هوامش المستضعفين: من المطبعة إلى الإنترنت/ إبراهيم غرايبة
يجد المُستضعَفون دائماً في التقنية الجديدة فرصاً جديدة في التحرر ومواجهة الظلم، وربما يردّ على ذلك بالقول إنها (التقنية) كانت أداة جديدة للهيمنة والاستغلال، ويبدو ذلك صحيحاً أيضاً. ولكن، من المؤكد أنه كانت تصحب التقنية، على مرّ التاريخ، تحولات اجتماعية، تستفيد منها طبقات وفئات، كانت مهمشة أو مظلومة، وترحل دائماً طبقات مهيمنة!
المطبعة جعلت المعرفة والقراءة والكتابة والتعليم متاحةً للفقراء، كما الأغنياء، وأصبح، للمرة الأولى، في مقدور عامة الناس في أوروبا قراءة الكتاب المقدس، .. كان ذلك حدثاً جدلياً كبيراً غيّر في أوروبا حتى اليوم، وكان واحداً من أسس الدعوة البروتستنتية التي انشقت على الكنيسة الكاثوليكية إلى إتاحة الكتاب المقدس لجميع المؤمنين! وفي الهند، كانت القراءة حقاً حصرياً بالبراهمة، ومن يقبض عليه من غيرهم يقرأ الكتاب المقدس يصب في أذنيه الرصاص المصهور، وكان محظوراً على العبيد في أميركا أن يقرأوا أو يكتبوا، وتصل عقوبة من يعمل عبداً وقرأ أو كتب إلى الإعدام!.. أصبح، اليوم، ذلك كله تاريخاً ظريفاً، لا يعرفه ناس كثيرون، ويصابون بالدهشة، ويكادون لا يصدقون حدوثه، ومن المؤكد، بالطبع، أنه في القرن التاسع عشر لم تكن نسبة معرفة القراءة في البلاد العربية والإسلامية تتجاوز 1%.
ويمكن، اليوم، ملاحظة فرص جديدة تتشكل حول الإنترنت، بعضها بدأ، بالفعل، يستخدمه المهمَّشون والفقراء، وبعضها مازال فرصاً واعدةً تحتاج إلى نضال وتنظيم اجتماعيين، ففي التعليم الذي يشكل، اليوم، أحد الأولويات الأساسية والكبرى للأفراد والمجتمعات والدول يمكن إتاحة تعليم جيد، كان يحتاج من قبل إلى سفر ونفقاتٍ كبيرة، لكنه أصبح متاحاً، أو ممكناً، بتكاليف قليلة، يقدر عليها معظم الناس.
مازال التعليم في الوطن العربي يبدو بعيداً عن الفرص الواعدة في الإنترنت، بل مازال عدم القدرة على القراءة والكتابة يمثل حالة بائسة لم تتزحزح بعد! وقد ينصرف الذهن فوراً إلى قلة الموارد، باعتبارها السبب الرئيس، وربما الوحيد، لتدهور التعليم ومستواه، ولكن، هناك عناصر أخرى تؤثر تأثيراً حيوياً في تحديد نوعية التعليم، من أهمها الثقافة ووعي الوجود وإدراك الفرص والتحديات، هذا إضافة، بالطبع، إلى سياسات التعليم، ووضع المعلمين، والمناهج وأساليب التعليم.
ويذكر تقرير التنمية الإنسانية العربية أن الدراسات المتعلقة بنوعية التعليم في البلدان العربية أكدت على غلبة ثلاث سمات أساسية على ناتج التعليم، هي: تدني التحصيل المعرفي، وضعف القدرات التحليلية والابتكارية، واستمرار التدهور فيها. ولعل أكثر جوانب أزمة التعليم في العالم العربي عدم قدرته على توفير متطلبات تنمية المجتمعات العربية، وإذا استمرت عزلتها عن المعرفة والمعلومات والتقنية العالمية، وإذا لم تطبق عمليات إصلاح شاملة وواسعة للتعليم، فإن العواقب على التنمية الإنسانية والاقتصادية ستكون وخيمة.
تفتح تقنيات الحوسبة والتشبيك آفاقاً جديدة في العملية التعليمية، سواء في التدريس أو المناهج أو المؤسسات التعليمية ودورها، ودور الأسرة والمجتمع الذي يكاد يكون ثانوياً، أو غير متكامل، مع دور المؤسسات والإدارة والمناهج التعليمية القائمة.
فيمكن، بموارد قليلة، تطوير التعليم ومواكبة الإنتاج المعرفي المتواصل والمتدفق، والحصول على وسائل معرفية واتصالية وتدريبية، وتؤسس لتعليم جديد قائم على التعليم والتواصل عن بعد، وتمكن من تفعيل اكتساب المعرفة الراقية والمهمة من مصادرها المهمة والأولية، بجهود وتكاليف وتراتيب سهلة وممكنة.
وتمضي الشبكية، أيضاً، بالناس إلى أنماط واتجاهات جديدة في التعليم وإدارته، فالترجمة والتأليف، والإنجازات يمكن إتاحتها وتنسيقها، لتكون بين يدي جميع الناس، والشبكية نفسها تتحول إلى فلسفةٍ في الحياة والإدارة والتعليم والسياسة والثقافية، بديلة للهرمية القائمة، أو التي كانت قائمة، فالناس، في تعاملهم الشامل مع الشبكات، للتعليم والتواصل والاتصال والعمل والتشاور والحصول على المعلومات والمعارف وتبادل الآراء والخبرات والمعارف، وتحويل وتلقي المال والخدمات والسلع، يستبدلون بنظامهم الهرمي التاريخي في الحياة نظاما شبكياً قائماً على المساواة والمشاركة المتحققة فنياً.
إن الحديث عن التحولات الشبكية الشاملة، من الحتمية إلى الانتقاء، ومن الأحادية إلى التعددية، ومن المحلية إلى العالمية، ومن التلقي إلى المشاركة، ومن المطلقية إلى النسبية، ومن الثبات إلى التغير والتحول الدائم، ومن حتمية الجغرافيا إلى فرص الفضاء، لم تعد تفكيراً مستقبلياً أو توقعات، لكنها تحولت إلى حاضرٍ، بل إلى ماض يصوغ فلسفة جديدة مختلفة للعلم والفكر والحياة.
العربي الجديد