واجب الإصغاء لصوتي الحقيقة والوقائع،والترنم بهما، التورط في الثورة المضادة: عزيز تبسي
عزيز تبسي
أشعر بالخجل،حينما أميز بين معتقل،حتى حين يكون من أعز الأصدقاء ورفاق الدرب الطويل،وألوف المعتقلين والشهداء،وعشرات ألوف المصابين بجروح وحروق وأذيات دائمة، وملايين المهجريين.
من غير الجائز إنتزاع الكائنات الشعبية من نسقها المؤسس على زمن فروسي،مشبع بتهليلات ثقافة شفهية سيف بن ذي يزن/الزير سالم/أبو زيد الهلالي…،لنشبهها بالأعمال المشبعة بروحية الإحتراف السياسي ولوازمه.ومن غير الجائز كذلك القول بضرورة الإفراج عن المعتقل السلمي،في إشارة ضمنية إلى كون ألوف المعتقلين/ات والمخطوفين/ات وبينهم مئات من النساء والأطفال،كانوا قد إعتقلوا بكامل عتادهم الحربي،وكلهم من المناضلين السلميين أو المسالمين،لأن المسلح لا يعتقل،المسلح يقتل في المعركة أو بعدها حين يقع في الأسر.
لم يعتقل عبد العزيز الخير في ساحات الصراع السياسي الميداني،من قلب تظاهرة،أو إحتجاج أو إعتصام،أو من تلك النضالات المجيدة المنطفئة كنيازك فلكية،كتوزيع جريدة،أو لصق منشور،أو مشاركة حلقة ثورية في نقاش صاخب،ينفتح على المدى العذب لتدفق الحركات التاريخية المتحررة لتوها من سلاسلها.
كان عائد مع وفد من هيئة التنسيق الوطني بعد جولة سياسية في أيلول 2012،إنطلقت من مطار دمشق الدولي وإنتهت به،ولم نعرف بعد لماذا إكتفي بإعتقاله مع الشابين-ماهر طحان،إياس عياش- اللذين وصلا من دمشق لإستقباله ومرافقته إلى منزله،بينما لم يعتقل الآخرون اللذين كانوا معه في الرحلة ووصلوا إلى بيوتهم بأمان.ولا نعرف كذلك لماذا إتهمت قيادة هيئة التنسيق على الفور،وفق تصريحات متتالية لناطقين بإسمها وإستمرت لبضعة أسابيع،كتائب الجيش الحر في الإختطاف،حتى جرى تفريغ دلالات الواقعة من أثرها المباشر وتبديده.يمكن فهم الإعتقال بكونه تنبيه حاد بوجوب التوقف عن تلك الرحلات،أي التوقف عن إنشاء الخلخلة الجزئية في الخطاب الفاشي.
وكانت وفود الهيئة،قد سبقت هذه الجولة بجولات أخرى عديدة إنطلقت من المكان عينه وإنتهت به،دون أن يعترضهم معترض،على العكس تماماً،يمكن إعتبار الإنطلاق من المطار الدولي مشفوعاً بجوازات سفر مصدقة،بمثابة إيذان أوليّ بالرضى عن المهمة إن لم نقل مباركتها.منه إنطلقت وفود هيئة التنسيق الوطني إلى طهران وموسكو وبكين وروما والقاهرة وبيروت وسواهم.يمضون بحقائبهم المحشوة بمطالعاتهم السياسية التي تعود لما قبل 18آذار2011،ويعودون بها محملة بالوعود الكاذبة وآخر تحديثات الخدع السياسية ومراوغاتها،وكأنهم دخلوا في مهمة لن تنتهي،إلا بإنتهاء وقودهم أو وقود الطائرات التي تنقلهم أو الإثنين معاً.
لا ثقل لأهمية مناقبية الرجل أي رجل،المرأة أي إمرأة حين يجري الحديث عنهما في سياق إنتفاضة شعبية ثورية،ليس لكون كل الأفراد سيكونون صغاراً أمام المأثرة الكبيرة فحسب،بل لكون الإنتفاضات/الثورات تقدم صيغها التعريفية لحقيقة الخصال والمناقب المنبثقة عنها،من كان يعرف محمد البوعزيزي قبل إحتجاجه بحرق جسده ومن بقي لا يعرفه بعد المحرقة،ومن كان يعرف إبراهيم القاشوش وغياث مطر وهادي الجندي وأحمد البياسي..والمئات قبل النعوات الثورية التي تعلن إستشهادهم،بإنغماسهم الكلي بالتراب الوطني وصعودهم إلى الأعالي،كغيوم الحرية وقصف رعدها.
الثورة مرتكز تأسيسي لا يمكن القفز فوقه وتجاهله،الموقف منها ومن سيرورتها ومن الآليات المقترحة للإنخراط بها ومن تبصر التعقيدات التي تواجهها،والأحابيل التي تنصب لها،والإفتراءات التي تحاصرها.تبدأ من هنا إعادة تقييم وتنضيد للمجموع البشري،وهو يشكل إصطفافاته ويتبصر مهامه ويحسم خياراته.
لا يهم في الزمن الثوري،البحث والحديث عن أول من تحدث بالحريات العامة،ومن إعتاد إستخدامها كطبق مقبلات جانب كأس العرق،أو من كان يتلهى بها ويتجمل بألوانها ويترنم بأناشيدها،ولا يهم كذلك من يتذكر الآن في حمية صعود أنفاس الحرية،أنه كان سجيناً في سنوات ماضية،ليعمي البصر عن إصطفافه الآن خلف الطغمة العسكرية وهجماتها الحربية،والتستر على الطرق التي أوصلته إلى حزمة من الإمتيازات الشخصية.
السجن في ذاته تجربة قاسية،قد تكون من أقسى التجارب التي يخضع لها البشر،كما هي آلام ومعانات الإصابة بالأمراض الخبيثة.لكن بالمقابل ،ليس من الضرورة أن تقدم تجربة السجن وعياً ديموقراطياً،أو وعياً بالحرية وضرورتها،يمكن أن يتمخض عن تجربته صعود للنزعات السكونية-الإنكفائية،أو التصالحية مع السلطة السياسية وعموم القوى الإجتماعية التقليدية،أو الإنتقامية العمياء…….الخ.
عندما لا يدافع عن المناضل الوطني إبراهيم هنانو سوى أهل بلدته(كفر تخاريم)ولا يرى مناقبه سواهم،كأنما لتلك المناقب أن تختفي عن الكل ولا تظهر سوى للخاصة،ككرامات أولياء الله الصالحين وأصحاب الخطوة،لتبقى هذه النظرة ذات الأساس الميتافيزيقي، مدخلاً لتجريد الشخصية من عموميتها،أو أن عموميتها حالة إفتراضية، ثمرة لأيديولوجية الجماعات الصغيرة،التي طالما عجزت عن نقل شخصياتها الخاصة إلى المجال العمومي.كان يمكن أن يحصل ذلك في زمن مضى،يغلقه الإستبداد بقوة ويمنع إنتاج رواية مضادة أو موازية.
توضح التواريخ القريبة أن”الفارس الذهبي”كان يرسل أعوانه ليهددوا المنافسين له،وأحدهم قضى قتلاً في سجن صيدنايا،بعد أن جهر بقناعته أمام السجناء بالدور الإنتقامي للسماء،بعد واقعة وفاته،التي حولتها السلطة على مايشبه المآتم الوطنية،برفعها إلى مرتبة الشهادة بدلالاتها الدينية العميقة،وإغفال حقيقة حادثة سير الناتجة عن السرعة والرعونة في قيادة السيارة.لا يمكن إختلاق تاريخ من هوامات نضالية وفكرية وسياسية.إن الزمن البورجوازي المسيطر وما يوازيه من حالات متلاصقة معه،زمن راكد،ولم ينتج بطولات عبر تاريخه،لكنه بالمقابل لا يكف عن إفتعالها وحراسة أكاذيبها،كتكريس جنرالات عسكريين مهزومين بأوسمة البطولات وآكاليل الغار،أو إعلان وزراء الجوع والتبعية رجالات تنمية.
في يوم الجمعة18 آذار إنطلقت الإحتجاجات الشعبية في مدينة درعا على أثر إعتقال سابق لمجموعة من تلاميذ الإبتدائي وإخفائهم عن أعين أهلهم،كانوا قد إتهموا من الأجهزة الأمنية بأنهم كتبوا،بتأثير الإنتفاضات الشعبية العربية في تونس ومصر ،عبارات على الجدران تتوعد السلطة وتسخر منها،ما لبثت أن تحولت إلى إنتفاضة شعبية ثورية،وتوسعت تدريجياً لتشمل بشكل كامل أو جزئي عموم المدن السورية.
من هذه الحركة وما سبقها من نزول شعبي عفوي إلى الشارع-إحتجاجات سوق الحريقة/السفارتين المصرية والليبية/أمام وزارة الداخلية….-بدأ يتحرك الساكن في الحركة السياسية التقليدية،في محاولة لإدراك الوقائع وإتخاذ موقف منها،وإنطلقت الحوارات والنقاشات،لتعويض التخلف،الذي بدأ يتوضح، عن الحركة العفوية،ليؤدي بعد سلسلة من اللقاءات والإجتماعات والإصطفافات إلى تشكيل وإعلان هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير،التي يمكن إعتبارها،إمتداداً خطياً للمقاربات السياسية للتجمع الوطني الديموقراطي في المرحلة التي سبقت18آذار،وعملت على أن تستمر بعدها.مما كرس وعمق فيما بعد الفجوة بين لاءاتها الغامضة،إن لم نقل العمياء:لا للعنف/لا للطائفية/لا للتدخل الخارجي،في زمن ينفتح بحزم على ثورته،التي لا تحتمل الغموض و الإلتباس،متصاعدة بقوة في الإنتفاضة الشعبية ومطالبها العفوية الواضحة والأعلى صوتاً.
مما وضع هيئة التنسيق بزمن قياسي في موقع المساءلة الشعبية عن مدى جدارتها في تمثيل الإنتفاضة وقيادتها إلى تحقيق أهدافها.رغم ذلك كانت خطوة متقدمة على مستوى التنظيم والحشد لأوسع عدد من القوى السياسية،بأمل أن تساهم الإنتفاضة الشعبية الثورية،في بلورة مواقفها وتصليبها،بشرط الإنحياز إليها.رغم العديد من الأسئلة يحيط بها وبتشكيلها وإنطلاقها منذ إجتماعها في بلدة حلبون قرب دمشق آب 2011.لكن لايعول في الزمن الثوري،على حجب الحقائق العميقة،التي لا تلبث من الظهور بوضوح،فبدلاً من إقتراب هيئة التنسيق من الإنتفاضة الشعبية الثوريةومقولاتها ومطالبها،بدأت تتقلص الفوارق بينها وبين الحزب السوري القومي وحزب الإرادة الشعبية وتيار بناء الدولة وسواهم،وظهرت عليها كذلك ملامح التستر على الوظائف العسكرية والأمنية لأبرز حليف كردي داخلها-الإتحاد الديموقراطي الكردستاني وميليشياته،وهي من أنتج المطولات الهزلية عن السلمية وبنات خالتها-لتظهر الهيئة بلا هيئة،وكأنها بذلك تصل بأشهر بأثر من قوة الإستقطاب الثوري، إلى سقفها السياسي النهائي،وهو ما تأخر لأكثر من ثلاث عقود من الزمن السياسي الراكد ليوصل التجمع الوطني الديموقراطي إلى النتيجة ذاتها.
أسئلة كثيرة يتوجب طرحها على المعارضة التقليدية،التي شكلت بمجموعها عبئ على الإنتفاضة الشعبية الثورية:ما المهام التي حملتها هيئة التنسيق،وما هي المهام التي أضيفت لحمولتها؟وماذا تبقى من فروقات،بعد قوة الفرز السياسي والإصطفافات الناتجة عنه،بينها وبين الجبهة الوطنية التقدمية.ولماذا لم تسفر الرحلات إلى تلك العواصم عن أي نتائج مباشرة كإطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصائر المخطوفين،وإعادة الجيش لثكناته،وفتح تحقيقات بالمذابح الجماعية،ولماذا حصل ما هو عكس ذلك بالتمام،لتتعمق الإندفاعة الفاشية بقوة أكثر حسماً وبطشاً ووضوحاً؟
ستفتح يوماً،هذه الصناديق السوداء لينقب داخلها عن الحقائق،لكشف تلك”العمليات الغامضة”وفق تعبير ميشيل فوكو ،حيث يتوضع التاريخ المظلم للتحالفات والتنافس بين الفرق والجماعات،وتنافر المصالح بين الفئات وإرتهانها،تاريخ السطو على الإنتفاضة الشعبية الثورية.
ومن حق الناس أن يعلموا كذلك،من أفشل لقاءات الدوحة لتوحيد المعارضة-وفق صيغة التحالف الوطني السوري أو الإتلاف الوطني أيلول2011،الذي وقعت على بيانه:هيئة التنسيق/إعلان دمشق/مجموعة العمل الوطني/لقاء التنسيق الديموقراطي/التيار الإسلامي المستقل.ومن أفشل بعدها بأشهر تفاهمات القاهرة بين الهيئة والمجلس،التي وقع على مسودتها رئيسا المجلس برهان غليون والهيئة في الخارج هيثم مناع.
مَن مِن القوى عمل بدأب على نقل الإنتفاضة الشعبية الثورية إلى أحضان الإمبريالية والدول الإقليمية،وساهم بنزعها من قبضة أبنائها،لتظهر بعد حين بإسم المسألة السورية.
حلب نيسان 2013.
خاص – صفحات سورية –