هناك سوق للماشية ليس إلاّ/ فاروق يوسف
أشاعت قناة “الجزيرة” الفضائية وهماً بين الناس كان شعاره “الرأي والرأي الآخر”، لتذكّرنا بحوادث كثيرة مستعارة من تاريخنا العام والشخصي على حد سواء، غالباً ما كانت تنتهي بفساد العلاقة بين الطرفين. فما من رأي ليكون هناك رأي آخر يقف أمامه ليختصما وتنتهي الأمور إما إلى صلح وإما إلى فراق، إما إلى غرام ملطّخ بالعسل وإما إلى كراهية مشوبة بالسمّ. لم يحن الوقت لطي صفحة الماضي بعد. فدولة صغيرة مثل قطر وهي التي تموّل قناة “الجزيرة”، استطاعت أن تموّل حلف الناتو في حربه على ليبيا، الحرب التي سلّمت ليبيا إلى الفوضى الأبدية.
ما يجري في سوريا اليوم، ما كان له أن يقع لولا التمويل القطري. لقد أنفقت قطر من أجل خراب سوريا وانهيارها مليارات الدولارات، في رأي متهميها، كانت تكفي لبناء مستشفيات وجامعات ومكتبات وأسواق وناطحات سحاب في ذلك البلد الذي نُكب بنظامه الذي أصرّ على المضي في خطته الأمنية ومعارضته التي وجد قيّاديوها في الحراك الشعبي السوري مناسبة للإثراء الشخصي، وليذهب الماضي الثوري والليبيرالي إلى الجحيم.
لقد بيعت الثورة السورية بعد ستة أشهر من قيامها في مناقصة علنية من أجل أن لا يكون هنالك رأي.
فهل سيكون هناك متسع في جيوب أثرياء الثورة للرأي الآخر؟
نضحك على أنفسنا بعدما ضحك علينا العقائديون وقد صدعوا رؤوسنا بالحديث عن النقد البنّاء، عن الحرية المسؤولة، عن الفن الملتزم، عن المواطن الذي هو رقيب ذاته، وهم يقصدون الشرطي الذي ركّبوه في أعماقنا، جرس الإنذار الذي نصّبوه بين ألسنتنا وعيوننا وآذاننا. ضحكوا علينا لأنهم كانوا يدركون أن كل حديث عن الحرية هو محض افتراء. فالغابة التي نقيم فيها والتي اتهم سايكس وبيكو بتمزيقها، هي في حقيقتها مختبر حي يتم من خلاله التعرف إلى درجة وحشية وهمجية الضواري التي هي نحن.
لم يتغيّر شيء في تلك الغابة سوى أن الضواري ازدادت ضراوة في وحشيتها.
خذل صراع الديكة التلفزيوني آمال الكثيرين.
في الحقيقة أن أحداً لا يقول لكي يكون هناك أحد ينصت.
نحن نكذب حين نتحدث عن حوار الأديان والثقافات والفنون والإثنيات وحماية الأقليات. هل سمعتم بالنقد الذاتي الذي كانت الاحزاب اليسارية قد تبنّته نهجاً من أجل إذلال أعضائها من المستضعفين؟ كان هناك دائما مشهد جنائزي يسلّمنا إلى مقابر رمزية. كان الباب مفتوحاً أمام مَن ينقد نفسه لكنه كان مغلقاً دائما أمام مَن يحاول أن ينقد الحزب وفي الأخص ما يتعلق بقياداته أو مشاريعه التآمرية. ولأن المجتمع العربي بسبب غياب المقاييس السوية يتألف كله من القيادات، فقد كان نقد الآخر جريمة.
لذلك انتهينا إلى اللارأي. وهي حالة عبثية يسودها نوع نادر من العبودية يضفي عليه بذخ الخضوع الكثير من علامات الغنج والدلال. سيكون علينا أن نحرّك ملاعقنا خارج الصحون ليحقّ لنا أن نلتهم أكبر كمية من الطعام. لا يحقّ لروبن هود أن يصوّب سهمه إلى التفاحة، حتى لو كانت تلك التفاحة خيالية. فإن ذُكر العراق فعلينا أن لا نذكر الاحتلال ونظام المحاصصة الطائفية والميليشيات الإيرانية، بل علينا أن نركّز على الصراع بين أفراد طاقم الحكم، من غير أن نتذكر أنهم جاؤوا ليلا مجتمعين في سلة واحدة وضعها المحتل الأميركي في المنطقة الخضراء ببغداد. وإن ذُكر لبنان فعلينا أن نضيع في الفروق بين جعجع وعون كما لو أنهما كائنان منزلان لم يقترفا في تاريخهما الآثام التي زلزلت المجتمع اللبناني وسلّمته إلى شيء من خراب يومه الذي صار فضاء يلتقي فيه الله بحزبه. وإن ذُكرت القاهرة فإن الحديث ينبغي أن ينصبّ على الفول والطعمية لا على القطن المصري.
لقد سُرقت قدرتنا على أن نكون أحراراً في طرق تفكيرنا.
وإذا كانت قناة “الجزيرة” قد خدعتنا بشعار “الرأي والرأي الآخر”، فإننا من الضفة المقابلة كنا قد خدعناها حين مثّلنا دور مَن يستمع.
كنا مَن يقول وكنا في الوقت نفسه مَن يسمع. “فهل في الدارين سوانا؟”، كما يقول السؤال الصوفي. السؤال لا يتعلق بمَن يتكلم وبمَن يسمع، بل بآلية التكلم والاستماع. فمثلما سُرقت حريتنا في التفكير، سُرقت حريتنا في التكلم والاستماع. لقد صرنا كائنات تقع في لحظة تكلمها ثم تختفي عندما تحين لحظة الاستماع. يحدث العكس حين تكون الهراوة مرفوعة. نستمع لما يُملى علينا ونوقّع ما كُتب من أجل أن يكون اعترافا شخصيا. ما كتبه آخرون سيكون بمثابة مدوّنتنا الشخصية. رأينا ورأي الآخر معاً. إننا نقدّم ما يُغني الآخر عن الاعتراف. جريمته هي جريمتنا. وما من خيط للبراءة يفصل بين الخروف والعشب، بينه وبين السكّين الذي يستعد لقطع رقبته.
في الحالين، سيكون حقّ النقد مقبولاً.
للعشب رأي وللخروف رأي وللسكّين رأي.
لا أحد يفكر في العشب فهو مداس بالأقدام ولا أحد يفكر في السكّين فهو منسيّ في المطبخ، أما الخروف فإن مطاعم في مدن عربية عديدة ستقدّمه باعتباره “خاروفاً”، وهذا ما يعني انتقاله إلى بلاغة مختلفة. بلاغة الالف المضافة التي تجعله مقدما على سواه من ضحايا وجباتنا التي تتسم بالعداء. نحن حيوانيون في مواجهة جيل من النباتيين متهم بالتخنث. الرجولة أن تقتل، أو على الأقل أن تتمتع بمَن يُقتل. ولأننا نشعر بالبراءة (ليس لأننا أبرياء بل لأننا قررنا ذلك)، فإن كل دم يُسفك من حولنا سيكون حلالاً. فجأة يكون القتل حلالاً. لا رأي لمَن يُقتل. لكننا قتلنا في اوقات سابقة مَن كان له رأي مختلف. شهد العام 1949 مقتل زعيمين: فهد وهو يوسف سلمان يوسف زعيم الحزب الشيوعي في العراق، وانطون سعادة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي. هل علينا أن نصدّق أنها كانت مصادفة؟ يومها تخلصت الأمة من ألدّ أعدائها. وهذا ما يسّر للخروف أن يمدّ رقبته للسكّين، كما لو أنه يقبل على العشب. كانت الرسالة واضحة. شعب يقف على مفترق طريق ضلّلته جملة قالها أبو القاسم الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة”، لكن القدر لم يستجب لأن الشعب أخطأ الطريق.
قطع الشعب أنفاسه ليصل إلى الطريق التي تقع فوق، وكان عليه في الحقيقة أن يلجأ إلى الطريق التي تقع تحت. ولكن أين يقع ذلك التحت؟
من وجهة نظري، كانت قناة “الجزيرة” مخلصة في انقاذنا من ذلك التحت. كانت الوصفة جاهزة. الرأي والرأي الآخر. وهما يقودان إلى المعنى نفسه. فلا رأي لمَن لا يطاع، حسب التعبير التراثي، ولا طاعة لمَن لا رأي له، حسب التعبير المعاصر. ولأننا قد خلصنا إلى المحل الذي نكون فيه مجرد كائنات مطيعة، فإننا لا نملك القدرة على أن يكون لنا رأي. يمكننا أن نقول رأينا في مصير النعام في أفريقيا والكناغر في أوستراليا، غير أن أحدا لن يسألنا رأينا في مصير الحمير التي صار نهيقها يعيد النظر في أناشيدنا الوطنية. في الأخوين فليفل وهما يرددان “موطني موطني”، وما من وطن. هناك حظيرة تجمعنا في انتظار السكّين الذي صار يحلم بالعشب الذي التهمنا خضرته. ما أشدّ خضرتنا لكي يكون العالم من حولنا بريئا. نأكل لكي نعيش، لكي نُذبح، فنكون حينها شهداء. لا يفكر أحد في المطعم بحجم الخيانة التي يشهدها مطبخ ذلك المطعم. نرقص من أجل أن تكون الموسيقى ممكنة. ننصت إلى البيان العسكري من أجل أن نثق بحاسة سمعنا. نفتن بالسكّين من أجل أن نقتفي أثر الخروف على العشب.
في الحقيقة، ما من رأي وما من رأي آخر. هناك سوق للماشية ليس إلاّ.
النهار