هوامش ثقافية
علي كنعان
أفظع ما في المشهد الليبي الأخير أن المقتول يصيح: ‘الله أكبر’! والقاتل بكل مزاج إجرامي محترف يصرخ: ‘الله أكبر’!.. ولا أحد يدري كيف ستنتهي الكارثة! لكن البدايات الفاجعة باتت معروفة، وإن امتدت أكثر من أربعين عاما. فبعد رحيل عبد الناصر، حاول كل طاغية أن يكون بديلا أو امتدادا للقائد التاريخي، لكن العنكبوت لا يمكن أن يكون نسرا. والهوة السحيقة التي تركها غياب ناصر في دوائر صنع القرار العربية، لم يستطع الطغاة أن يملؤوها إلا بالدم والخراب.
ـ 1 ـ
لم تكن الثقافة غائبة عن الشارع السوري أبدا طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وإن حاول الإعلام الرسمي أن يدفع بها إلى زاوية خلفية مهملة من مطبخه الغوغائي المريب. كانت طريقة إصدار البيانات دارجة بيننا، ولا أذكر أن أحدها كان يضم أقل من خمسين توقيعا من الكتاب والفنانين التشكيليين والسينمائيين. والصحافة اللبنانية التي تتمتع بهامش نسبي منعش من الحرية، وبخاصة النهار والسفير، كانت تحتضن تلك البيانات، رغم السيف المصلت على الرقاب. وبين بيان تل الزعتر الذي حظي بـ 56 توقيعا والبيان 99 الذي أشار إليه الأستاذ صبحي حديدي قبل أسابيع، وعلى مدى ربع قرن، أصدر العديد من المثقفين السوريين ما لا يقل عن عشرة بيانات، ما زالت نصوصها محفوظة عند أصحابها أو في أرشيف الصحف لمن يريد التوثيق. ولا بد لي من الإشارة هنا إلى كوكبة من الأسماء المضيئة التي كانت تقوم بصياغة تلك البيانات وتقود مشاركتنا بالتوقيع عليها، وفي رأس القائمة: عبد الرحمن منيف، سعد الله ونوس، برهان بخاري، هاني الراهب، فاتح المدرس.. وجميعهم رحلوا عن هذه الدار لتبقى أطيافهم حاضرة مشرقة وأسماؤهم زاهية وهاجة على مر السنين.
كانت صياغة بيان تل الزعتر، وهو الأول، صعبة وأخذت كثيرا من النقاش. وأذكر أن صديقنا الروائي هاني الراهب كان ميالا للاكتفاء بجملة واحدة تقول: ‘إن قلوبنا تدمى لما جرى في تل الزعتر’! لكن ونوس ومنيف، وربما سعيد حورانية، كانوا مع إغناء مضمون البيان واستكماله بنص نثري واضح، بعيدا عن هشاشة العاطفة الشعرية التي كان بعضنا، ومنهم كاتب هذه السطور، معجبا بها. والسؤال الجارح، بعيدا عن هذه الأطياف: أين نجوم الثقافة السورية من نزيف الدم المسفوك في الشوارع صباح مساء؟ أليس في مقدورهم أن يصرخوا في وجوه الجلادين: ‘كفى’!
ـ 2 ـ
ما يوقظ ذكريات الماضي، ويلح علي في كتابتها، خوفي المتزايد على ثورة مصر وأحلامنا المزمنة في بناء الدولة الجديدة ومؤسساتها الديمقراطية. ومثار الخوف أن مآل الثورة في مصر وللعديد من الأسباب سيترك آثاره، إن إيجابية أو سلبية، على الحراك الاجتماعي في كل بلد عربي، وأولها ما ستؤول إليه الانتفاضة الشعبية في سورية. ورغم الزاوية الضيقة الظليلة التي تعيش فيها الثقافة، بمختلف مجالاتها الأدبية والعلمية والفنية والفكرية، فإني أرى أن العناصر الثقافية والأخلاقية هي من أقوى الأسباب في تردي الواقع السوري. وربما كانت هيمنة الحزب الواحد على مقدرات الدولة والمجتمع هي مفرخة القهر والفساد والتورم القيصري وعلة العلل جميعها، وإن كان الحزب مجرد قناع لما هو أدهى وأفظع.
من يعمل في الإعلام السوري يدرك أن تغطية المناسبات الرسمية، على كثرتها، من أصعب وأقسى مفردات العمل اليومي في سورية. وكانت المفاجأة دائما ماثلة لنا بأن زميلنا المخضرم (ج. أ.) كان ينجز الصفحة في حدود ساعتين أو ثلاث ساعات! وأذكر أن الصديق العزيز ممدوح عدوان – وأنا هنا لا أقوى على تصور غيابه عن ليالي دمشق- تبرع بسهرة شراب حافلة لكشف السر، وكان السؤال: ‘زميلنا العزيز أبا عمار، كيف تستطيع كتابة صفحة كاملة حول تغطية مناسبة مثل: أعياد الثورة، الحزب، الجبهة، الفلاحين، العمال، المعلمين، الاتحاد النسائي، تشرين التصحيح، تشرين التحرير.. وصولا إلى مناسبة رفع العلم في القنيطرة؟’
ولأن الزميل الضيف كان خبيرا بعمله أجاب: ‘يكفي أن تعودوا إلى الأرشيف وتأخذوا ما نشر في السنة الماضية، وليس مطلوبا إلا أن تغيروا بعض العبارات في المقدمة، وتعيدوا النظر في ترتيب الإنجازات، ولا تنسوا أن المسؤولين لا يقرؤون إلا أسماءهم ولا تهمهم غير صورهم وما تحتها من منجزات، وليس لديهم وقت للمقارنة بين سنة وأخرى. إن قادة الحزب والدولة في سورية لم يدخلوا القرن العشرين بعد، وهذه هي الأهمية البالغة والاستثنائية التي يمتاز بها الكواكبي الرائد في إضاءة طبائع الاستبداد!
ـ 3 ـ
أبرع ما في تاريخ السياسة السورية كان التكويع (الانعطاف) الكبير الذي حدث بعد سقوط المنظومة الاشتراكية. ومن يتذكر تلك الأيام لن يفاجأ بالحكمة القيصرية القائلة: ‘إن الحركة التصحيحية سبقت التحولات العاصفة في تلك البلدان’. لذلك اعتبر البيان الاحتجاجي الذي أصدرناه ضد مشاركة سوريا ودخول الجيش السوري في حرب الخليج الثانية تحت إمرة البنتاغون صارخا لدرجة لم تحتمله القيادة القطرية وطالبت باعتقال عدد من الموقعين عليه، ثم اكتفوا بالمساءلة والتقريع وتصحيح زوايا النظر من الانحراف لأننا صرنا ‘صداميين (من أتباع صدام حسين) ونرى الأمور بعين واحدة لا بعينين سليمتين’! وهذا حسب المساءلة اللطيفة التي تلقيتها من أحدهم عبر الهاتف، بينما اضطر الروائي خيري الذهبي لتقديم استقالته من وزارة التربية، وجرت مضايقة آخرين بطرق بوليسية مختلفة. وكانت فرصة نادرة أن تفتح جامعة طوكيو لي الباب للسفر والغياب ثلاث سنوات. وكان رئيس قسم اللغة العربية الأستاذ نوتاهارا يجمع قبضة يده، كمن لا يريد أكثر من حفنة، ويقول لي: ‘إذا رجعت إلى سوريا، فلا تنسَ أن ترسل لنا شيئا من الديمقراطية’، وكان يدرك أنها ديمقراطية منقوعة بالدم!
ـ 4 ـ
يحتفل اليابانيون بالأسبوع الذهبي الذي يبدأ في أواخر نيسان/ أبريل. وقد خطر لي أن أزور هيروشيما وناغاساكي (هكذا يلفظونها بالسين وليس بالزاي). كانت مشاهد الموقع وما فيه من معالم وصور ومعلومات مؤثرة لدرجة لم أحتمل البقاء فتوجهت إلى محطة القطار ولجأت إلى الشراب لأخفف من وقع ما رأيت.
كان في الجانب المقابل من مقهى المحطة كهل في حدود الأربعين نظر إلي ورفع كأسه، فرددت التحية ودعوته إلى طاولتي، فبادر فورا إلى فتح الحديث قائلا: ‘اسمي بيللو، خوسيه بيللو’. وانطلق يتلو الفاتحة بلكنة أجنبية، ثم أوضح بأن جدته عربية من لبنان ومنها حفظ الفاتحة’. وحين علم أني من سورية طافت بعينيه نظرة غريبة مصحوبة بابتسامة ذات مغزى. سألته: ‘ما الغرابة في أني من سوريا؟’ قال: ‘آسف، أنا من فنزويلا.. وأنا لا أعرف من السوريين إلا آمَر وبلال’. عرفت الأخير: إنه الدكتور محسن بلال، نجم الإعلام السوري الآفل والذي كان رئيس اللجنة الخارجية في مزرعة البرلمان السوري، لكن ‘آمَر’ لم أستطع ترجمته إلا بعد حين.. إنه الأحمر، الأمين القومي المساعد ورئيس لجنة المغتربين في الحزب الحاكم.
سألت خوسيه: ‘ماذا وراء ابتسامتك؟’ وكانت خلاصة حديثه: ‘في فنزويلا ما لا يقل عن 600 ألف سوري (يقصد من بلاد الشام)، وإذا تبرع كل واحد بدولارين فقط، فإن هدية السيد الأحمر لن تقل عن مليون دولار في كل زيارة، مع العلم أن عندنا أغنياء من أصل سوري وهم يدفعون العشرة آلاف دولار بسهولة أبسط من دفع فاتورة هذه القهوة’! هربت إلى سؤاله عن الدكتور بلال، أجاب: ‘لا أعرف نوع الهدايا التي التي كان يتلقاها بلال، لكن كنا نأتي لزيارته عند الظهر فلا نحظى بلقائه لأنه لم ينهض بعد، وكان مولعا بمصاحبة صبايا دون العشرين’!
ليس لي أن أعلق على ما قاله الرجل، وإنما أترك الحديث لمن يعنيه أن يعرف ويتحقق كيف ينتشر الفساد المالي لدى من يستغلون مراكزهم الرسمية والحزبية والنقابية. ولا شك أن الفساد في الداخل أكبر وأفدح بكثير من هدايا المغتربين. ويظل المستنقع المالي أهون بكثير من الوالغين في حمامات الدم.
ـ 5 ـ
من يقوى على وقف النزيف الذي يضرج أديم الساحات ولا يقوى على تحريك الضمائر الميتة؟
إن من أشد الآراء غرابة أن بعض المحللين في الفضائيات، وبخاصة من أساتذة الجامعات الذين ينشرون أسماءهم مسبوقة بدال منقوطة (أومذيلة بطربوش حسب التعبير السوري الساخر)، هو أنهم يتجاوزون حدود الفكر والثقافة إلى ميدان القتال حتى كأن واحدهم لا يحمل قلما، إنما يحمل مدفعا رشاشا أو يقود مدرعة ركبها على لسانه. وهذا ما يذكرنا بقول المتنبي: ‘وإذا ما خلا الجبان بأرض…’. وهؤلاء الأساتذة الكبار لا يرون ما يجري في الشوارع ولا يشعرون بحجم الكارثة.
وعلى هامش الدال المنقوطة التي كان المسؤولون السوريون يحصلون عليها من الجامعات الاشتراكية بهدايا زهيدة من الويسكي والدولار، فقد سن الجنرال/ الدكتور رفعت أسد بين ضباط سراياه قاعدة مفادها أن كل من ترفع إلى رتبة مقدم صار من حقه أن يحصل على درجة ‘دكتوراه’ اشتراكية! ويوم تنتصر الثورة وتبنى سورية الجديدة، فإن من واجب الأساتذة الحريصين على المستوى العلمي في الجامعات السورية أن يعيدوا النظر في كثير من مظاهر الفساد والتردي في التعليم العالي. أما فاجعة الدم فلا بد لها من حسابات قضائية مختلفة.
القدس العربي