صفحات مميزةغازي دحمان

هنا ناحية بانياس… “سوريا الجديدة”: غازي دحمان

غازي دحمان

توضح الصور الآتية من البياضة والمرقب وراس النبع وبانياس (قرب طرطوس) لحظة إنجاز آلة القتل لمهمتها “المقدسة”، حقيقة المشهد السوري، وطبيعة ما كان ومضمون ما سيأتي، فبينما يلملم سكان المنطقة” السنّة” أطراف جثث مئات القتلى منهم، تعقد حفلات الدبكة والرقص فرحاً وإبتهاجاً في ساحة الشيخ ضاهر في اللاذقية، إبتهاجاً بالنصر المؤزر لأشاوس الطائفة ومقاتليهم الأبطال.

هل ثمة حقيقة أوضح وأكثر جلاءً وسطوعاً من هذا الفرح الفطري وغير الخاضع لأبلسة السياسة وحرتقات مونتاجاتها؟ تلك هي سوريا، وذا واقعها، وكل ما في الأمر أنها تعود الآن من غيبتها القسرية، التي تحنطت خلالها في أطر الوطنية المزيفة، وشعارات فارس الخوري الخارجة عن السياق وخطب سلطان باشا الأطرش اللاحماسية، وصولات وجولات صالح العلي وإبراهيم هنانو ومحمد الأشمر اللا مجدية.

هذه سوريا يطلّ صبحها على أشلاء جثث “سنّة جبال العلويين”، ويشرق من جهة القصير بهمة رجال الله وحسنه “نصر الله”، وكل ما عداها يتضح أنه كان جهداً ضائعاً، ومرحلة سوداء أن لها أن تنكفئ حتى من الذاكرة.

في بلاد الطوائف والقبائل، الثورات خطوط حمراء، المطالبة بتغيير الأوضاع جريمة، التجرؤ على هز معادلات القوة تحرش بالسلم الأهلي، والعقاب في كل هذه الحالات ليس أقل من التنكيل. ولهذا الأخير صور وأشكال تبدأ من الإغتصاب بوصفه ترعيفاً لكرامة الخصم، وإذلالاً يطال الحاضر والمستقبل، وينتهي بتشويه جثث القتلى بعد إعدامهم. وما بين الأولى والأخيرة صنوف من تفتقات العقل الإجرامي.

بانياس صورتنا الكاشفة، صورة شراكتنا الحقيقية في الوطن، صورة الجيرة والعشرة والخبز والملح، صورة سنوات من الأمان الخادع، والذي صار، فجأة، ينز حقداً وكرهاً ورغبة في القتل والإستباحة، في متن الصورة جثث القتلى، وهم خليط من أطفال ونساء ورجال، وماذا عسى أن يكون الناس غير هؤلاء؟

وعلى هامشها، نحن نستجند بالمعتصم ونعقد حفلات الدبكة فرحاً، صورة لإمرأة منقبة تنادي معتصمها، وليس في البال ولا المعني غير رجال “جبهة النصرة”، إذ لم يعد لأحد طاقة على هذا النوع من الحروب إلا أولئك القساة البائعين أرواحهم لحوريات الجنة، أمامهم سيبدو ثوار” سوريا بدها حرية” ناعمين ومراهقين. وفي الصورة المقابلة حفلة دبكة لنساء سافرات يتغزلن بسواعد أبطال الطائفة، التي ذبحت وأحرقت جثث أولئك الوهابيين وسلالاتهم.

هي مرحلة إنتعاش المكبوت، وما جرت ممارسته في السابق لم يكن سوى مجاملات مرهقة ومؤذية، إضطررنا خلالها إلى التغرب عن طباعنا وأمزجتنا. أو بكلمة أخرى، مارسنا أنواعاً من التقية والباطنية، في سبيل أن نهضمكم وما إستطعنا، واليوم نعلن إنتهاء تلك المرحلة البائسة ونظهر لكم بوجوهنا الحقيقية وأمام الكاميرات. “خلص”، كلٌ يتموضع في حيزه. نحن أقليّة، أقليّات، من حقنا فعل كل شيء وأي شيء لنحمي أنفسنا. العالم كله قلق علينا، ويظللنا بقلقه، وأنتم أكثرية، خلاصكم بأن تتحولوا لأقليّة مثلنا، كيف؟ ثمة طرق عديدة لإنجاز هذه المهمة: تهاجرون، تنتحرون، تساعدونا على قتلكم. ولا طريق للخلاص لكم من هذه الإشكالية سوى ما أشرنا لكم به.

هنا ناحية بانياس، هنا الجمهورية السورية الحقيقية، على ترابها الغارق بالدماء، تعالوا نكتب دستورنا الجديد، ونضمنه مبادئنا وأهدافنا، البند الأول: طائفيتنا منطلقنا وقدسنا ومرجعيتنا. البند الثاني: السلطة تؤخذ بالبندقية وتسترد بها. هذه أهم آليات تداول السلطة. البند الثالث والرابع والخامس: تبدأ حدود الوطن وتنتهي عند تماس مصالحنا وتخوم هواجسنا. وفي الختام هذا أحسن ما توصلنا إليه وما أتاحته لكم الظروف وما عليكم إلا القبول.

بانياس كاشفة حقيقة إجتماعنا السوري، هي الوحيدة الأقدر على فعل ذلك. في دمشق من الممكن التعمية والتمويه على حقيقة مشاعرنا، دمشق “الكوزموبولوتية”، تحتمل إمكانية اللف والدوران على حقيقة أزمتنا الهوياتية، بحيث يصبح من الممكن تورية الأبعاد الثانية إلى حين. هنا في بانياس، الأمور تأخذ طابعاً أكثر جدية. هنا مناطق التماس والتداخل، وهنا الطهارة العرقية (في حالة سوريا الطهارة المذهبية) مطلباً وحاجة تفوق أهمية كل إعتبارات التزويق واللف والدوران.

لقد كشفت واقعة بانياس كل ما حاول السوريون إخفاءه بالكلام أو المطالبات الصريحة. لم يكلف الأمر أكثر من مجزرة وحلقة دبكة، على قاعدة أن الصورة خير من ألف كلمة. إذ أن آلاف الكلمات وعشرات الخطب، التي تغنت بوحدة سوريا الوطنية ولا طائفية شعبها، وعقلانيتهم، لم تصمد أمام لحظة حقيقة واحدة أنجزتها سكاكين وحناجر أبنائها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى