هواجس كافكاوية!/ خيري منصور
في الماضي القريب كان المثقف العربي يشكو من التهميش الذي يفضي بالضرورة الى التهشيم، وهذا ما تبوح به مذكرات وشهادات موسمية وما يستوقف المؤرخين أيضا، فنحن لا ننسى كيف انتهى كتّاب ومثقفون مثل محمد عبد الحليم عبدالله ونجيب سرور وعبد الحميد الديب وخليل مطران مترجم شكسبير الذي دفن مؤقتا في مقابر الصدقة ثم نسي الى الأبد، وكذلك الكواكبي المسموم الذي لم يعثر احفاده على قبره .
وهناك من اكتشف جيرانهم انهم ماتوا بسبب رائحتهم، وما كان يخفف عن هؤلاء الاحفاد هو مصائر الاسلاف من طراز السهروردي الذي قال عبارته الخالدة أرى قدمي أراق دمي، والحلاج الذي أحرق فيما الناس يطرقون اواني النحاس لطرد طائر الزبزب الذي يخطف الاطفال، وتلك بالطبع حيلة من السلطة الجائرة التي تبتكر في كل مناسبة تراجيدية كهذه حكاية من نسج الخيال لصرف الانتباه عما يجري، وأوشك المثقف العربي أن يتأقلم مع شرطه التاريخي، لولا هذه السلالة التي استولدت بانبوب الحزب او الايديولوجيا او الطائفة، لأن المثقف في هذه الحالة يتخلى نهائيا عن وعيه ويتحول الى رهينة، وانتهى الأمر الى ما نشهده جميعا وبالعين المجردة، مثقفون يحرق الجمر قلوبهم وألسنتهم بعد أصابعهم، وأشباه معروضون في الواجهات للايجار، وعلى المبتلى بهذه المهنة ان يختار، فإما العصيان البروميثيوسي ونهش الكبد او الامتثال الببغائي والمشي بمحاذاة الجدران لأن لها آذانا كما يقول مثل عربي أفرزه فائض الحذر والهلع وطلب السّتر!
كان المثقف في الماضي القريب يعاقب اذا اقترف رأيا مضادا للسائد سواء كان سلطويا او اجتماعيا، فالمجتمع ايضا له سلطته التي تتضح عندما ينقض القطيع كله على فرد خرج عن النص او حاول التغريد خارج السرب، لكنه الآن يخاف دون ان يدري ممن ولماذا؟ فهو يشعر بأنه على موعد محتم مع عقاب، او بغموض العقاب الذي لحق ببطل كافكا في القلعة.
انه خوف غير مدرج من قبل في قوائم الخائفين سواء من الدولة او المجتمع وأعرافه او حتى الموت، هو خوف غامض يستوطن المثقف منذ اللحظة التي قرر فيها ان يرى بعينيه ويشم بأنفه ويتحدث بلسانه وقد يكون هذا الخوف من النّبذ الناعم او الطلاق المجتمعي الصامت، ففي حالات الطلاق بين الرجل والمرأة ثمة طلاق صامت تفرزه القطيعة وليس له بينونة كبرى او حتى صغرى، والمثقف الذي يتحدث عن هواجس بشرية خالدة كالزمن والحرية والحنين الى الأبدية يبدو أشبه ببائع ورد في احدى العشوائيات التي يشتبك فيها الأطفال مع القطط في حاويات القمامة، وتشتبك الفتيات مع ذويهن لأنهن اخفين شيئا من عائد البغاء، لهذا عليه ان لا يدهش اذا عاد كل غروب الى بيته بباقة الورد الذابلة، ثم مضغها بكل مرارتها او رماها، وهذا ما قاله الراحل توفيق صائغ عن الصياد الخائب الذي يعود بشبكة خاوية ثم يشتري سمكة من السوق.
* * * * * * * *
باختصار ثمة سؤال أتمنى ان اتوجه به الى عدد من المثقفين العرب الذين رفضوا العودة الى بيوت الطاعة، ومزقوا اللجام وقفزوا برشاقة من الاسطبل الى الرصيف…
هذا السؤال هو: مم تخافون؟ فالفقر بالنسبة لمعظمهم لم يعد سببا للخوف لأنهم تجاوزوه، بل امتطوه ولم يمتطهم الى الضواحي التي لم يبلغها التدجين. ثمة اسباب مبهمة لهذا الخوف، وقد يستغرب البعض اذا قلنا بأنه خوف المثقف من الشّبيه الذي يحاول ان يتقمّصه، فأقصى ما يحلم به المشبه هو غياب المشبه به، لأن الأصل هو ما يفتضح الصورة، والاشباه هي الي تذكرنا بالاصول ..
لم تكن هواجس وكوابيس كافكا من نسج خياله فقط، فثمة واقع يفرزها وهذا ما يؤكده تلميذه التشيكي ميلان كونديرا، حيث عاد الى حيثيات وقرائن واقعية لتلك الكوابيس التي بقيت لزمن طويل مبهمة.
كيف لا يخاف هذا المثقف وهو يقرأ عن حرق آلاف الكتب في مركز للابحاث او في منزل مثقف! فهل انتقل الخوف وهاجرت هواجسه من السلطة الى من كانوا مرشحين لقراءة هذا المثقف، وتكوين قاعدته وملاذه ومصدر قوته؟
اعرف ثلاثة مصائر لمثقفين عرب أحدهم رسام كسرت اصابعه وكان يمكن ان يحدث له ما حدث لفكتور جارا الذي ذبحت اصابعه كالعصافير والثاني صحفي أذيبت اصابعه بالاسيد وألقي في الثلج بإحدى الضواحي والثالث أذيب جسده كله بالاسيد !!
فهل كانت تلك الوقائع عابرة ام هجعت في لا وعينا جميعا بحيث اصبحت اصابعنا تحزر اللحظات التي ترتعش بها ؟
* * * * * * * * *
لم اقترب بعد بما يكفي من هذا الخوف الغامض الذي استشعره شخصيا ولا استطيع تحديد مصادره، واحيانا اشك بأن احساس المثقف بأنه غير مرغوب فيه لأنه اشبه بشعرة في حساء القطيع هو احد مصادر هذا الخوف، واحيانا اشك في ان البوصلة المعطوبة هي السّبب، بحيث اصبحت الجهات الخمس لا الاربع فقط بحاجة الى فض اشتباك.
كيف لا يشعر المثقف بالهلع وهو يرى الفيلة والثيران معا تتقدم الى متاحف الخزف والفخار؟ وكيف لا ترتعش روحه ويصاب بالقشعريرة وهو يرى الأمي المسلح يسخر من النبي الأعزل والغراب وهو يطالب الحمامة بالاعتذار اليه عما تقترف من هديل!
حبذا لو كان لهذا الخوف مصدر محدد كأن يكون سلطة سياسية او حزبا او مافيا، لكنه خوف ملتبس وغامض، ربما لأن الحذر كما يقال يؤتى من مأمنه ومأمن المثقف هو الآخر او المرسل اليه الذي يخاطبه.
كيف لا يخاف المثقف وهو يرى الغباء يكافأ والذكاء يعاقب، كيف لا يخاف وهو يقف مذهولا في حفلة تنكرية يتبادل فيها الأبطال والخونة الأدوار، فالخيل تفحّ والثعابين تصهل والفئران لا تكف عن الزئير!!!!
القدس العربي