السوري المعروف يقول عنها ” هنادي من أفضل الناشطات السوريات في مجال الطفولة والمرأة ” لكن هنادي تتمنى أن تترك كل شيء وتعود إلى حضن أمها. كانت أمنيتي ألا أدعها تبكي وفشلت، كنت أكبر سبب لبكائها” تعترف بحزن وهي تضع عينيها في الأرض.
في بيروت المحطة الضرورية للعبور إلى باريس وفي منزل صديق مشترك، التقيت هنادي وكان حديث طويل عن ذكريات الإعتقال، عن ذكريات العمل في الأرض والأسرة والمجتمع. هنا حديث عن تاريخ امرأة شابة صارعت طويلاً القدر السوري منذ أن قررت أن تكون صاحبة رأي، كحال سوريات كثيرات صارعن بقوة وشجاعة نادرتين مجتمعهن ونظاماً فاشياً لا يرحم أحدا.
قرية شبيحة
“أنا الفتاة الصغرى من عائلة فلاحية كادحة يبلغ عدد أفرادها 13 شخصاً. عائلتي تعمل في الأرض منذ عقود طويلة، أخوتي ضباط في الجيش ومعلمو مدرسة وأطباء، نحن من قرية بالقرب من البحر اسمها صنوبر جبلة، بلدة زراعية، لكن معظم سكانها تحولوا للعمل في التهريب و”التشبيح” مع آل الأسد، نحن من العائلات القليلة التي لم تخضع لشهوة المال السهل”، حوّل آل الأسد قريتنا إلى مركز للتهريب القادم من قبرص، بالتعاون مع آل عريس وهم عائلة إقطاعية، أقاموا على شطها البحري مرفأ للتهريب سنة 1990، كان فواز الأسد وشبيحته يقدمون إغراءات لطلاب المدرسة لترك دراستهم والعمل في التهريب مقابل 500 ليرة يومياً، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لأي موظف (راتب الموظف في سورية في التسعينيات كان 2500 ليرة) هكذا “ترك كثير من زملائي في المدرسة الدراسة للإلتحاق بالتهريب. لقد استطاع آل الأسد تجهيل قرية بالكامل، حوّلوا قريتي إلى قرية شبيحة”.
“كان أهلي يستأجرون الأرض من بيت هارون الأقطاعيين مرة ومن آل شاليش مرة، فنحن لا نملك الأرض التي نعمل عليها، كان العمل قاسياً، كنت أضطر لترك المدرسة مراراً من أجل مساعدة أهلي، واستمرّ عملي بالأرض إلى أن تخرجت من الجامعة”. كان على الأسرة أن تعمل 17 ساعة في اليوم،” كثيراً ما كانت أمي تبكي من الإرهاق وانسداد الأفق، رغم كل العمل الذي كان يقتضي منا قضاء القيلولة في الأرض كنا بالكاد نشبع، مرات كان الشاي والخبز الوجبة الرئيسية للعائلة وأحياناً خبز وسكر”.
نشأة مقموعة
الفتاة التي بدأت بكتابة رواية في التاسعة عشرة لم يكن بإمكانها الإستمرار بالكتابة بحرية وهي في منزل الأهل، على الرغم من كونها تدرس المرحلة الجامعية في كلية الزراعة في جامعة تشرين. لذلك، وهرباً من القمع المعمّم الإجتماعي والحكومي، كان عليها الفرار إلى دمشق، ” تركت اللاذقية إلى دمشق من اجل قليل من الحرية، استطعت العمل، لكن بدأت المضايقات الأمنية، كنت أخشى تحميل أهلي مسؤولية مواقفي وآرائي، كانت تصلهم تهديدات مباشرة من الأقرباء كي أتوقف عن الكتابة والكلام. هددوا أخي في إحدى المرات.”
“كان التعاطي بالسياسة مرفوضاً من قبل أهلي، كذلك كان مرفوضاً منهم أن أنشر أي كلمة في مواقع المعارضة”. بالطبع أهل هنادي وأخوتها موالون للنظام، والتهديدات التي كانت تصلها عبرهم كانت تتحول إلى تهديدات مضاعفة لها من أخوتها الضباط، أحدهم هددها بالذبح مرة، وصلت الضغوط لدرجة الطلب منها الظهور على تلفزيون الدنيا (أسوأ قناة دعاية تابعة للمخابرات) لتقديم ولائها للنظام والتنكّر لمواقفها وآرائها، وفي حال رفضت كانت مهددة من قبل الأخ ذاته بتلفيق تهمة سرقة بحقها.
ابتداء من سنة 2004 بدأت هنادي بنشر قصص ذات طابع سياسي في مواقع المعارضة السورية، ثم بعد عام بدأت العمل في قضايا الطفولة والأمومة(مرصد نساء سورية) مع سمر يزبك وريما فليحان ونورا قريعة، في 2008 انتقلت للعمل في وزارة الزراعة بدمشق، كانت تحت المراقبة، هكذا سيتم استدعاؤها مرة بعد الأخرى إلى الفروع الأمنية، عام 2009 تم استدعاؤها لأول مرة إلى الأمن السياسي باللاذقية بسبب النشر في صحيفة الرأي التابعة لحزب الشعب ( الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي): ” حاولتُ التهرب، قلت لهم لست مسؤولة عن إعادة نشر مقالاتي في الرأي . توترت علاقتي مع أهلي إثر الإستدعاء الأمني الأول، ضغطوا عليّ للعودة إلى اللاذقية، هنا أدركت أهمية العمل باسم مستعار تفادياً للإعتقال، لذا كتبت مقالي الأول باسم هيام جميل، كان المقال عن إغلاق المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” .
عام 2010 جاءها استدعاء لفرع المنطقة بدمشق على خلفية نشرها في موقع “النداء” التابع لإعلان دمشق وفي موقع “كلنا شركاء” التابع لأيمن عبد النور المقرّب من بشار الأسد حينها، ثم استدعاء في العام نفسه من قبل أمن الدولة – الفرع الخارجي، لثلاث مرات لمنعها من النشر في “معهد صحافة الحرب والسلم”.
بعد ذلك أنشأت هنادي صفحة على الفيس بوك باسم هيام جميل، اقتصر نشاطها على نشر أخبار الإعتقالات السياسية ومحاكمات النشطاء السياسيين. كانت هنادي تنشر أيضاً بعض المقالات في مواقع المعارضة حول الفساد والواقع الإجتماعي في سورية، ومنها دراسات حول الوضع القانوني لمسألة التمييز بحق المرأة والطفل، لن ينسى أحد جرأة هنادي وهي ترتدي تي شرت كتب عليها “لا لجرائم الشرف” وتسير في شوارع دمشق.
بعد انتصار ثورة تونس بدأت تتبلور عند الناشطين المدنيين السوريين فكرة النزول إلى الشارع، كان المزاج الشعبي مؤاتيا، لذلك تمّ العمل مع مجموعة من النشطاء لتنظيم أول وقفة تضامنية أمام السفارة المصرية بدمشق في 30 كانون أول 2011 أضيئت فيها الشموع لأرواح شهداء ثورتي مصر وتونس، وأملاً بثورة تهبّ رياحها في ربوع الشام.
يوجد انطباع لدى بعض السوريين تجاه المعتقلين الجدد من السوريين العلويين مفاده أن اعتقالهم هو قرار اجتماعي وأسري مثلما هو قرار سلطوي… ساءت علاقة هنادي بأهلها، ازدادت الضغوط: “طلب مني أخي التوقف عن الكتابة وعدم المشاركة بأي تظاهرة، قال لي إن هناك مؤامرة على البلد ويجب أن نكون ضدها، يجب أن نكون مع النظام حتى لو كانت لدينا ملاحظات عليه؟ ” لوحقت هنادي أمنياً واعتقلت في آب في مقهى مودلياني في جرمانا مع خمسة من أصدقائها الناشطين هناك، ” في فرع الميسات التابع للأمن السياسي اكتشفتُ أن الأمن كان يسجل مكالماتي، قبل شهرين من اعتقالي راجت شائعة في الساحل أني مختفية ومطلوبة للأمن، وأني أعمل مع المعارضة وعندي فيلا في دمشق وأملاك في الخارج” .
قضت هنادي شهرين في الأمن السياسي منها خمسون يوماً في زنزانة منفردة، “حققوا معي بموضوع هيام جميل فأنكرت”…” حولونا إلى عدرا وأثناء خروجي من المحكمة إلى باص السجن، تعرضت على مرأى عشرين رجل شرطة، للضرب والشتم من قبل المحامية (ه. ز) وهي على معرفة قديمة بأحد أخوتي، استمرّ الإعتداء علي خمس دقائق حيث تدخل شرطي وأخذني إلى الباص” في عدرا أودعت هنادي في جناح القتل، منعت هنادي من “التنفس” أو الإتصال ما يقرب الشهرين، وهناك قابلتْ طل ملوحي التي تحولت إلى أسطورة المعتقلات السوريات، في المعتقل بدأت هنادي تعاني آلام الظهر والقدم اليمنى، كان تطور الألم مفاجئا، استمر الألم رغم الابر اليومية. ” كل شيء في جسمي كان يؤلمني أدركت أن الإنزلاق في الفقرات هو السبب، حدث انضغاط في أعصاب القدم اليمنى حتى عجزت عن المشي، أخذوني إلى مشفى الشرطة بحرستا، رفضوا الإستراحة التي طلبها الطبيب لي ومدتها شهران”.
يوم التقيتها في بيروت كان من الصعب على هنادي السير لعشر دقائق متواصلة من دون ان تجلس للإستراحة.
في اليوم الأخير لسجنها في عدرا أخبروها بوفاة والدها ” أعلنتُ إضراباً عن الطعام من أجل الإتصال بوالدتي، رفضت إدارة السجن، وتمّ إطلاق سراحي في اليوم التالي”. بعد أيام تمّ طرد هنادي من العمل بوزارة الزراعة بقرار تعسفي، “هدّد أهلي بأذيتي، أخي بدوره اتهمني بالمسؤولية عن دم رفاقه في الجيش، اتهمني بأني أعمل على مخطط تآمري من قبل الإخوان المسلمين.”
بعد ما يقارب الشهر على خروجها من السجن أعيد اعتقال هنادي من قبل المخابرات الجوية أثناء وجودها في المركز السوري لحرية الاعلام والتعبير بالقرب من دوار السبع بحرات في دمشق، بعد ثلاثة ايام أفرج عن الناشطات (هنادي ويارا ورزان وميادة) من سجن المزة العسكري، بينما استمر اعتقال الشباب وعلى رأسهم مازن درويش رئيس المركز وحسين غرير وآخرين، لكن كان على هنادي وصديقاتها مراجعة الفرع المذكور يومياً من الصباح وحتى الظهر لمدة 67 يوما. “كنا طوال الوقت نسمع صراخ المعتقلين الذين يتم تعذيبهم، ثم تم تحويلنا إلى القضاء العسكري، أثناء وجودنا في فرع المزة حدث انفجار واشتباكات مسلحة، بكيت من الخوف، وانبطحنا في الأرض: كانت رواية عناصر الفرع أن الإنفجار ناجم عن سوء تخزين الذخيرة، حولنا إلى سجن عدرا حيث بقينا هناك 12 يوماً”.
خرجت هنادي من سورية قبل موعد جلستها الأخير الذي كان مقرراً يوم 25 حزيران … قبل أيام أوقفتها السلطات الفرنسية في مطار شارل ديغول عند وصولها إلى باريس قادمة من بيروت، فتحرك نشطاء سوريون لدى الخارجية الفرنسية، الأمر الذي سمح بالإفراج عنها بعد ساعات من إيقافها.
بداية غير موفقة في بلد الحرية … لكنها متوقعة بالنسبة لناشطة سورية من عالم يشارك أو يتفرّج على نهر الدم المسفوح في سورية ….
() كاتب سوري
المستقبل