صفحات مميزةعمر قدور

… وإنّها لحماقة مثيرة للريبة!


عمر قدور

توحي مسيرة النظام السوري منذ بداية الانتفاضة بأنه فقد توازنه السياسي، ومضى يرتكب الخطأ تلو الآخر، ويهدر الفرص والمهل الدولية واحدة إثر أخرى، حتى فوّت بنفسه كل التسويات الممكنة، والتي كان من شأنها إبقاؤه مشاركاً أساسياً في رسم مستقبل سورية.

مثل هذا الاستنتاج يستند إلى المنطق والحصافة السياسيين، بخاصة أن التجارب التي خاضتها أنظمة مشابهة في تونس ومصر وليبيا لا تزال نهاياتها طازجة، وكان يُفترض بها تقديم الدرس لصانع القرار السوري؛ على الأقل كان بوسعه الاستفادة من الدرس اليمني.

من زاويةٍ محض نظرية، يبدو النظام السوري كأنه يكرر أخطاءه في طريقة التعاطي مع الثورة، فهو في الإطار العام لا يزال مصراً على مواجهة مجتمعه بالعنف المـفرط من دون أي أفـق سياسي موازٍ له. بل إن الإصلاحات الـسـياسـيـة الـتي وعـد بـها بدايةً، على تواضعها، تمخضت عن إجراءات شكلية لا ترقى إلى الحد الأدنى مما يتطلبه النظام نفسه، لا الحد الأدنى من المطالب الشعبية؛ هذا قبل أن يُسحب زعم الإصلاح من التداول أيضاً.

على الأرض لم تفلح الآلة العسكرية في وقف التظاهرات، ولا في القضاء على «الجيش الحر»، إذ تكلّف ملاحقةُ الأخير الذي يعتمد تكتيكات حرب العصابات إنهاكَ الجيش النظامي على مدار الوقت والأراضي السورية، فلا يجد من «السلوى» سوى استخدام قوته التدميرية ضد المدنيين، الأمر الذي يعزز النقمة المتصاعدة أصلاً. وإذا كان الإسراع في زج الجيش، حيث لا حاجة فعلية لذلك، يبتغي استثماره كواجهة للعمليات القذرة التي ينفذها الأمن والشبيحة، فإن توريط الجيش أتى أحياناً بنتائج تخالف المأمول لجهة ظاهرة الانشقاقات التي تنذر بتداعٍ محتمل لكتلته البشرية الأساسية.

وحين لم يكن المجتمع الدولي شديد الاكتراث بالشأن السوري، بادرت الديبلوماسية السورية إلى اتهام جهات خارجية بالتدخل المباشر، ولم توفر حتى بعض حلفاء الأمس الذين لم يتعدوا وقتها النصح الهادئ للحكم. بذل النظام ما بوسـعـه لاستعداء قوى إقليمية وسطية تقليدياً، فضلاً عن الإحراج المتصاعد الذي بات سلوكه يمثّله لقوى عالمية حاولت عدم التورط المباشر بمواجهته، أو أنها أصلاً لا تحبذ رحيله إن أمكن إضعافه وابتزازه.

إن توافر المعطيات الداخلية والخارجية التي توحي بالفشل، مُضافاً إليها الدأبُ على الكذب بصفاقة لا حدود لها، يوحيان بالعجز الشامل، بمعنى تفاقم أزمة النظام إلى الحد الذي أفقده إمكاناته السياسية كما الحال في الفهم المتعارف عليه للسياسة. وإذا استثنينا ما يقدّمه هذا العجز للمعارضة، وما يقدّمه الكذب المفضوح كمادة لتندّر بعض الناشطين وسخريتهم، فإن من المفارقة بمكان أن خصوم النظام الدوليين ينتظرون منه الحدّ الأدنى من اللياقة السياسية، على رغم أن بعضهم اعتاد التعاطي مع هذا النوع من الأنظمة في ما دون السياسة.

لكنها حماقة مثيرة للريبة أن يصر النظام على ما يبدو منافياً لمصلحته، وإذا بررناها بدايةً بوقع الصدمة الأولى عليه، فإن انقضاء أكثر من سـنة على اندلاع الثورة يدفع إلـى الـظن بأن النظام يســتبطن بـسـلوكه هـذا مـصـلحة أكبر من الخيارات الأخرى التي لم تعد مضمونة بطبيعة الحال. من نافل القول هنا إن النظام تهرّب من أي عملية سياسية حقيقية، إدراكاً منه لكونها مدخلاً لسقوطه بأسرع مما قد يتخيل جزء من معارضيه. لذلك بوسعنا مثلاً تأويل إصرار النظام على اتهام جهات خارجية بالضلوع في الثورة، ففي ما عدا الأثر الإعلامي لهذه الرواية على مواليه، يبدو أن تدويل المسألة السورية مطلب للنظام قبل أن يكون مطلباً لقسم من المعارضة، بينما سارع قسم آخر منها إلى التحذير من التدويل في وقت لم يكن هذا الخيار مطروحاً بجدية!

ما تقوله هذه الوقائع أن النظام يفضّل الدخول في مساومات دولية، بخاصة في وجود الراعي الروسي والحامي الإيراني، على الدخول في عملية سياسية داخلية. في مثل هذه المساومة لن يعدو الداخل برمته كونه ورقة من الأوراق، وطالما كانت القوى الدولية الفاعلة غير مستعجلة الحسم، فإن الأوراق الإقليمية التي يمتلكها النظام وراعيه وحاميه سيكون لها تأثير قد يفوق أحياناً تأثير الداخل.

يتوقع النظام عدم حصول تصعيد دراماتيكي سريع من القوى الدولية المؤثرة التي تنظر إلى الداخل السوري كجزء من خريطة جيوسياسية إقليمية متشعّبة، وإن كان لا يغيب عن حسبانها أن النظام بات يستقوي بأوراقه الإقليمية على الداخل، وهي وإن سنحت لها الفرصة لابتزازه بموقعه المتداعي داخلياً إلا أنه ما زال يُمسك بالداخل رهينةً ينفذ وعيده بالـعشرات مـنـها يومـيـاً، من دون أن تغيب عن الصورة الأوضاع الهشة في العراق ولبنان.

حيث لم تكن قوى الأمن والشبيحة والجيش وحدها كافية لمواجهة الانتفاضة الشعبية، سعى النظام إلى الاحتماء بالاستقطاب الدولي، لعل الصراع على سورية في المحصلة يكون أكثر ضمانة له من الصراع في سورية، من دون أن يخلو مما هو معلوم عن مراهنة النظام على عاملي العنف المفرط والوقت. سبق للنظام أن اختبر العزيمة الدولية إبان مقتل رفيق الحريري، وبدا أنه يراكم الأخطاء عبر الاغتيالات المتتالية، لكنه في النهاية نجا بصفقة متعددة المستويات تمتد من العراق إلى لبنان، بينما تمت التضحية تماماً بما سُمي ربيع دمشق.

إن مهلة التسعين يوماً الممنوحة للنظام بموجب خطة أنان، هي بمثابة استبعاد للمواجهة التي يعلم الجميع أنها آتية، وفي ظلها سيحاول كل طرف تحسين مواقعه. يراهن النظام على إنهاك الثورة في الداخل وتهيئة ظروفه الإقليمية واستنفار حلفائه المشتركين مع إيران. أما القوى الدولية فلا شك في أنها تتحسب أيضاً وأولاً المفاعيل الإقليمية للمواجهة الحاسمة. فهي تدرك أكثر من غيرها حساسية الموقع السوري ومكامن القوة الإقليمية للنظام، لكن ما لا يُستبعد ارتداده سلباً هذه المرة على النظام هو أن يكون ضعفه في قوته.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى