هي دمشق.. وتلك صورتي الضائعة فيها والضالعة في محبتها
مقدمة أخرى لا بد منها*
محمد كتيلة
لم يكن لي من دمشق سوى إسمها… كانت تكبرني كثيراً ولو لم أولد فيها كلاجئ معدم يتشهى التفيؤ في ظلال وطن مدمى وبعيد، بعد السماوات وقلبي لربما أحببتها أكثر مما أحبها الآن، رغم أنني لا أستطيع فك وثاقي عنها ولا في أي وقت ولا الهروب من حنيني إليها ولأهلها، رعاة الحب والتسامح والمحبة… وكأول مكان خبأت فيها صرختي الأولى، وهي دمشق ذاتها التي حضنتنتي رغم بؤسها وجراحاتها، وتلك صورتي الضائعة فيها والضالعة في محبتها .
عشت فيها زمنين متشابهين، لا يفصل بينهما شئ سوى كمية الألم ونوعية الحياة المزرية المليئة بالثقوب والقهر، ولولا ذلك لعشقتها: ألم المنفى بعيداً عن وطن لا أعرف منه سوى أم حبلى به كل الوقت… وألم السجن لمدة خمس سنوات مضاعفة، محاطاً بلازمنٍ يحاصر كل جهات القلب كيفما تلفتَّ يرتطم بالفراغ وبخيبة مصحوبةٍ بعدم لا يطاق… زمنين يتخاصمان ولا يفترقان، إن إبتعد أحدهما عن الآخر يوحد بينهما طاغية له العديد من الوجوه لطبيعة واحدة… طبيعة إستبدادية تربت في الكهوف والمغاور، يكره كل ما يتحرك على الأرض ويخاف حتى من نفسه إذا ما إستيقظ فيها شئ من العاطفة أو أي إحساس غريزي… خوفه نبع قوته المستبدة التي لا تقهر، إستطاع بمكره ودهائه الشيطاني أن يسجن الحياة وكل ما يدب عليها، حَوَّل دمشق الخضراء الفيحاء الطالعة من عيون بردى كملاك مغناج إلى صحراء تلهو بالعطش بحكمة الصبار لكي تنكشف له صاغرة طائعة، أرادها أن تبكي وبصمت… يجافي أي نوع من الكلام في دمشق وفي بقية المدن السورية الحمائم، ويتوجس من أي نوع من الرفض والإحتجاج ويشْتَّمه بمجساته عن بعد، حتى ولو كان المرء أخرس.
كان يعرف جيداً، أنه إذا أراد الإستمرار وإلى الأبد، فيجب على جميع البشرأن يعيشوا زمنه الخاص المتعجرف المتكلف وما يفرضه بالرصاصة والهراوة وما يضمره في خفاياه المعتمة المليئة بالأسرار… أخرج الحياة من عقاربها وغرز ثوانيه في ليل البشر كي لا يستطيعوا النوم العادي والمألوف…. فأي نوم هادئ قد يأتي بأحلام تستدعي حياة نظيفة !… النهار يطل من إبتسامته الذئبية الشرسة، فساد من حوله الإرتباك واقشعرت الأبدان من هول ما تبدى منه من حقد وكراهية لتعزيز أركان العرش… تستهل نهارك من صباحه هو دون أن تعرف ماذا ستفعل، فهو بوصلتك في الحياة ووصلتك الوحيدة ببدايتها ونهايتها معاً .. ملاكاًً كنت أم شيطاناً، تلميذاً أم مدرساً، مهنياُ أم فنياُ، تابعاً أم متبوعاُ، طبيباُ أم مريضاً، عسكرياً أم مدنياً، فارساً أم جباناً، قاتلاً أم قتيلاً، معدماً أم غنياً، مؤمناً أم كافراً، صاحب رسالة أم صاحب سفالة، رضيعاً أم كهلاً، مناضلاً فارغاً في جبهته القاحلة أم مناضلاً ثورياً، قاضياً أم مجرماً،…اصبح لكل هؤلاء وغيرهم من البشر مهمة واحدة لا تبدل ولا تؤجل وواجب مقدس: كيفية إرضائه والذوبان فيه، ولا خروج منه إلا بالطاعة أو الفناء… ولكي تنجح في مهنتك الجديدة وفي إختيار المصير، كان يجب أن تنسى عملك الأول وهدفك الأصلي من الحياة وكل ما تؤمن وتفكر به ومن أنت ومن تكون، فالحياة هو ولا إيمان إلا به ولا هدف من بعده ولا أحد سواه ولا مكروه ولا وطن ولا رسالة ولا عنوان.
الزمن الأول كان يكبرني فلم أستطع أن أتعرف على دمشق كما ينبغي لأن هويتي ورغم التشابه كانت تفصلني عنها عنوة، أما الزمن الثاني فكنت أكبره فتعرفت عليها أكثر مما يجب.
وبفعل النكبة كان إسمي داخل أسوار دمشق وتحديداً في أحد البيوت الطينية النائمة على السور خلف الباب الشرقي، يختلف عمن هم من حولي، لقد كان مخلخلاً لا يقف على أرض ثابتة … كنت إذا تلفت إلى الباب الشرقي حيث كانت ولادتي الناقصة تراني وقد يممت شطر باب توما لأستعيد طريق المدرسة الذي يذكرني بأصدقاء طفولة مبعثرة، عاشوا وماتوا هناك والكثير منهم لا أعرف من عنوانيهم حتى هذه اللحظة إلا القليل القليل، فمنهم شهداء ومنهم سجناء حرية ووطن وقضية، والبقية ما زالوا يتعثرون بهوياتهم في المنافي البعيدة عن الشمس والأقرب للحنين .
كنت كلما حاولت الإقتراب من دمشق لتأخذني بين أحضانها وتنساني،تدعوني للإبتعاد عنها وبقسوة… وفي الكثير من المناسبات الدينية كانت تغريني، وخاصة في الأيام الرمضانية والأعياد، لما لها من تأثير قوي علينا نحن المبعدين من حدود الوطن والوافدين إليها كلاجئين من مآذن المسجد الأقصى ومدن الأحلام مثل حيفا ويافا… وبسبب إمتدادها في التاريخ الإسلامي والذي لم ينقطع بعد، بل لا زالت جذوره عابقة هناك ومن يدري إلى متى ستصمد إن لم يحل عنها الطاغية وفراخه الطواغيت !!
هويتي الناقصة مني “تذكرة إقامة مؤقتة للاجئين الفلسطينيين العرب” بعد النكبة الجائرة كانت ولا زالت إستثناء في التاريخ ولا أعرف لماذا أهلنا كانوا يصرون علينا أن نحملها معنا ونحن صغار وأينما تحركنا وكيفما ذهبنا رغم أن حركتنا كانت واضحة ليس لجلائها، بل لأن إسمنا كان يدل علينا – لاجئين – فإلى أين نتحرك كل الجهات موصودة ومرصودة والأرض في غياب تام .
كل الهويات تُعرف على أصحابها ما عدا هذه … لربما كانت التسمية مقصودة كي لا نضيع ولربما كانت إجتهاداً عبقرياً من جهابذة القومية العربية كي لا ننسى !!
وبعد أن إشتد الحنين في الذاكرة وبعد أن أصبحت إقامتنا المؤقتة إقامة دائمة في السجون والمعتقلات ومقابر الشهداء المتناثرة على أطراف المخيمات، فاضت ذاكرة الرب بنا فاستبدل تلك الهوية الصفراء بهوية أشبه ما تكون بهوية البشر في العالم، ولكن في دمشق كان فيها ولا يزال ما يميزها ليستطيع رجال الأمن إصطيادنا وفرزنا بسهولة.
كان لنا ولعشرات السنين فرع أمن خاص يتابع خطواتنا من طلة الفجر وفي الصحو والنوم… على أقدامنا أن تسرح كل يوم صوب الإتجاهات التي يرسمها لنا هذا الفرع الخاص والمسمى من قبل الرب (الضابطة الفدائية) وإذا ما أخطأت الطريق لتعب بسيط أو بسبب مأساة كبيرة حلت علينا يجب أن يستعيدونا مرة أخرى وألف من البيت أو المخيم الذي يعلمنا المسارالصحيح، وكيف علينا أن نسير، ويجب ألا نخطئ درب المخيمات وألا نخرج منها إلا إذا كانت النية أن نعود ومن نفس الطريق، فالمسافة واضحة : من الضابطة وحتى المخيم، أما إذا فكرت أن تغير المسار فيجب أن يكون معكوساً، من المخيم إلى الضابطة.
كنا لاجئين، لكن ليس بالفطرة، نتوحد مع جياع المدينة لا أكثر… لاجئين ومبعدين نتقرب من كل المحرومين على الأرض ممن نتقاسم معهم نفس المعاناة في أوطانهم… تاهت بنا الحياة وتهنا عن تاريخنا… كانت دمشق في تلك المرحلة تشتعل بأعلام الإستقلال وحين أَلجأَنا العالم إليها، بحثنا مع سكانها المعدمين عن لون علم يعلمنا معنى الحرية ، فكان دمنا.
لم نكن نختلف عن سكان دمشق وجياعها… هم المنفيون داخل الوطن ونحن فاقدو وطن، فكان الشبه واحداً… هم يفترشون الأرصفة وبيوت الصفيح والطين ونحن تشاركنا فيما بيننا الخيام والكثيرون منا طاروا إلى أعلى، فنصبوا خيامهم فوق أسطح المدارس التابعة لوكالة الغوث الدولية، بمحاذاة الرياح التشرينية الباردة ومن غير سماء تكفي، فكيف كان لنا أن ننام وبأي كلام كنا نعيش؟
كنا مميزين وما يميزنا عن سكان “حارة اليهود” في وسط دمشق، مفرزة أمن أعدت خصيصاً لحماية السكان اليهود منا نحن الفلسطينيين… ولا أعرف كيف غفلوا أننا كنا في فلسطين وخاصة في حيفا كنا نتبادل الخبز مع الأقلية اليهودية، نتبادل الخبز ليس كقرابين بل كتحية يومية مع الجيران .
كنا لا جئين تائهين، نهتف كل يوم للرب في صلواتنا أن يُرجع غزالاته إلينا لكي تسرح في قلوبنا وتأكل معنا حشائش البساتين من غوطة دمشق الشرقية… لم نكن في دمشق نشتهي إلا ما ينقذنا من المجاعة وما يقربنا في الشبه من ماشية الله على الأرض وحين لم تعد مدخراتنا تكفي إكتشفنا في طريق الجوع كل ماهو أخضر لحين تجف الأرض من الإخضرار.
إسعفتنا وكالة الغوث الدولية بما تجمعه من فتات وتبرعات من نفس الدول التي أَسقطت حقنا في الحياة لصالح الصهيونية التي كان يجب أن يتخلصوا منها فأطفؤوا بذلك حلم الغزاة في السيطرة على بلادهم وأشعلوه في وطننا فلسطين.
منفيون، تم إبعادنا قصراً خارج المدن إلى مخيمات يسهل حصادها وحصارها… مخيمات تحولت إلى سور منيع لدمشق لتصد عنها رياح الخماسين ولإمتصاص الصواعق… فإن إحترقت تُطفأ بذاتها، بحيث لا يمكن لألسنة اللهب الإنتقال إلى مركز المدينة، وإن إشتعلت ولم تنطفئ تترك لحالها ولا يسمع عنها أحد .
مخيماتنا سجننا الأكبر ومكان آمن لنعيش مع النسيان، ومن كانت ذاكرتهم عصية على النسيان غادروها وعادوا إليها شهداء…نزرعهم على أطراف المخيم وسياجات الشوك والعليق ليسهل علينا زيارتهم ولكي نتذكر أنهم ما زالوا يعيشون بيننا… كان إسمهم الجديد يغرينا نحن الصغار لتقليدهم وفرصة لنصبح مثلهم أنبياء أو ملائكة.. كانت هذه طريقتنا الوحيدة لتنفس الحرية والتخلص من مهانة العيش في المخيم لا عمل لنا سوى أن نكون لاجئين ..
كانت عيون المفرزة في حارة اليهود تحاصرنا وتعدنا واحداً واحداً، وخاصة من هم في ريعان الشباب والثورة.. كانت تعاقبنا على هفوات صغيرة، فتلقي بنا كحيوانات لم تروض بعد في إطارات سيارات نتنة وحسب المقاس، وتبدأ بتهذيبنا ضرباً وركلاً وأرجلنا مربوطة بحبال غليظة إلى أعلى، للصغار عشرون ضربة موجعة من رجال أمن مهنتهم كراهيتنا… فكانوا يشتموننا بكلمات تفح منها رائحة عطنة ويركلوا رؤوسنا الغضة الفتية بأقدام حاقدة، فأصبحنا مع الزمن نختصر مهنتهم ونوفر عليهم عناء المهنة عندما يصطادوننا من الزواريب أو عندما يأخذوننا عنوة من أحضان أمهاتنا المتضرعات أو من بين أيادي آبائنا المساكين،مكتوفي الأيادي والحياة، فنمشي معهم حتى المفرزة بطواعية لا يخشى علينا سوى أهالينا.
نكور أجسادنا وندخل في الإطارات ونبكي وأحياناً نستجدي ونخرج من المفرزة بدماء تسيل من وجوهنا وأجسادنا وثيابنا الرثة، وما أن يلامسها الهواء وينشفها نمضي إلى بيوتنا مع الحزن والالام ودائماً نتذكر الوصايا (إياك، إنتبه يا ابن.. نحذرك وسنلعن، وفي المرة القادمة سنقتلك ونرتاح منك ).
أما الشباب المغضوب عليهم بحكم إرتباطهم بفصائل فلسطينية، فكان عليهم المبيت في غرفة صدئة لمدد تتراوح بين الأسبوع وأسبوعين والبعض منهم من لا يقدرون على ترويضه يحول إلى الضابطة الفدائية ليأخذ دروساً خاصة في التعذيب، كنا سنعرفها عندما نكبر.
كم كان رجال الأمن أغبياء وما زالوا.. فنحن وغيرنا كنا نتعايش بطريقة مذهلة ونود بعضنا البعض وخاصة مع السكان اليهود، ولم نكن نكرههم أبداً ولم يكن في نيتنا أن نحاسبهم على فعلة لم يرتكبوها، ومن نحن وهم في النهاية سوى ضحايا منظمة صهيونية إستباحت تاريخهم وسلبوا منا أرضنا … على ماذا نختلف إذا كنا نتقاسم رغيف الخبز وكنا نتفق أن الله واحد !!
الخلافات اليومية بين الأولاد والشباب من الطرفين لم يكن لها أن تؤدي إلى تلك الكراهية لنا وحدنا من مفرزة الأمن، فكنا كصغار نتساءل: هل أُوجدت المفرزة لتهذيب الفلسطينيين فقط من سكان الحارة والتي كانت تجمع بين ظهرانيها كافة الأديان وأحيانا بنسب متعادلة ؟؟؟ لماذا خصصت المفرزة لنا فقط… كان لنا مشاغبات متبادلة، فاللعب والحب يولِدان منافسة وغيرة وحقد عابر، وكراهية بيضاء طائرة، تتبخر بعد إنتهاء اللعب ولا يبقى منها أي أثر يذكر، ولم يكن هناك صراع على شئ نريد الإستيلاء عليه، كل ما كان، بيوت متداعية لسكان عندما ينامون يحلمون حلماً مشتركاً، يبتلعه البرد وقبل أن يطل الفجرعليهم ليلقي تحيته المعتادة قائلاً: صباح الخير يا فقراء المدن، ينهضون متثاقلين لنهار واحد، ويشربون ويأكلون ما يفيض عن حاجة المدينة ويغيبون معاً في القهر والتعب، يلفهم الحزن تسكنهم الهزيمة.
*المقال عبارة عن مقدمة ثانية لكتابي ( “داخل الزمان” ما قبل الجحيم وما بعده ) عن فترة الإعتقال
كاتب فلسطيني يقيم في كندا