صفحات الثقافة

هي هنا هي هنا هذه الوحش الجميلة القاتلة!


    عقل العويط

هي هنا. في الهواء الناجي. في الممزَّق الهواء. في ألياف الدماغ. في شروح الخيال. في الشروخ. في دوار الشغف الجَموح. وفي الأوجاع المفيدة.

فلا تذهبوا بعيداً. لا تبحثوا عنها في ألغاز السفر خلف البحار في الغاب الكثيف وراء الصحارى والأكمات أو في أعماق الأودية.

هي هنا. في جحيم المسام في الأوردة في النظرات في هلوسات  المدن في حدوس القرى في الجادات العريضة في الأزقة في الأزمنة المجهضة في الليل الممعوس في الأفق الممانِع في بيروت في طيّات النهر الكبير في أعالي حرمون وأسرار السفوح في القدس في الجليل في بيت لحم في رفح في دمشق في الجولان الذبيح في باب الهوا في غضب العاصي في النواعير في اللواء السليب في باب شرقي في باب توما في الريف الجريح في الحميدية في الأمويين في قاسيون في بردى في حمص في درعا في حماة في حلب في صلاح الدين في القلعة الشهباء في الدم المراق في الدم الذي ينتظر في النسيم المملَّع في بستان الزيتون في العيون المطفأة وفي تلك التي تشتعل، ولا بدّ، بعد انطفاء.

لا تبحثوا عنها فهي هنا.

حيث هنا يندلع الموت. ويشتعل الدم.

لن يكون فجرٌ إلاّ بها. لم يكن فجرٌ إلاّ بها. لم يكن طفلٌ. ولا مؤذِّنٌ. ولا أيضاً جرس كنيسة.

الواصلون إليها كثرٌ. إسألوا العارفين وافتحوا البراهين. هنا. على مقربة. وفي العالم. الواصلون إليها يصلون فرادى وعلى طريقة الجموع. كثرٌ أيضاً أولئك الذين لم يصلوا إليها. وقد يكونون بعدد رمل البحر. ولا بدّ أن يكونوا أكثر.

إسألوا الواصلين. إسألوا هؤلاء الذين ينتظرون. واسألوا أولئك الذين لن يصلوا. كلّهم سواء. وكلّهم قتلى.

لم يصل إليها أحدٌ إلاّ قتيلاً. لم ينتظرها إلاّ القتيل. والذين صدّتهم فباؤوا بالفشل، كانوا هم أيضاً قتلى.

على طريقها، لا تحصوا أعداد القتلى. لئلاّ تضنيكم الأعداد وأهوالها.

إسألوا الناجين فهم قتلى. واسألوا الشعر فهو قتيلها الناجي. الجميل القتيل الناجي شِعرُها لن يضنّ عليكم باحتمالات جواب. ثم هاكم الشعراء فهم قتلى ناجون بها أيضاً. وإذا أعيتكم سبل المعنى عند هؤلاء حيناً فأسلسوا القياد فحسب. واهرعوا إلى الموسيقى. وإلى هاتيك الكتب التي لم تُكتَب. واسألوا الشعوب. ونداء الثعالب. واختبِروا المدن. وناقِشوا أحابيل الهواء. ونادوا على ضوء القمر. والتمسوا رحيق الذهب العاري. ثم عليكم باليتامى فاسألوهم. واسألوا الثكالى. والحبالى. واسألوا اليأس اللذيذ. واليأس الممضّ. واليأس القتيل. ولا تيأسوا.

موجعٌ وفاجعٌ أن يكون أمرها هكذا. موجعٌ وفاجعٌ أنها لا تُشرق إلاّ هكذا. وكم موجعٌ وكم فاجعٌ أن لا يرتفع جسرٌ مُفضٍ إليها بسوى الهواء قتيلها.

لا تراهِنوا. لا بدّ من ثمن. فعبثاً تصلون إليها بدون ثمن.

ثمنُها الباهظُ الموت. والدم. فيا لها مفترسة!

إذهبوا شرقاً وغرباً. واقصدوا الشمال والجنوب. لا تتركوا واقعاً ولا الخيال. إفتحوا السماء. ما فوقها. وما تحت. سائِلوا الأنهر وفداحة الينابيع. واسألوا كل فجّ عميق. ولا تنسوا بلابل التين والعنب. ولا هسيس الحور والصفصاف. وانبشوا التواريخ القديمة وهذه الحديثة العهد.

أقول لكم لم يصل إليها سوى الدم القتيل. فلا مفرّ.

عشّاقها والطامعون بها قتلى. كلّهم جرّبوا وعرِفوا وأدركوا المصير. أعداؤها قتلى. قاتلِوها قتلى. حرّاسها قتلى. أطفالها قتلى. وشيوخها قتلى.

بين هؤلاء وحدهم عشّاقها يعشقون كونهم قتلى. وهؤلاء نساءٌ ومدنٌ وأريافٌ وأطفالٌ ومكافحون وشعراء وهواء.

وحدهم هؤلاء يستولون عليها بالشغف والشبق وبالجسد القتيل. ويستولون بهوائهم العزيز الذي يشرب جسد الأرواح فحسب.

وهؤلاء يصبحون البلاد وترابها. ويصبحون الفجر وصعود الشمس الى الجبال. ويصبحون ما يحلو للكبرياء أن تكون عليه. وكرامات الشعوب. والأزمنة. والدول.

وهؤلاء يصبحون الأخضر الذي يلي الموت. والدم. فكم كان ليكون استثناءً لو أن هذا الأخضر يجيء، هنا، بدون موت. وبدون دم.

ويا ليتها، هي، تكون هنا، على سبيل الاستثناء، الحلمَ – الواقع الذي يُغني عن كلّ موت. ودم.

ويا ليتنا نستيقظ فلا يكون بعد اليوم، ها هنا، لا موتٌ. ولا دم.

هي هنا. هي هنا.

مأساتها اللامفرّ منها أنها كانت وتكون وستظلّ تكون بالموت. وبالدم.

لولا اللامفرّ هذا، لكنتُ لعنتُها، حاشا، ولكنتُ دعوتُ عليها بالقتل.

لكنْ، لا مفرّ. لا مفرّ. فما أجملها. وما أوحشها.

هي هنا هي هنا هذه الوحش الجميلة القاتلة!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى