واشنطن في مزاج سياسة اللاسياسة
راغدة درغام – نيويورك
بديهي القول ان الخلاف حول السياسة الخارجية للرئيس باراك أوباما يكاد ينحصر في طبقة معينة من القاعدة الشعبية الأميركية معظمه بدافع حزبي، وان الأكثرية الأميركية سئمت التورط في حروب خارجية وتريد صراحة ان تكون أميركا انعزالية. ولكن، ماذا لو ترتب على سياسة الانزواء والتملص انجراف الولايات المتحدة الى حروب لا تريدها أو الى موازين قوى على حسابها؟ هوذا السؤال الذي يجول في خاطر الذين يعارضون تخلي ادارة أوباما عن القيادة في مسائل اقليمية، مثل ايران وسورية ومصر واليمن. رأي هؤلاء ان اللاسياسة ليست سياسة، وان الامتناع عن ممارسة الدور القيادي لحسابات انتخابية سيرتدّ على الولايات المتحدة وستدفع ثمنه تلك الأكثرية الداعية الى الانعزالية. الرأي الآخر يرى في سياسة أوباما حنكة سياسية محلية، بقراءته الدقيقة لمزاج الأميركيين، وحنكة سياسية دولية باعتماده العقوبات أداة لإجبار أمثال ايران وسورية على الخضوع للتغيير وتلبية المطالب. أصحاب هذا الرأي يرون حكمة في تنازل ادارة أوباما عن القيادة والمسؤولية في ملفات الشرق الأوسط الممتدة من ايران الى سورية، من مصر الى اليمن. يقولون إن أسلوب إبعاد اتخاذ القرارات حتى لاحقاً، بمعنى «ليس الآن» أسلوب منطقي لرجل أولويته البقاء في البيت الأبيض، فالجمهوريون يتخبطون، ومرشحهم المفترض في حال انفصام مع الناس العاديين، فيما الرئيس أوباما أقرب الى الناس بغض النظر عن الغضب والامتعاض منه وخيبة الأمل به، حسبما يقول المدافعون عن باراك أوباما. خطورة الاتكاء الى سياسة اللاسياسة من الآن حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ليست في إفرازاتها الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط فحسب، وانما هي أيضاً في ما قد ترثه الولايات المتحدة من انجرار الى تورط عسكري، بالذات في ايران، ومن انفجار في بلد بأهمية مصر وحجمها. لذلك، يستحق الأمر النقاش بدلاً من مهزلة اللعبة السياسية التي يسوّقها الإعلام الأميركي على حساب المصلحة الأميركية.
أسلوب العقوبات ليس خالياً من الجدوى، بل ان قدرات نظام الملالي في طهران على التوغل الإقليمي انحسرت شيئاً ما، وهناك من يعتقد أنها أيضاً تقلّصت في مجال التطوير النووي. لكن أداة العقوبات لم تقوّض تسلط الملالي في الحكم الداخلي بقمع منهجي للمعارضة، ولم تقف عائقاً أمام سحق الثورة الخضراء في ايران عام 2009 تحت أنظار العالم أجمع، وكذلك فشلت العقوبات في كبح شهية النظام في طهران للتوسع خارج الحدود الإيرانية، سيما عبر العراق ولبنان وسورية وصولاً الى مياه البحر الأبيض المتوسط.
الرئيس أوباما تمسك بأسلوب الترغيب قبل الترهيب، مستثمِراً إياه بصورة رئيسية في غزارة الجَزَر مقابل العصا الوحيدة غير الجاهزة للاستخدام. جاء شراء الوقت -في رأي البعض- لصالح إدارة أوباما، التي وضعت لنفسها تحقيق أهداف الانسحاب من بؤر التوتر ومن أماكن الحروب الممكنة، ولكن وفق رأي آخر، كان شراء الوقت لصالح استغراق ايران في تحصين المفاعل والقدرات النووية، لأن امتلاك القدرات النووية العسكرية يضع ايران في مرتبة إقليمية متميزة ومتفوقة ويخدم غايات الهيمنة.
الخلاف، دولياً واقليمياً، ليس فقط على تقويم القدرات الإيرانية النووية، وانما التوسعية والداخلية أيضاً. هل الجمهورية الإسلامية الإيرانية أقوى أو أضعف مما كانت عليه قبل العقوبات؟ هذا سؤال يختلف الكثيرون في الإجابة عليه، فالحنكة الإيرانية المعهودة والقدرة على الصبر والمثابرة تجعل الحسم بين الرأيين صعباً.
إنما من الواضح ان الثورات العربية التي تشدّقت بها طهران عندما اندلعت في مصر ثم «تشردقت» بها عندما وصلت سورية، هي ثورات أضعفت ملالي طهران ودبت الرعب فيهم أيضاً، فهم خاسرون في نهاية المطاف أياً يكن ما ستسفر عنه الثورات العربية، وسواء كانت النتيجة الديموقراطيةَ أو سيطرةَ الجيوش العربية على السلطة أو انتقال عدوى القدرة على كسر حلقة الخوف الى الشعب الإيراني، فالنظام في طهران يعاني بنيوياً في الصدقية والشرعية على الصعيد الداخلي والإقليمي، وليس فقط على الصعيد الدولي.
الوهْنُ أصاب كذلك ذراع المؤسسة الحاكمة في ايران الممتدة في البقع العربية، الوهن وليس الشلل، فالذراع العسكرية تُمِدّ النظام الحليف في دمشق بالمعونة لسحق المعارضة السورية وإخماد أي محاولة للإطاحة بالنظام. هذه مسألة حيوية لملالي طهران ازدادت حدة وثقة نتيجة المواقف الروسية الداعمة لكل من النظامين في دمشق وطهران.
طهران ترى في بقاء بشار الأسد رئيساً وبقاء نظامه في السلطة مكافأةً لها ومباركة لسياستها القائمة على الارتباط العضوي بين الجمهورية الإسلامية وبين «حزب الله» في لبنان. وكذلك ترى طهران أن إحباط إطاحة نظام دمشق، أو حتى تغييره، يشكل انتصاراً للجمهورية الإسلامية الإيرانية وهزيمة لدول مجلس التعاون الخليجي، لذلك تمثِّل المسألة السورية ورقة فائقة الأهمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
أهمية الورقة السورية لدى طهران تمتد الى معادلات دولية، في طليعتها روسيا والمبعوث المشترك للأمم المتحدة ولجامعة الدول العربية كوفي أنان. وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف وكوفي أنان يشكلان لحكام طهران ليس فقط طوق النجاة للنظام في دمشق، وإنما أيضاً يقودان مصفحة حماية النظام الإيراني من الضغوط أو المحاسبة، إقليمياً ودولياً.
أحد القواسم المشتركة العديدة بين الثنائي لافروف-انان، ان كليهما اليوم يريد ازالة «العسكرة» عن الأزمة السورية لسحب البساط من تحت أقدام الدول العربية التي تعتبر ان تسليح المعارضة السورية بات «واجباً»، كما قال وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في مؤتمر إسطنبول لأصدقاء سورية الأسبوع الماضي.
سيرغي لافروف، بحنكته المعروفة، بدا وكأنه عدّل سياسات روسيا عندما وافق على خطة النقاط الست لصديقه المخضرم كوفي أنان، بدءاً بشروع القوات السورية النظامية في الانسحاب من الشوارع والعودة الى الثكنات، فيما كان موقفه في السابق ان يكون هناك تزامن بين انسحاب الجيش السوري وانسحاب قوات المعارضة.
في اليوم التالي، أرفق لافروف التوعد بأنه «حتى لو تم تسليح المعارضة الى أقصى حد ممكن، فإنها لن تتمكن من إلحاق الهزيمة بالجيش السوري». كان ذلك يوم وصل عدد القتلى في سورية عشرة آلاف.
كوفي أنان مضى من جهته بالإبحار مستخدماً البوصلة الروسية، مرتاحاً الى اصلاح العلاقة الأميركية–الروسية وتقارب مواقف ادارة باراك أوباما وحكومة فلاديمير بوتين، ومتوجهاً الى طهران رغم احتجاج الدول العربية على «شرعنة» أنان دور ايران في سورية، هذا بعدما تعالى انان على حضور القمة العربية وعلى التواصل مع المعارضة السورية، ففي الأجواء رائحة امتعاض وربما أزمة.
اعادة الاعتبار عبر مبعوث دولي وعربي لدور ايران في سورية، شكّل صفعة للدول العربية المعارضة لهذا الدور. تفسير ذلك الموقف الذي اتخذه كوفي أنان شق طريقه بسرعة الى واشنطن، التي تريد «السترة» والتملص من أي استحقاقات. واشنطن التي تريد دفن رأسها في أي رمال طالما يعفيها ذلك من أن تفعل شيئاً، أيَّ شيء، فهي في مزاج سياسة اللاسياسة، واستراتيجية عدم القيام بأي شيء، وتكتيك رمي البطاطا الساخنة الى الآخرين. واشنطن أوباما تريد البقاء في البيت الأبيض، وقد قررت ان السياسة الأفضل لها هي غض النظر والتظاهر بأنها تعمل في اطار «الإجماع» الذي أنعم به كوفي أنان على مجلس الأمن.
ادارة أوباما تريد أول ما تريد تجنب المواجهة، أقله الآن، وهي لن تتعمق بمعنى وأبعاد ترجيح كفة نظامي طهران ودمشق على حساب حلفائها العرب، كما أنها لن تدقق في ما قد تأتي عليها مواقف اسرائيل من المسألة النووية الإيرانية، والتي قد تورط الولايات المتحدة عسكرياً في ايران.
ادارة أوباما تتموضع في مرحلة ما بعد «الاحتواء»، الذي اتخذته ركيزة في سياستها نحو ايران ثم تخلت عنه ترضية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو في اطار شراء الوقت. هي لا تزال في طور ترغيب طهران وإغراقها بإغراءات الجزرة، الممتدة من سورية الى لبنان الى العراق الى نوعية العلاقات الأميركية-الخليجية. لكن ادارة أوباما قد تجد نفسها وقد أوقعت نفسها في فخ التورط العسكري.
هناك رأي عبّر عنه مسؤول سابق في أكثر من ادارة أميركية، بأن الولايات المتحدة قد تنجرّ الى الاضطرار لتوجيه ضربة عسكرية ضد ايران كنتيجة لسياسة أوباما في ترضية اسرائيل ومكافأتها على عدم توجيهها الآن ضربة عسكرية منها الى ايران، أي أن تفنُّن أوباما بوسائل تجنب الحرب لربما يؤدي الى امتلاك أوباما تلك الحرب التي حاول تجنبها.
وما سمّاه هذا المسؤول بـ «المنطقة الزمنية للحصانة» الناتجة عن عدم توجيه اسرائيل نفسها ضربة عسكرية لإيران في الستة أشهر المقبلة، سيؤدي الى تقويض القدرة العسكرية الإسرائيلية على القيام بالمهمة، فالولايات المتحدة فقط هي التي تمتلك القدرة العسكرية الضرورية لاختراق تلك الحصانة للممتلكات النووية الإيرانية، وهي ستكون في حال اضطرار وانجرار الى القيام بالمهام العسكرية -وليس اسرائيل- لربما السنة المقبلة في حال قرر أوباما ان سياسة الترغيب فشلت ولم يبق أمامه سوى تنفيذ وعوده إسرائيل مكافأتها على «صبرها» وتلبية مطالب «ليس الآن».
تعتقد طهران ان الرئيس باراك أوباما لن يستخدم الورقة العسكرية، وتعتقد أيضاً انه لن يتمكن ولن يُسمَح له بالتوصل الى حل للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وبالتالي ستتمكن الجمهورية الإسلامية من استعادة الورقة الفلسطينية، وستتمكن من امتلاك بعض مصير العلاقة الغربية مع اسرائيل عبر ولاء «حزب الله» لها في لبنان، كما أنها تعتقد ايضاً ان المواقف الروسية تشكل ورقة ثمينة لها مع واشنطن، وان كوفي أنان سينجح في انقاذ القيادة السورية مهما جنّدت دول مجلس التعاون الخليجي قدراتها لدعم المعارضة السورية.
القاسم المشترك بين ادارة أوباما وحكومة بوتين وكوفي أنان في الشأنين السوري والإيراني، لن يعني بالضرورة الانتصار لكل من القيادتين الإيرانية والسورية، انها مرحلة انتقالية من مراحل عدة في زمن التغيير والتحوّل في منطقة الشرق الأوسط، حيث المصير لم يعد يُصنَع على طاولات رسم السياسات وتصميمها كما جرت العادة.
الحياة