صفحات الرأي

هي اسم آخر للرأسمالية ومحركها التكنولوجيا/ باسكال لامي

 

 

لا شك في أن الاقتراع أبرم خروح بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخب ترامب رئيساً. ولكننا لا نعلم بعد ما هي النتائج المترتبة على الاقتراعين. وقد لا يكون عام 2016 قطيعة على شاكلة 2001، وهو عام الهجمات على مركز التجارة العالمي وعام انتساب الصين الى منظمة التجارة العالمية، معاً، أو على شاكلة 2008، عام صدع الاقتصاد العالمي. وينبغي التحفظ بعض الشيء عن «رفض العولمة» أو لفظها. فحركة مناهضي العولمة في تسعينات القرن الماضي والغضب الذي ينفجر اليوم في ولايات «حزام الصدأ» التي تشهد انهيار التصنيع فيها، أمران مختلفان. فمناهضو العولمة كان حاديهم حسبانهم أنها تلحق الضرر بنمو البلدان الفقيرة وتحول دونه، وثبت خلاف هذا الحسبان. ونقد العولمة وجه صائب ومحق من نقد رأسمالية السوق. وليست العولمة، على هذا، إلا مرحلة تاريخية من نظام اقتصادي – تقني- سياسي يهيمن على العالم. وإذا أحللنا في مناقشاتنا «رأسمالية» محل «عولمة»، لجلا ذلك مسائل مبهمة كثيرة. ونقد الرأسمالية تجدد من قبل مرات كثيرة. وتعاقبت على الرأسمالية أحوال كثيرة، واضطر نقدها الى مسايرة هذه الأحوال. والعولمة مظهر توسع رأسمالية السوق الإقليمي. وقاطرة هذا التوسع هي تكنولوجيا تتيح فرص انتشار مفاعيل الرأسمالية الاجتماعية الى دوائر عريضة، وعلى نحو عميق وسريع.

فعالمنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عالم شامل بلغ أقاصي حدوده. وأصل هذا كله التكنولوجيا، وعلى مثال تطور الإبحار، من الدفة الى الانترنت. وفي كل المرات، يسحق التقدم التكنولوجي سعر اجتياز المسافات، ويحقق تحقيقاً كاملاً النظرية الريكاردية (نسبة الى ديفيد ريكاردو، 1772-1823)- الشومبيترية التي تنص على أن الأسواق الكبيرة الحجم أقوى فاعلية من تلك التي تقل عنها حجماً، وشدة المنافسة تحسن المردود(ية) والنمو؛ وذلك من طريق سيرورة تدمير/تجديد. ومثل هذه الصدمات تصوغ علاقة الرأسمال بالعمل صوغاً جديداً: وهي تثقل على الضعفاء فوق إثقالها على الأقوياء. وسيرورة العولمة، في قيادة أبنية تحتية تقنية واقتصادية تجر الى تداخل أنظمة السلع والخدمات والسكان والى تعاظم تشابكها، لن يكبحها كابح، فمحركها تكنولوجي. والأرجح أننا نجتاز مرحلة تباطؤ، ولكن العودة على أعقابنا مستحيلة.

وبعض أصحاب الأدوار السياسية يتناولون العولمة من وجوه مختلفة. وعلى سبيل المثل، يحسب فلاديمير بوتين أن العولمة هي نهاية نظام القيم الغربية، وعلى روسيا الاضطلاع بحماية هذه القيم وتفادي الانهيار الأخلاقي الذي يترتب على نهاية نظامها، ويظن بنيامين نتانياهو أن عهد «الهجرة» جاء، ومعه حلت نهاية سيطرة العالم الغربي، وطويت هذه من غير عدوان. ولدونالد ترامب صيغته الخاصة، العُظامية التي ترى في أميركا ضحية هذا النظام الذي تنبغي إدانته. فكل موضع أو موقع من الكوكب الأرضي يفهم العولمة على طريقته، ويولد هذا الافتراق اضطرابات سياسية. ولذا، فحريّ بنا ألا نفرط في تصوير الأمور. فثمة 500 مليون إنسان، من 7 بلايين، تُشْكل عليهم العولمة ويعانون منها المرارة أو الأمرين. وثمة، على الجهة المقابلة، 6 بلايين ونصف البليون. وفي أصقاعنا الغربية، قد نجد تعليل الشكوى جزئياً في التحولات الاجتماعية – الاقتصادية. فتحرير المبادلات من القيود لا يضمن زيادة فاعلية أو تحسناً في مستوى المعيشة إلا إذا رافقته شروط. وبعض هذه الشروط لم يتوافر بعد، مثل توزيع أرباح المردود على الرابحين والخاسرين توزيعاً عادلاً. ويقتضي هذا تقليص الأخطار الاجتماعية.

وتلاحظ آثار الإجحاف في الولايات المتحدة قبل ظهورها في أوروبا. فالولايات المتحدة توزع 35 في المئة مما تنتج، بينما توزع أوروبا 45 في المئة من ناتجها. ويبلغ الرقم في فرنسا 55 في المئة. والوجه الثاني هو الصدمة الثقافية، ويفوق عسر قراءتها وتأويلها قراءة الصدمة الاجتماعية – الاقتصادية. والدراسات التي نشرت منذ «البريكزيت» وانتخاب ترامب تنبه على أثر العامل الثقافي. وعلى هذا، فالقول أن ما شهدناه في 2016 انحراف عن المجرى الطبيعي، ولا يلبث أن يقوَّم، أو القول إنه انعطاف فعلي، رأيان يعصى المراقبين اليوم الحسم بينهما. وما لا ريب فيه هو أن الانتقال من الاندماج الاقتصادي الى الاندماج السياسي ليس يسيراً. فدوائر البلدان والأقاليم ليست من نسيج أناسي (انتروبولوجي) واحد. ويقترح كارل بولانيي قراءة للفرق بين مثالي المجتمعات تقوم على التقابل بين مجتمعات «متداخلة» تدمج الاقتصاد بالسياسة والسياسة بالاقتصاد من غير تمييز، وبين مجتمعات «تخلِّص» الوجه من الآخر. وتقر له بتمايزه واستقلاله. والاتحاد الأوروبي فريد في بابه: فهو يرمي الى جمع الدمج الاقتصادي والدمج السياسي في خطة واحدة. وتنسج نظم الدمج الاقتصادية والتقنية والعلمية روابط تقرب الجماعات بعضها من بعض، ولكنها ليست روابط انتماء وانتساب. والفرق بين الاقتصاد، وأسواقه وأسعاره ومردوده، وبين الأمة السياسية، شاسع وعميق. فالسوق مجردة من النوازع، على خلاف الفعل السياسي، أكان اقتراعاً أو انخراطاً في حركة أو حزب. وقول جاك دولور أن الإنسان (رجلاً أو امرأة) لا يقع في غرام سوق كبيرة، لا تنكر حقيقته. ومن غير أداء وظيفة اجتماعية، يتهدد أوروبا لفظُها وإدارة الظهر لها.

* رئيس معهد جاك دولور الفخري، عن «اسبري» الفرنسية، 6/2017، إعداد منال نحاس.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى