هي السنة الثالثة بتوقيت دمشق
يسار قدور
رغم تشابه الأيام، مثل تشابه الوجوه القلقة في المناطق التي تُسمى آمنة في سوريا، إلا أنّ هذا اليوم يختلف عن غيره من الأيام التي سبقته. فقد حلّ المساء دون أي انقطاع للتيار الكهربائي طوال اليوم على غير العادة، وهدوء غريب يلف المكان منذ ساعات، وكأنّ هدنة غير معلنة قد بدأ سريانها وتوقفت الحرب، أما التبدل الملحوظ في درجات الحرارة فإنه يغري بالجلوس على الشرفة وارتشاف كأس احتفالاً بهذه الهدنة غير المعلنة. تجرني قدماي إلى النافذة فتقفز عيناي إلى الشارع وأتجول بنظري؛ لا شيء قد تغير، فالشارع خال من الناس باستثناء بعض الشبان المسلحين، وحالة حظر التجوال الارادي، التي فرضها الناس على أنفسهم ماتزال سارية. يقتحم الصمت صوت قذيفة قادم من مكان غير بعيد، وتتبعه أصوات رشقات رصاص، معلنةً بدء مسلسل القصف اليومي.
أنسى ترف التفكير بالجلوس على الشرفة وأعود إلى الغرفة، أبحث في محطات التلفاز عن لا شيء، كما هي حالتي دوماً في الفترة الأخيرة. يستوقفني برنامج (حديث الثورة)، يذكرني البرنامج أنّ اليوم هو يوم الخميس، وأن الساعة قد تجاوزت التاسعة بدقائق بتوقيت القصف الدمشقي. يتحدث المذيع عن تجاوز عدد القتلى في سوريا الثمانين ألفاً خلال عامين من الثورة، ينتقل نظري بشكل تلقائي إلى الشريط الاخباري لأجد أنّ عداد الموت السوري اليوم قد تجاوز المئة وعشرين ضحية حتى اللحظة. أنتقل بين المحطات التلفزيونية هرباً من حوار الموت فتطل “أم كلثوم” من إحدى المحطات وهي تغني (أعطني حريتي أطلق يديّ)، يعلو صوت قذيفة تهتز له الشقة فأحس كأنه أصاب أم كلثوم بشظية وأسكتها.
تسألني أمي سؤالها المعتاد: – هي القذيفة قريبة؟ – فأرد عليها: (هاد صوت الاطلاق.. مافي شي)، وهو ذات الجواب المتكرر الذي باتت أمي تعرفه حتى قبل أن أتلفّظ به. نعود إلى صمتنا ويتابع كلٌّ منا عملية عد القذائف وحتى رشقات الرصاص كما كنا نعدّ الخراف في طفولتنا قبل النوم. أكمل حديث الثورة لأجد المحلل العسكري يتحدث عن الأسلحة النوعية التي يجب تقديمها للمعارضة من مضادات طيران ومضادات دروع حتى تُحدث تغييراً في المعادلة العسكرية للحرب القائمة على الأراضي السورية، تتصاعد أصوات القصف بشكل غير مسبوق، أحاول التركيز في أصوات القصف لتحديد طبيعة الأسلحة النوعية القادرة على رد هذه الضربات الكثيفة والتي يدرك كل من يسمعها أنها صادرة عن أصناف مختلفة من الأسلحة الثقيلة. رغم إخفاقي في تحديد نوعية هذه الأسلحة النوعية الرادعة لما يحدث إلا أنّ إحساسي يخبرني أنّ مايتحدث عنه المحلل العسكري في واد وما أسمعه من أصوات تهز المنطقة في وادٍ آخر بعيد تماماً. أرفع صوت التلفاز ليغطي قليلاً على أصوات القذائف المنهمرة، يكون الحديث قد انتقل إلى المحلل السياسي الذي يقول: إنّ دعم المعارضة بالسلاح هو محاولة لخلق نوع من التوازن على الأرض وليس لقلب موازين القوى، وأنّ الوضع السوري سيظل يراوح مكانه لفترة ليس قليلة مقبلة. أحس بدوران من تداخل أصوات القصف وتحليلاته في أذني، فألجأ إلى المحطات التي ما تزال تردد “سوريا بخير” لأجد إحدى هذه المحطات تعرض فيلماً كوميدياً قديماً بعنوان “اللص الظريف” للفنان دريد لحام الذي يرفع الشعار نفسه لهذه المحطات. أكتسب جرعة من الاطمئنان وأحس أنّ “سوريا بخير” بالرغم من أصوات القذائف التي لم تهدأ!.
أتابع رحلتي التلفزيونية ليستوقفني فيلم “الناصر صلاح الدين” على إحدى المحطات التلفزيونية، مشهد رديء لمعركة طاحنة والأرض توحي للمشاهد بأنّ السماء قد أمطرت نبيذاً أحمر، تبدو الصورة أكثر ألفة وانسجاماً، أصوات القصف تخترق الشاشة كما تخترق أذني ويموت الكثير من الممثلين في القصف، يثقل رأسي ويتسلل الخدر إلى جسدي. أحاول متابعة عد الخراف، يجول في رأسي الآن اثنتان وأربعون قذيفة وثلاثة وتسعون خروفاً وسبعة صواريخ؛ ريتشارد قلب الأسد يحشد قواته على مدخل اليرموك محاولاً اقتحامه، صلاح الدين على بعد خطوات من ساحة العباسيين، تحتدم المعركة، قلب الأسد يدخل عكا، قصف عنيف على داريا، يعلو صوت إحدى الجارات على صوت القذيفة: (لولو ادخلي عالبيت يا ماما)، يتسلل رد الطفلة مع أشعة الشمس التي دخلت غرفتي: (أمي اليوم جمعة خليني ألعب شوي)، تتملكني الرغبة في النهوض واللعب مع ابنة الجيران، خبر عاجل على شاشة إحدى المحطات يعيدني للزمن: “23 قتيلاً برصاص قوات الأمن في صبيحة دخول الثورة السورية عامها الثالث”.
هذه كانت ليلة الإعلان عن استمرار الحوار مع الشعب بصوت أعلى.
المستقبل