صفحات سورية

هيئة التنسيق السورية و«آلهة الثورة/ ربيع بركات

قبل عام وبضعة أيام، اختفى القيادي في «جبهة التنسيق الوطنية» عبد العزيز الخيّر مع رفيقيه إياس عياش وماهر طحان بعيد عودته من الصين، حيث أجرى محادثات تناولت العملية السياسية في سوريا. اتهمت أجهزة النظام باختطافه ولم تنفع نداءات إطلاقه حتى الآن. وقد عرف الخيّر معارضاً عنيداً للنظام السوري منذ أن مارس دوراً قيادياً في «حزب العمل الشيوعي» خلال ثمانينيات القرن الماضي. وحين اعتقل العام 1992 بعد تخفٍ دام أحد عشر عاماً، لم يسلم أفراد عائلته المقربين من انتقام السلطة، فاعتدي على شقيقته بالضرب في مكان عام واعتقل أخوه وشقيقته الثانية وأبقي على زوجته في السجن أربع سنوات. أما هو، فقد ظل محتجزاً من دون محاكمة حتى العام 1995، قبل أن يصدر حكم بسجنه مدة اثنين وعشرين عاماً بتهم تراوحت هزليتها بين «مناهضة أهداف الثورة» و«زعزعة ثقة الجماهير بالنظام الاشتراكي». هكذا، أمضى الخيّر قسطاً من محكوميته في سجن «صيدنايا» العسكري سيئ الصيت، حيث مارس مهنته كطبيب بعدما أقنع إدارة المعتقل بتحويل إحدى الزنازين إلى عيادة يعالج فيها رفاقه المعتقلين، واستمر على هذه الحال إلى حين صدور عفو رئاسي قضى بالإفراج عنه العام 2005.

ليس الخيّر حالة إنسانية فريدة في «هيئة التنسيق الوطنية» ولا في سوريا بطبيعة الحال. لكن دوره كناشط سياسي بارز قضى عقدين ونيف من عمره بين التخفي والاعتقال، يضفي على حالته خصوصية معينة، وهي خصوصية يشاطره إياها آخرون داخل «هيئة التنسيق» والقوى المدنية السورية الشبيهة بها، والمحسوبة أساساً على معارضة الداخل.

إلا أن ما ضاعف من خصوصيته ورفاقه داخل «الهيئة»، كان تعرضهم، كأفراد وكتشكيل سياسي، لتنكيل أمني من جانب النظام مترافق مع آخر معنوي من قبل المعارضة التي حظيت بدعم الخارج، وذلك منذ اندلاع الانتفاضة السورية التي تحولت أزمة فحروباً أهلية متناسلة خلال العامين الماضيين.

فـ«هيئة التنسيق» التي خاضت مفاوضات مع «المجلس الوطني» ذي الرعاية الخليجية – التركية بهدف توحيد المعارضة، لم تتوصل مع الأخير إلى اتفاق حول نقاط حساسة كقضايا التسلح وتوطئة التدخل الخارجي على الطريقة الليبية. وقد دفع السجال هذا إلى إطلاق حملة تشهير بحق رموزها، وجلهم على شبه بالخيّر لناحية تاريخهم السياسي، فدأبت أوساط على صلة بـ«المجلس» على اتهامهم بالتعاون مع النظام وبالتبعية لحلفائه الإقليميين والدوليين. ولئن ندر ورود كلام من هذا النوع صراحة على ألسنة مسؤولين في معارضة الخارج تفادياً للحرج، إلا أن «الهيئة» واجهت حملة منظمة من نوع آخر، إذ حوصرت إعلامياً عبر تقليص ظهور رموزها عبر الفضائيات الخليجية المناوئة للنظام، وذلك برغم كونهم الأنشط في نقل الصورة إعلامياً أثناء مراحل التظاهر السلمي الأولى. كما جرى تشويه صورتها في وسائط التواصل الاجتماعي وبين الجماعات الممولة والمسلحة من قوى الإقليم، بعدما رفضت الأخيرة طرحها مبدأ التسوية كسبيل للخروج من دوامة العنف ومسار تحلل الدولة السورية.

وقد كانت مطالب بعض الدول من «هيئة التنسيق» واضحة من أجل قبولها كإحدى واجهات المعارضة أسوة بالواجهات المتداعية اليوم، فطلبت منها أنقرة التخلي عن «حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي يمثل امتداداً لحزب العمال الكردستاني، أقوى الأحزاب الكردية في سوريا، وهو ما رفضته «الهيئة» بطبيعة الحال. فيما برز تعارض موضوعي بينها وبين الخطى القطرية الحثيثة لتسليم «المجلس الوطني» ومن بعده «الائتلاف» ناصية «الممثل الشرعي والوحيد» للشعب السوري في الجامعة العربية، تجاوزاً للوقائع على الأرض. وظهرت موانع تواصل مع المملكة العربية السعودية لأسباب يتعلق بعضها بإصرار «الهيئة» على إبقاء صلات مفتوحة مع جميع الدول بمن فيهم خصوم المملكة الإقليميون والدوليون، إيران وروسيا والصين.

أما لناحية الحكم على أداء «الهيئة» من جانب خصومها في المعارضة السورية، فقد جاء على شاكلة رفضهم التام لكل ما يشكل خروجاً من قبلها عن «المزاج الثوري» الداعي إلى الذهاب في المعركة مع النظام إلى حدها الأقصى.

غير أن تطورات الأسابيع الأخيرة الممهدة لمفاوضات جنيف، جعلت من نصّبوا أنفسهم من المعارضين «آلهة» للثورة السورية يتساقطون موضوعياً، الواحد منهم تلو الآخر، من رواد الفنادق إلى صناع الانتحاريين وما بينهما من دعاة «التحالف التكتيكي» مع الأولين والآخرين.

في المقابل، ثمة من بين كل هذا الخراب من حافظ على ثوابته على طول الخط، ليس من لحظة انطلاق التظاهرات السلمية في آذار 2011 فحسب، بل مما سبق ذلك بعقدين أو ثلاثة.

وفي هذا الإطار، يمكن للمتابع أن يسجل على أداء «هيئة التنسيق» ملاحظات شتى. وللمشارك في الانتفاضة ضد النظام أن يدلي بألف تعليق على برنامج «الهيئة» أو يزيد. لكن أحداً لا يستطيع ادّعاء تخلف رموزها عن الدعوة للتغيير، ودفعهم أثماناً باهظة لقاء دعوتهم، في وقت كان الشارع فيه مستكيناً، وكان السير على طريق الاعتراض الواضح موحش لقلة السالكين.

ومن يظهر انفتاحاً على المراجعة الذاتية من أطياف المعارضة لا بد أن يسلم بصحة كثير من التحليل الذي بنت عليه «الهيئة» مواقفها، تحديداً تلك التي كلفتها تضييقاً وتحريضاً وشتماً من المأخوذين بالمال أو الإعلام أو الأوهام، أو بعض منها جميعاً.

ومن ينصف في المراجعة يلحظ أنها لم تذهب في تهويماتها إلى حد الجزم بسقوط سريع للنظام، ولا أغفلت تمتعه بدعم قطاعات شعبية لأسباب تبدأ بالمصالح والولاء، وتمر بمواقف سياسية إقليمية ولا تنتهي بالخوف من المجهول. وللمُراجع أن يرصد تحذير «الهيئة» المستمر من التحولات البنيوية في الانتفاضة الشعبية (تحديداً إيلاء الأولوية للعسكرة) بما سمح للخارج بالتحكم في مسارها وتوظيفه في اتجاهات شتى. وهي، ببنائها موقفاً على التحليل قبل الأمنيات أو المصالح، خطّت مساراً أقرب إلى العقل، واستطراداً، أقرب إلى الأخلاق… أقله وفق اجتهادها. غير أن «آلهة» الثورة ممن أخذوا عن النظام عقلية الإقصاء وإطلاق الأحكام المعلبة غير مهيئين على الأرجح لمراجعة كتلك. وهذا لن يغير شيئاً في مآل الأمور بطبيعة الحال، فكل منهم سيأخذ حجماً طبيعياً حين تبدأ المساومات على الطاولة وتحتها، فإما أن يتقاعد أو ينتحر سياسياً أو يشارك ممثلاً عن دولته الراعية في التسوية وما بعدها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى