هيغل زياد رحباني وبابا عمرو
أندلس الشيخ
في “فينومينولوجيا العقل” يتحدث هيغل عن عالم النبات في جزء من الكتاب أطلق عليه اسم “ديانة الزهور”، “Blumenreligion”، حيث يشرح فيه خصوصية عالم النبات بالمقارنة مع عالم الحيوان والإنسان. يرى الفيلسوف الألماني في الأزهار رمزاً للطهر المطلق، وذلك لأن “الأنا” النباتية هي “أنا” دفينة ضمن كينونة النبات، ولا حاجة لها ولا مأرب بأن تتجاوز هذا الإطار. فلا “أنانية” في دنيا النبات، بحسب المنطق الهيغلي، الذي يؤكد في المقابل أن الحيوان والإنسان يتحليان بجملة من الغرائز والمشاعر التي تدفع بهما للتعبير عن ذاتيهما وللسعي من أجل تحقيق هذه الذات. بغرض الوصول إلى هذا الهدف، يمكن الحيوان والإنسان على السواء أن يخوضا عمليات مواجهة أو صراع. بينما تبقى كلمة “صراع” غريبة تماماً عن عالم النباتات والورود، الذي يجسد بالنسبة الى مؤلف “مدخل إلى علم الجمال” النقاء بأسمى معانيه.
تبادرت إلى ذهني ملاحظة هيغل هذه وأنا أقرأ حصيلة شهداء الثورة السورية بعد عام على خروج أهلنا في المدن والقرى الثائرة إلى الشوارع من أجل استعادة كرامة سُلِبت منهم منذ حوالى نصف قرن. أكثر من سبعمئة طفل تم قتلهم بأشنع الطرق التي يمكن المرء أن يتخيلها على يد قوات الأمن السوري الضالعة في اغتيال أجمل ما في هذا الكون إلى جانب الورود والأزهار. فإذا ما كان من شيء على وجه البسيطة يجاور عالم الخزامى والبيلسان ويدين بـ”ديانة الزهور”، فهم الأطفال الذين تنتفي عنهم كل صفات الحقد والكراهية والضغينة. وما اغتيال الطفولة اليوم في سوريا، وما مجزرة كرم الزيتون في حمص حيث الأطفال زنابق ميتة لم تبدل أسنانها اللبنية بعد إلا أعمال في منتهى القبح والبربرية تنقل إجرام النظام السوري إلى محطة عليا من محطات اليأس الإنساني، حيث غدت “الأسـدية” مذهباً عصرياً في التعذيب والسحل، ومدرسة جديدة في الإبادة والقتل تنضم إلى باقي مدارس الظلام البشري من ستالينية وفاشية ونازية.
شو مخبرينكن؟
وشو خبّروكن تا جيتوا وفتّوا؟!
بأي حقد عبّوكن تا بلّشتوا الحرب؟
ولاّ إنتوا “جيش” ما بتسألوا؟!
يا عسكر سوريا… شو قالولكن قبل ما فتّوا؟
قالولكن شي ولا قالولكن مشّوا؟
وقت حملتوا هالسلاح كلو… وقت دوّرتوا الدبابات وزقّيتوا الصواريخ بشو فكّرتوا؟
ما في منكن حدا فكّر عالقليلة؟!
مش “سـأل”، لأنو يمكن ما فيكن تسألوا!
بس ما في حدا منكن فكّر “شـو”؟!
“وين رايح أنا”؟
ما في حدا منكن رايح عالجولان قبل بمرة وشايف الجولان؟
ما حدا منكن فكّر “مين رايحين نقاتل”؟!
قد لا يصدّق البعض القول بأن السطور أعلاه ليست تقـريراً إعلامياً لخـالد أبو صلاح وهو يصف اقتحام قوات النظام السوري لبابا عمرو في حمص، بل لزياد رحباني في إحدى حلقات برنامجه الإذاعي “بعدنا طيبين… قولوا الله”، الذي قدّمه في سبعينات القرن المنصرم على هواء راديو “صوت لبنان” مع جان شمعون. أكثر من خمسة وثلاثين عاماً مضت على تأليف زياد لهذه الكلمات التي تصوّر اجتياح الجيش العربي السوري للبنان. اليوم السيناريو الحربي الهمجي نفسه يتكرر، وأكاد أقول بحذافيره، ولكن هذه المرة على أرض سورية وتحت سمائها وبين سهولها ومرتفعاتها.
أستعيد في هذه اللحظة التاريخية التي يعيشها العالم العربي صوت مؤلف “بخصوص الكرامة” للتذكير بأن حافظ الأسد لم يقبض يوماً على أنفاس سوريا فحسب، بل قبض أيضاً على أنفاس بلد صغير جغرافياً كبير ثقافياً وحضارياً اسمه لبنان. هذه الكلمات قد تكون بديهية بالنسبة الى الكثير من اللبنانيين، الذين تعرفوا إلى رصاص بينوشيه العرب وقنابله ومدفعياته من قبل أن يسمع بها اليوم أهلنا في مختلف المدن والمحافظات والقرى السورية. فقسم كبير من هؤلاء لم يكن في الماضي على علم أو دراية بما قام به “حماة الديار” في بلد الأرز نتيجة تعتيم الإعلام السوري الرسمي وتضليله وكذبه ونفاقه في عصرٍ لم يكن فيه بعد فضائيات وأنترنت. الأمر الذي مكّن آنذاك مهندس مجازر حماة وجسر الشغور حافظ الأسد من إيهام السوريين بأن دخول “عسكر سوريا” إلى لبنان هو من أجل خدمة القضية الفلسطينية وإعادة الأمن والإستقرار إلى لبنان. في حين أن زياد رحباني يكشف لنا بلغته العامية الفريدة والوفية إلى حدٍ بعيد في تصويرها لمشهدية الحدث التراجيدي عن سياسة الخداع والتلفيق التي كان يتبعها النظام السوري من أجل فرض سيطرته وبسط نفوذه على بلد نعيمـة وجبران:
شو خبّروكن… شو فهّموكن؟
ولا لا خبّروكن ولا فهّموكن؟!
قالولكن جايين تحمونا؟ جايين تدافعوا عن فلسطين وعن القضية؟
قالولكن “في متآمرين عالقضية موجودين بلبنان… موجودين بالجبل” … هيك معقول؟
معقول هلأد في “متآمرين” بلبنان؟
منّين فاتوا عا لبنان؟ منّين فاتوا كلهن؟ كيف صاروا كلهن بالجبل؟
منّين جمّعوا بعضهن تا صاروا كل هلأد “متآمرين”؟…
عم بيقولوا بإذاعة سوريا – و أكيد اهلكن عم يسمعوا إذاعة سوريا – عم بيقولوا غير شي بالمرة: عم بيقولوا “مطرح ما إنتو موجودين في أمن والحالة هادية والناس رجعت عا أشغالا”…
وين العروبة والقومية؟ والحرية والوحدة والإشتراكية؟ والعدو الغابر؟ والعدو الغاشم؟ والأرض المغتصبة والتحرير والعدو المشترك؟ كلن هاو راحوا بقذيفة عا بحمدون؟!
في الأمس كانت بحمدون والحازمية وتل الزعتر وكسروان وعيون السيمان، و… و… أما اليوم فحمص ودرعا وإدلب ويبرود وخان شيخون. في الأمس، دخلوا إلى بيروت وطرابلس وصيدا وحامات والبترون ولم يخرجوا من هذه الأماكن والمدن إلا بعدما اقتلعوا شجرة الأرز من علم لبنان ليغرسوا محلها بندقية مرفوعة إلى السماء تحملها قبضة يد من حديد. هكذا استطاعوا استبدال منطق الحياة بمنطق الموت، وثقافة الحرية بثقافة الطغيان، ورموز السلام برموز العدوان. ومنـه، إن القول بأن النظام السوري قضى على سوريا سياسياً وفكرياً وثقافياً منذ توليه مقاليد السلطة عام 1970 هو قول منقوص، كمن يعترف بصبرا ولا يعترف بشاتيلا. فصحيح العبارة هنا أن حافظ الأسد لم يكن فقط جلاداً في سوريا وحدها، بل وفي لبنان، وإن أذرع أجهزته الأمنية لم تخنق دمشق فحسب بل طالت وخنقت أيضاً بيروت. إذاً، إن جريمة نظام الحركة التصحيحية على مدى التاريخ هي جريمة مزدوجة تم اقترافها في حق بلدين وشعبين متجاورين. فكما تم اعتقال الشعب السوري عبر عقود، تمت مصادرة الحرية من لبنان، بعدما كانت العلامة الفارقة التي تميزه عن باقي البلدان. اليوم، حين يخرج أهلنا في بانياس والقصير وقارة ودير الزور ومعرة النعمان في تظاهرة تطالب بالحرية والعيش الكريم، فهم ماضون في الطريق من أجل إسقاط النظام السوري في سوريا أولاً ومن ثم في لبنان. إنهم ماضون برغم كل شيء في درب الثورة المحفوف بالمصاعب والتحديات من أجل إعـادة نفحات الحرية إلى أرض الشام وبحر بيروت.
النهار