صفحات الرأي

هواجس اليسار في المتاهة السورية

سلام السعدي
في بداياتها، أربكت الانتفاضة الشعبية في سوريا حسابات بعض قطاعات اليسار، وبعض النخب الثقافية والسياسية العربية، انطلاقاً من وضع النظام السوري كنظام «ممانع» وداعم لحركات المقاومة في الوطن العربي. ثم ما لبث هذا الارتباك أن تحوّل إلى موقف ثابت ومتصلب في التعامل مع «الأزمة» السورية، وخصوصاً بعد نجاح معارضة الخارج، متأثرة بالتجربة الليبية، في بلورة المجلس الوطني السوري، الذي عمل على استخدام الحماية الدولية تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص على التدخل العسكري. كل ذلك أثبت لداعمي النظام السوري صوابية دعمهم وموقفهم، ودفعهم إلى التشكيك في الحراك الشعبي وغاياته وأهدافه.
وهكذا، فقد صاغ هؤلاء موقفهم الداعم للنظام السوري انطلاقاً من تحليل سياسات وأهداف معارضة الخارج، أي المجلس الوطني، لا انطلاقاً من تحليل طبيعة الحراك الشعبي وغاياته وأهدافه، فكان موقفهم وحيد الجانب، غير قادر على فهم استمرارية حركة الشارع السوري وتجذرها، بما يجعلها عصية على القمع والإخماد. فقد جاءت الحركة في سوريا كجزء من النهوض الثوري العام الذي اجتاح الوطن العربي بعد الانتفاضات في تونس ومصر، فرغم الاختلاف الجزئي للنظام السوري عن قرينيه المصري والتونسي، إلا أنّ جوهرهما واحد: قمع للحريات وتسلط ونهب مستمر وإثراء واغتناء عبر ابتلاع الدولة وأجهزتها وثرواتها وشعبها معاً.
والمتابع لبداية الحراك الشعبي ولتصاعده لا بد أن يلحظ أنّه كان نهوضاً عفوياً، بدون قيادة وبدون أهداف واضحة ومحددة سوى الرغبة في إطاحة النظام الممقوت، مسنوداً بالتغيير النفسي للمواطن العربي بعد نجاح الثورتين التونسية والمصرية. ثورتان حطمتا أسطورة النظام العربي الذي لا يقهر ولا يسقط، فسقط بمشهد درامي وفي أيام معدودة تابعها ملايين العرب في أول بث فضائي حي ومباشر لثورة شعبية عبر التاريخ.
لكن عفوية الحراك وضبابية أهدافه في البداية، لم تحجبا عن الصورة أنّ لهذه الحركة طبيعة تقدمية وإمكانات ثورية لا يمكن إنكارها. فقد كانت القوة المحركة الرئيسية للانتفاضة هي الشعب الثوري: جماهير الفقراء والمهمشون في المدن السورية الضعيفة تنموياً وفي الأرياف، إضافةً إلى الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى. ومن وجهة نظر يسارية، لا يمكن إنكار العناصر الثورية الموجودة بالفعل في الكتلة الجماهيرية المنتفضة. إنّ تحليل طبيعة الكتلة الجماهيرية المنتفضة ضروري وحاسم في الوصول إلى قراءة شاملة ومتوازنة تأخذ جميع العناصر بعين الاعتبار، وتبيّن كيف يمكن حل التناقضات دون ابتسار الواقع بجمل السالب والموجب، والكليشيهات السياسية ذات المنطق الشكلي والأحادي.
وتبقى مشكلة عدم وجود قيادة ثورية، وعدم تنظيم الفئات الشعبية الثورية التي تمثّل أساس الثورة هي القضية الأبرز، التي تعزز من إمكانات سرقة الثورة لمصلحة قوى مرتبطة وتابعة للغرب. ويبقى أيضاً النظام السوري هو المسؤول الأول عن سحق الطبقات الشعبية في عقود الاستبداد الطويلة الماضية، ومنع قيامها بالتنظّم والتشكل المستقل عن المافيا الحاكمة، وبالتالي إضعاف آليات المجتمع الداخلية الوطنية المسؤولة عن المقاومة والتصدي للتدخلات الغربية المشبوهة، ولمحاولات السطو على حركة الجماهير من قبل قوى ومجالس مرتبطة بسياسات النفط العربي. لقد خان اليسار التقليدي الطبقات الشعبية على مدى أربعين عاماً بسكوته عن مطالبها، وعدم دفعها نحو التنظم المستقل عن الكمبرادور المحلي، ويأتي اليوم ليشكك في حراكها ويطالبها بالكف عن ثورتها، زاعماً أنّها تخدم المؤامرة الإمبريالية على المقاومة والممانعة في الوطن العربي، وذلك دون أن يفهم أسباب حراكها ومعاناتها التي اشتدت في سنوات اللبرلة الأخيرة، وأدت إلى سحق وتهميش كبير لأعداد متزايدة من السوريين. ومن دون فهم هذه الحقيقة العلمية التاريخية لا يمكن الوقوف على حل لما يسمّونه «الأزمة» السورية.
التخوّف من الدور الخليجي والغربي هو تخوّف مشروع ومبرر وواجب، لكن ما يحدث أنّ طريقة إدارة النظام لأزمته، فتحت سوريا على كل أنواع الدمار والتدخلات الأجنبية والاستخبارية المحتملة. الشعب انتفض وليس من الممكن إيقافه وإعادته إلى قمقمه قبل حصول التغيير، وتأييد الثورة في سوريا ما دامت شاملة ومتجذرة هو أمر مبدئي، أما من سيستفيد منها، وتخوفات البعض من وصول قوى رجعية إلى السلطة، فهو صراع غير محدود ويخضع لسيرورة ثورية طويلة الأمد. لقد استطاعت تلك الثورات كسر حالة الموات والجمود، وهذا أهم ما يحدث في عالمنا العربي وفي سوريا. لماذا أيدنا الثورة المصرية وكتبنا فيها الأشعار، رغم أنّ نتيجتها كانت وصول القوى الإسلامية وسيطرتها على البرلمان؟ (وهو ما لن يحدث في سوريا بالدرجة نفسها التي حصل بها في مصر)، لأنّ الشرعية البرلمانية ليست هي المحدد لسياسات اليسار وللطبقات الشعبية، الأهم هي الشرعية الثورية على الأرض. شرعية الشارع هي الأقوى والأمضى، وهي التي تسن القوانين وتغيّر الدولة، وهذا ما أطلقته الانتفاضات العربية في كل مكان، وفي سوريا أيضاً، وتأييدها هو أمر مبدئي واستراتيجي، إذ ليس من المنطقي أن نقف ضد تطلعات شعب بأكمله إلى حياة كريمة وعادلة وحرة، بحجة دعم ممانعة مهترئة، وهذا لا يعني في الوقت ذاته أن ندعم معارضات مرتبطة بأجندات خارجية. وعلى ذلك يكون تأييد الثورة تأييداً لشرعية جديدة هي شرعية الشارع، وهذه الشرعية هي حاملة مشروع نهوض حقيقي في الوطن العربي، مشروع الطبقات الشعبية المقاوم الحقيقي للإمبريالية ولنظم الكمبرادور العربي المنحطة من الخليج إلى المحيط.
إنّها مراهنة رابحة على إرادة الطبقات الشعبية وقوة اندفاعها نحو التغيير ووعي هذه الطبقات لمصالحها، فدائماً وعبر التاريخ امتلكت الشعوب حسها السليم والحقيقي. وما دعم الشعوب العربية في مصر وتونس واليمن وبقية البلدان للثورة السورية إلا تعبير صادق عن هذه الحقيقة التاريخية، وما تقاعس وتردد نخب اليسار إلا تأكيد لهذه الحقيقة أيضاً.
الشعب «ماشي وعارف طريقه»، بينما تعيش بعض قطاعات اليسار أوهام «الدونكيشوت» الذي يريد محاربة الإمبريالية بالمثقفين والفيسبوك! إنّ الطبقات الشعبية المنتفضة هي التي تحارب وتنتصر، وغير ذلك أوهام وأمراض نخب مهزومة. نتخوف معكم من الدور المشبوه لقسم من المعارضة المشبوهة، لكن الجماهير المنتفضة في مكان آخر، لماذا نتركها للمتسلقين وللمال الخليجي؟ باختصار سيتغيّر النظام في سوريا، ومن المحتمل أن يكون هنالك بديلان: بديل برلماني رسمي يتسيده الإخوان والليبراليون (كما في مصر وتونس)، وبديل شعبي سيشكل منظماته ومؤسساته ويناضل لاستكمال ثورته وتطهيرها (كذلك مثل مصر وتونس). هذه حقيقة تاريخية سيثبتها المستقبل العربي القادم، ارسموا سياساتكم وتحالفاتكم وناضلوا على ضوئها.
* كاتب عربي
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى