وإنَّا على دروبكم لطائرون/ لقمان ديركي
يجلس الشعراء أمام الورقة والقلم بعد تهييء الأجواء وتظبيط الأرجاء. فالخلفية يجب أن تكون لائقة بالشعر والثقافة والرقي، لذلك لا بأس ببعض الكتب المرمية على جانبي الطاولة لتكوين ما يسمونه بالفوضى المنظمة. ومن ثم لا بد من “لمبدير” لإضفاء الجو الرومانسي على القعدة، وكم سيكون جميلاً لو كان في هناك طلة، أو إطلالة، كي يحس الشاعر أنه في العلالي، وأنه فوق فوق والناس تحت تحت، و.. شدوا الأحزمة فالشاعر سيطير الآن.
لكن ليس كل طيران بطيران، فهو يطير ولكنه يحمل معه بعض الأثقال من كتب وشموع و”لمبات” ملونة وموسيقى ذات سمعة جيدة. فليس من المعقول أن يستمع الشاعر إلى الشعبيات من الأغاني، يجب أن يكون مزاجه سيمفونياً. فكنت تراه يدخل إلى محل الكاسيتات أيام أبو عمر حواصلي ملك الجاز والروك أند رول وخليفة ألفيس بريسلي في بلاد مطربها المفضل هو بروس لي. وتراه يتبضع بالسيمفونيات ويعود إلى منزله ويسمّع ضيوفه أنه يستمع إلى بيتهوفن وموزار، بينما زوجته تسلق الموزات مشان الشاكرية.
ينظر الشاعر وهو يشم رائحة الشاكرية إلى مكتبته فيراها صغيرة فيتدحرج على الدرج إلى أقرب مكتبة ويشتري ما كبر حجمه ورخص ثمنه ويعود. يرتب المجلدات بجانب كتب زملائه من الشعراء الذين استطاعوا أن يطبعوا دواوينهم على حسابهم ويوزعوها بالمجان على أصحابهم عساهم بعد كل هذه الشحادة يفوزون بقارئ.
لكن هيهات فلا قرّاء يا أخي، الجهل سمة العصر. هكذا يردد كي ترضى نفسه عن نفسها، ويردد أيضاً بعد أول فشل أن الشعر للنخبة وليس للرعاع، فيقرر أن يطير، يريد أن يتخلص من كل هذه المنغصات، فهو ينشر شعره في الجريدة بانتظام ولكن ما من قارئ، يشارك في الأمسيات ويحضر النشاطات الثقافية ويجيد فن العلاقات وما من قارئ، يقرأ الكتب ويتسلح بالجمل الضخمة والمصطلحات العجبة وما من قارئ، يسمع الكلاسيك ويرقص السلو مع زوجته التي تأخذ لها غفوة على صدره الحنون وهي تتخيل أنها غافية على صدر ماغنوم، بينما يرقص معها ويطير وهو يتخيل نفسه سوبرماناً طائراً مع آلاف الفتيات، فيقتحم العلا في قصائده، ويأسر قلوب العذارى، ويقطع الجرود والصحارى، ويعارك الأيام بعين يقظة لا تنام، يطير فوق الواقع لكن دون طيران، لأنه محمّل بأثقال وأحمال أخفها وزناً طنجرة الشاكرية التي كتب قصيدته على أنغامها، والموزات، والسيمفونيات غير المفهومة، والمجلدات غير المقروءة، وزوجته السمينة، ولغته الثمينة التي هي تاج على رؤوس الأصحاء من القراء لا يراها إلا المرضى.
وبالطبع سيعتقد أن يطير، لكنه يسير، ويظل يسير ويسير إلى ان يأخذ الجبار الكريم أمانته عن طريق المعلم عزرائيل، مثله مثل كثير من الشعراء غيره من الذين يعتقدون أنهم يطيرون، رغم أنهم يسيرون، وعندما تطير روحهم عن جد في السماء سيشاهدون كل حياتهم من الأعالي عن جد هذه المرة، وسيكتشفون أنهم كانوا يسيرون، لكن حتى ذلك ليس تماماً كما يجب، سيكتشفون ومن الأعالي أنهم كانوا يسيرون في مكانهم، يعني يراوحون، ولكنهم سيبتسمون لأنهم سيشاهدون غيرهم من الشعراء وقد مشوا في جنازاتهم وهم يرددون على شفاههم، إنَّا على دروبكم لطائرون.
المدن