هنا حيثُ لا شيءَ ينتظرني/ نونو جوديس
استعداداتٌ للسّفر
حينما أهيّئ الحقيبةَ، يكون عليَّ أنْ أفكِّرَ في كل شيءٍ
في ما عليَّ أن أضَعه كي لا أنسى أيّ شيء. أمضي إلى
القاموس فأستخرج الكلمات التي ستصْلُح لي
جوازَ سفر: خطّ الاستواء، خَطُّ أفُق،
العُلُوُّ والعرْضُ،
مقْعَدُ مُسافِرٍ مُثابر. يُقال لي
إنني لن أحتاجَ شيئا آخر؛ لكني لا أزال
أُواصِل ملء الحقيبة. ريحٌ غربية لِيَلّا
يَحُطَّ الليلُ سريعا، لمْس شَعَرك
كي لا تنساه يدِي،
وذاك العصفور في تلك الحديقة التي وُلِدتْ
في خلفيَّة البيت، إنه يُغني دون أن يعرف
لماذا. وأشياء أخرى يُمكن
أن تبدو غير مُجدية، لكنْ ماذا سأحتاجُ: جُملةً
مترَدِّدةً وسَطَ الليل، سماءَ
عيْنيْك عندما تفتحينهما، وبعضَ
الأوراق حيث سأكتُبُ ما أملاه
عليَّ غيابُكِ. وإذا ما قيل لي بأني أحمل
متاعا زيادةً، فسأترك كلَّ هذا على الأرض،
وسأمكث وحيدا رُفقةَ صورتِكِ، نجمة
ابتسامةٍ حزينة، والصدى الكئيب
لِوَداع.
■
أليغورْيا
هنا، حيثُ لا شيءَ ينتظرني،
وأنا تعدُّدُ عَدَمٍ وأَثَرُ بقيَّةٍ خالصة،
أترُكُني أكونُ، وأنا متمَدِّدٌ في صميم الأرض مُوَلِّيًّا
ظهريَ للأفُقِ، ومُنْتَظِرًا وقْتًا،
فيَحُطّ الزَّمَنُ كحشرةٍ على كتفي،
يلْمَسُني بجَناحَيْهِ النَّجِسيْن،
يُدَنِّسُني بدقائقَ متمدِّدَةٍ- إلى أنْ
ينْفَدَ صَبْرُ أصابعي،
فَأَسْحَقَه.
■
مَعْرِض
في الجدار، يتلوّى المسيحُ مثلَ سمكةٍ
صيدَتْ لِلتَّوّ. الموتُ انتزع الهواءَ منه،
والتوازنَ، واللَّونَ، ويتضاعف في بياض
الجيرِ كما لو كان متمدِّدًا في كفن.
عيناه مفتوحتان، لا شيءَ ينعكس فيهما،
تنتظران الأصابع التي تُغلق الجفون،
مُخبِّئةً الفراغَ الذي اختفى الحِبْرُ منه
منذ زمان بعيد. يرن جرسُ المتحف
مُنبِّها إلى ساعةِ الإغلاق. أترُكُهُ دُونَ
أنْ أُغلِقَ عينيْه؛ وأحِسُّ، خَلْفِيَ، نَظْرَتَه.
■
الشِّعر
من أين حَلَّ الصوتُ الذي
يُمزِّقُنا في دخيلتنا، الذي
جلب معه المطر الأسْودَ
للخريف، الذي فرَّ عَبْرَ
الضَّباب وحقولٍ
ابْتلَعتْها الأعشابُ؟
هنا كان- هنا
داخِلَنا، كما لو أنه كان
هنا دوْما: ونحن
لم نسمعه، كأنه لم يكن
قد حدَّثنا منذ القِدَم،
هنا، داخِلَنا.
والآن نُريد أن نَسْمَعَه،
كما لو أننا كنا
قد تعرَّفناه في الماضي، فأين هو؟
الصوتُ الذي يرقُصُ ليْلا، في الشتاء،
دُونَ نُورٍ ولا صدًى، وأثناءَ ذلك،
يكون واثِقَ اليَدِ إذْ تمسك بالخيط
الغامضِ للأفق.
يقول: “لا تبْكِ ما ينتظِرُك،
ولا تنزِلْ فورا عبر ضفة
النهر الأخير. تنفَّسْ
في استنشاق وجيز رائحةَ
الرَّاتينج، في الغابات،
وفي الهبّة النَّديّةِ للأشعار”.
كما لو أننا نسمَعُه.
■
صوْتٌ
يُعرِّي غناؤُه الأُفُق:
فتَكْشِفُ رَبَّةُ الْبَدْءِ نَهْدَيِ الصَّباحِ،
فِعْلٌ لا نَظْرَةَ جَرُؤَتْ عليه، تَتَنَدَّى حَلَمَتاها
بالحليبِ العجيبِ للكلماتِ المنسية.
أقولُ: الحُبُّ، والحياةُ، والموتُ متكرِّرًا بين
ذراعيْكِ الذَّهبيَّتيْن والملح؛ فَتَعبر غيمةُ ريحٍ
وظِلالُ سماءِ المقطَعِ الشعريّ. لا تدَعي صورَتَكِ
تُزعِجُ القصيدةَ؛ اِدْفعيه جِهةَ الشَّمسِ، كي يُحْرقَه
فائِضُ الضِّياءِ- في الحريقِ الذي يحجب
عني العلامات الأولى للربيع.
* Nuno Judice شاعر وروائي من مواليد ميكْسِيُوِرا غْرَانْدِي 1949. ولعله أبرز شعراء البرتغال المعاصرين ضمن الجيل الذي خَلَف مجموعة شعر 61.
** ترجمة: مزوار الإدريسي
العربي الجديد