هنا باباعمرو
إيمان جانسيز
لطالما عانيت من تهميش حارتي باباعمرو..كل ماحولها كان يزداد ضخامة وتطاولا في البنيان..وكانت هي متروكة كطفلة لقيطة ..لفقرها ولبؤسها…يتهافت الناس على اقتناء بيت صغير في الأماكن الراقية ..هاربين منها..كأنها العار..وحدك أبي الذي بقيت متمسكا بالمنزل الذي بنيته حجرا حجرا ..ورفعت على قمته راية كفاحك الطويل…لم يغرك رقم منته بأصفار عديدة..أو يقنعك بترك باباعمرو والانتقال إلى مكان أكثر رقيا ..متذرعا بعتبة البيت: (عتبة هذا البيت مباركة)..وكنا نتذمر من عنادك..حتى يئسنا و استسلمنا لرغبتك..وتعلمنا أن نبلع الغصة على مضض ونحن نرى تعالي الناس عندما نقول باباعمرو..لم يكن صراعا سهلا ..أن تثبت للآخرين أن باباعمرو تلك قد أحسنت تربيتنا . رغم الحفر في شوارعها..رغم بيوتها غير المطلية ..رغم طرقاتها غير المنظمة..رغم مدارسها التي مازالت تعلم أبناءنا بالطبشورة وترعبهم بالعصا..رغم عدم وجود حديقة واحدة يلعب فيها أطفالنا. حتى هنا في غربتي ..لاحقني نفس الهاجس..فالسؤال الأول الذي يسألك إياه سوري: من وين من سوريا ؟
– من حمص.
– من وين من حمص؟
– من باباعمرو..
– أمممم.
والأمممم تلك مصحوبة بنظرة استهجان..تعني أنه من المؤكد أنك لست من الطبقة الراقية..لست ابنة لمسؤول .. ولعلك لاتتقنين فن الإتيكيت..أو لعلك لست خبيرة بأحدث الماركات..ولاعلاقة لك بعالم الموضة والتجميل .. هذا يعني أنك قضيت نصف سنينك الدراسية ..على ضوء الشمعة.. هذا يعني أنك.. سرت كل يوم طريقك الطويل تحت الشمس وتحت المطر ..إلى مدرستك الفقيرة..تنوئين بحمل حقيبتك الثقيلة، الفقيرة..إلا من عروسة الزيت والزعتر..ودفاتر مازلت تذكرين سمرة وهشاشة أوراقها..كنت تخطين فيها 🙁 أرسم علمي فوق القمم أنا فنان..) لتواجهي أيضا تذمر المدرسات القادمات من مناطق أخرى..يرمقنك بنظرات لطالما لم تفهميها..لم أتنكر يوما لانتمائي.. بل حملت على عاتقي مهمة تصحيح المفاهيم…نعم من باباعمرو..و أسمع بيتهوفن وباخ وموزارت وسيناترا والبيتلز وبوب مارلي….من باباعمرو…وأقرأ ..تشيخوف وباولو كويلهو و كونديرا ونيتشه ومحمود درويش….من باباعمرو..وقد أرغب باقتناء حقيبة من إيف سان لوران أو قرطا من غوتشي أو وشاحا من بربري..(ولكنني أفضل ألا أفعل).من باباعمرو وأبيع حياتي ولا أخون روحي…
أعترف أنني تمنيت ذات يوم ..أن تحدث معجزة ما..تقلب كل الموازين..ولكنها كانت كحلم إبليس في الجنة..مجرد أمنية ..كنت أعرف في قرارة نفسي أنها مستحيلة..
وكيف لا أوقن أنها مستحيلة.. وكل يوم كان يحمل المزيد من الفساد والقمع والرشوة والخواء؟! أية معجزة تلك التي ستهبط من السماء ..لتغير المفاهيم الراسخة.والصور الافتراضية المسبقة..المغرقة في أمراضها الكريهة؟!
وحدثت المعجزة…بتلك البساطة..بتلك الشرارة ..حدثت المعجزة..
وقالت باباعمرو كلمتها.. وخطتها بالدم واللحم المحترق…لا لتمنحوها صك اعتراف بوجودها..بل لتمنحكم طريق خلاصكم…وقربان حريتكم…
هي أيضا تبيع حياتها ولا تخون روحها..