صفحات العالم

هواجس في المأزق السوري


يسار أيوب

تصاعد العنف على امتداد الأراضي السورية يعيد إلى الواجهة المأزق السوري الذي يعيشه النظام والمعارضة على حد سواء، هذا المأزق يحشر البلد في زاوية العنف ويحرمها من إمكانية إيجاد مخرج سلمي يبعد عنها مخاوف الانحدار نحو الفوضى والحرب الأهلية والتقسيم المبني على مصالح فئوية وطائفية.

يبدو الدخول في تحليل العنف المتصاعد للتثبت من هوية المستفيد منه ضرباً من العبث التحليلي، حيث أن النظام وبكل المقاييس هو المستفيد ‘السياسي والأمني’ الوحيد من نتائجه، وهو لا يتوانى عن توظيف أي حدث لمصلحته في المعركة الدائرة على الأرض والتي يعتبرها معركته الوجودية وتجد أبرز تجلياتها في بعض الشعارات التي يرفعها أنصاره المعروفون ب’المنحبكجية والشبيحة’ من قبيل ‘الأسد أو لا أحد’ و’الأسد أو نحرق البلد’ وهي عبارات متكررة تضع المواطن والوطن أمام خيارين إما النظام وإما الهواجس التي يخشاها المواطن السوري على كافة المستويات.

لا تبدو هذه الهواجس بعيدة خصوصاً بعد أكثر من سنة وثلاثة أشهر على اندلاع الثورة في وجه النظام، فالعنف الخطير الذي قابلت به القوى الأمنية المتظاهرين العزل في بداية الثورة السلمية كان السبب وراء محاولة هؤلاء البحث عن فتح ثغرة في الجدار الأمني العازل وفرها المنشقون عن جيش النظام والذين شكلوا ما عرف بـ ‘الجيش السوري الحر’. ولكن الوضعية التي يتواجد فيها الجيش الحر تجعل من المستحيل عليه الامساك بكامل مفاصل هذه الثغرة الأمر الذي وفر إمكانية لتسرب بعض المجموعات الجهادية من لبنان والعراق للعمل في الساحة السورية وكذلك انتقال مجموعات أخرى من حالة الكمون إلى حالة الفعل. وتنظيم القاعدة قد يستفيد أيضاً مباشرة من هذه الثغرة الأمنية للتسلل إلى سوريا والعمل وفق مستوى طائفي، خاصة أن تركيبة النظام تجعل من أي عمل يقوم به يحمل الصبغة الطائفية حتى ولو كان مجرداً من أي دافع طائفي.

الطائفية إذن موجودة، وهي نتاج دولة أمنية قمعية عالم ثالثية، تأخذ بالشكل العام للدولة دون الجوهر وتفرز مؤسسات تنتمي لمستوى الدولة في حين أن الفكر الذي يسيرها ينتمي إلى مستويات ما قبل الدولة، ويبدو النظام السوري راضٍٍ عن هذه التركيبة العجيبة التي تسمح له بتزوير الوعي العام لدى السوريين بل وأكثر من ذلك هو النظام ذاته الذي غذى هذه النزعة عند كل مفترق محوري في الحياة السياسية. ومن أمثلة هذا التزوير المثال الأخير عن انتخابات مجلس الشعب السوري الذي شهد تزاحم مرشحين يتوزعون على فئتين الأولى فئة الاحزاب التقليدية والحديثة والتي ترى في استمرار النظام، وليس رموزه بالضرورة، شرطاً أساسياً لاستمرارها، والفئة الثانية هم المستقلون الذين انخرطوا في لعبة التزوير هذه وفقاً لمصالح وأجندات خاصة بهم ولا ترقى لتكون مصالح وأجندات وطنية. وإسهام الفئتين نابع من صورة ‘ديمقراطية الدولة’ المزيفة والتي تخفي في الحقيقة كل انتماءات ما قبل الدولة كالفئوية والطائفية والإثنية وغيرها.

إذاً تتوزع هواجس المأزق السوري بانكشاف مشهده السياسي وانفتاحه على خيارات مُرّة، تبدأ بالفوضى المسلحة التي يحاول النظام تعزيزها وتركها تنمو إلى حد معين بغية ارهاب الشارع السوري ذاته وإقناعه بالعودة الى حظيرة النظام الأمني وخصوصاً أن للفوضى ‘المدروسة’ ثمن كبير يدفعه المواطن المنتفض وغير المنتفض لا النظام.

إن إصرار الشارع السوري المنتفض على المضي في مسيرة ثورته على النظام قد يدفع بهذا الأخير إلى خيارات أكثر تطرفاً من الفوضى التي يتواجه فيها نظام مع ‘مجموعات مسلحة’ ويدفع ثمنها المواطن. من هذه الخيارات تأتي الحرب الأهلية التي تجد مسوغاتها على الأرض من خلال العنف المفرط الذي يستخدمه النظام، ومن خلال حاجة الثورة السورية إلى الدفاع عن سلميتها بوسائل عسكرية يوفر حدها الأدنى الجيش السوري الحر. إن انعدام التوازن هذا، مصحوباً بعمليات قمع دموي واسعة، قد يدفع بالثورة الى التسلح بشكل اوسع فتختفي المظاهر السلمية كلياً وتحل محلها المظاهر العسكرية الواسعة ويدخل الشعب المنتفض صراعاً مسلحاً مع النظام الذي ولا شك سيلجأ إلى مريديه وإلى عمقه الطائفي وبالتالي تتحول المعركة من ‘شعب ضد نظام’ إلى ‘جزء من شعب ضد جزئه الآخر’. وهذه الحالة هي أسرع وسيلة لتفجر الوطن وليس فقط زوال النظام.

إن تفجر الوطن بهذه الطريقة سيقود إلى هاجس آخر هو محاولة قوننة التفجير هذا من خلال امتلاك مناطق نفوذ خاصة، تتحول إلى دويلات على الشكل اللبناني في فترة الحرب الأهلية، وهذه القوننة قد تؤدي بالدويلات هذه الى محاولة ترسيخ أمرها الواقع من خلال استقلالات بالجملة تحول سوريا إلى أربع دول مستقلة على الأقل بالفرز الإثني ـ الطائفي.

الخروج من المأزق يبدو مأزقاً هو الآخر والطرق تبدو مسدودة في وجه حل الأزمة السورية فلا الطريق التونسي متوافر من حيث وقوف الجيش على الحياد وتدخله في النهاية لإجبار رأس النظام بحمل نظامه معه والرحيل، ولا الطريق المصري متوافر بتدخل الجيش لإزاحة رأس النظام والمحافظة على العسكرة التي يتميز بها منذ نصف قرن، ولا الطريق اليمني الذي مهد له تدخل دول الجوار بشكل مبادرة وتآلف القبائل وفقدان الرئيس لموقعه التوازني بينها، ولا حتى الطريق الليبي عن طريق التدخل العسكري المباشر تحت غطاء مجلس الأمن.

المأزق السوري آخذ في التعقد لا الحل، والنظام ما يزال ماسكاً بمفاتيح القوة على الأرض من خلال أجهزته الأمنية الكثيرة والمتنوعة، بينما حراك الشارع يبدو محافظاً على زخمه رغم عشرات الضحايا الذين يسقطون يومياً، والصراع المفتوح بينهما ما يزال على حاله. الحل يبدو بعيداً ولكن يمكن التكهن على الأقل بمفتاحه الأولي وهو وحدة المعارضة السياسية السورية حول برنامج سياسي مرحلي لإطاحة النظام وبناء سوريا المستقبل. توحد رؤية المعارضة قد يمكنها من الخروج من حالتها المزرية والدخول في منطق الاستثمار السياسي الضروري للثورة السورية ويمكنها أيضاً من صياغة البدائل المعقولة والممكنة وفقاً للظرف السوري الخاص. حتى الآن تبدو مهمات المعارضة السورية شبه مستحيلة ولكنها بالتأكيد أسهل بكثير من مهمة ثورة لا تزال منذ أكثر من سنة وثلاثة أشهر تقارع المستحيل.

‘ كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى