واقعنا الثقافي مرآة حطامنا السياسي
زياد منى
من المعروف أن مختلف النظريات الفلسفية تقول إن الحياة الثقافية في مجتمع ما تكون مستقلة إلى حد ما عن البنية السياسية. فهي عادة ما تكون متقدمة على السياسة، بل وأكثر تقدمية والتفاتًا إلى حاجات الشعوب وتطلعاتها المادية والمعنوية. هذا ما تقوله النظرية.
لكن هل ينطبق هذا على أحوالنا -نحن العرب- خصوصا في أيامنا هذه؟ الإجابة عن هذا السؤال/التساؤل، تقتضي البحث في الواقع، وتسمية الأشياء بأسمائها، ما سمح الفضاء والمرجع، مع ضرورة تفادي شخصنة الأمور والدخول في سجالات لا طائل منها تتحول إلى اتهامات واتهامات مضادة لا نهاية لها، فيضيع بين سطور الرطن ما يجب أن يعرفه القارئ، ونضيف القول: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
أود أولاً أن أعرج على مسألة الحياة الثقافية، والأكاديمية جزء منها، على قضية ما يجب ألا تضيع بين أخبار مآسي ليبيا الكثيرة. الخبر ورد في الصحافة عن حصول سيف الإسلام القذافي على شهادتي الماجستير والدكتوراه (الفخرية!) من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE)، غاية في العراقة. حصوله على الشهادة ليس خبرًا يستحق الوقوف عنده، وإنما في تأكيد تدخل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير شخصيا لدعمها.
الأمر المفجع ليس في تأهل الرسالة للشهادة من عدمها، وإنما في تدخُل أرفع الأوساط السياسية في الأمر، فأين المعيار العلمي؟
يبدو أن السياسيين كثيرا ما يهتمون في تأكيد امتلاكهم مؤهلات علمية: كلنا سمع عن وزير سابق وملك سابق ورئيس سابق… إلخ، ولكن لم يحصل إطلاقًا أن سمعنا عن عالم سابق.
على أي حال، كأن هذه الفضيحة ليست بكافية فيجيء خبر منح معمر القذافي رحمه الله وبعض أبنائه هبات مالية (غير معلنة) لجامعات بريطانية لقاء خدمات محددة ومنها مثلاً إلقاء كلمة هنا، ومحاضرة هناك… إلخ، والمخفي أعظم. فكيف تقبل جامعات عريقة حقًا وتتمتع بصيت ونفوذ عالميين في المجال الثقافي الأكاديمي أموالاً من سلطة يقول فيها الغرب الآن ما لم يقله مالك في الخمر.
بل أكثر من ذلك، ذكرت الأخبار أن إحدى دور النشر التابعة لجامعة بريطانية مرموقة وافقت على طباعة أحد كتب سيف الإسلام القذافي مقابل مبلغ كبير من المال، إضافة إلى التزامه بابتياع عشرين ألف نسخة من الدار. إنه انحطاط قيم وغياب بوصلة العمل، عدا التي يشير عقربها إلى بيت المال، والإنترنت تحوي أمثلة كثيرة على مداه.
وهذا يقودنا إلى كوارثنا الثقافية في بلادنا.
يمكن القول إن الصفحات والملاحق الثقافية في كثير من الصحف العربية، أهم مرجع ثقافي في بلادنا. وكثيرًا ما نرى أن مسؤول هذه الصفحة أو الملحق الثقافي، شاعر أو أديب [مع حفظ الألقاب بكل تأكيد].
إن اختيار أصحاب صحف شاعرا أو أديبا لرئاسة ملحق ثقافي لهو دليل -في ظني- على انعدام الجدية، مؤكدين رفضنا شخصنة المسألة ومنوهين إلى أن أحكامنا هنا تنطلق من التعميم، وأن الاستثناء، كما يقول المثل الألماني، يؤكد القاعدة.
في ظني، المشكلة لا تكمن فقط في مؤهلات رئاسة الصفحة أو الملحق الثقافي، وإنما في السلطات المطلقة التي تمنح له. له أن ينشر عن هذا ويمدح ذاك، ويتجاهل آخر، ويكيل ما استطاع من الذم بحق ثالث، وهكذا.
وهذا ما يشرح غياب مراجعات كتب أو مؤلفات أشخاص محددين في الوقت الذي تُفرد فيه أعمدة لكتاب، أدباء أو أكاديميين، لا تستحق التنويه بها حتى ولو بسطر واحد، والأمثلة على ذلك كثيرة.
دعونا نتحدث عن صفحات وملاحق ثقافية. يلاحظ المرء، أحيانًا، مديح صفحة أو ملحق ثقافي (ا) لكتاب أو مقال أو ملحمة شعرية! كتبها مسؤول صفحة ثقافية في صحيفة (ب)، والأخير بدوره يمتدح كتابات المسؤول (ج) الذي يعود ليمتدح كتابات (ا)، وهكذا دواليك. مهزلة تلحق بمهزلة تلحق بمهزلة.
أمر آخر جدير بالملاحظة هو ترويج مسؤولي تلك الصفحات والملاحق الثقافية إنتاجاتهم. فعلى سبيل المثال نقرأ أن كتابا أو شعرا أو أو. . سينشر بالإنجليزية أو بالفرنسية أو أو أو، ما يوحي اكتسابه أهمية عالمية.
قول نصف الحقيقة كذبة كاملة لأننا نعلم أن معظم الترجمات من العربية تتم بدعم من مؤسسات محددة، سواء في البلد الأم أو في البلد الناشر للترجمة، لكن القارئ المسكين لا يعرف ذلك ويتوهم أن الكتاب المقصود اكتسب، ومعه مؤلفته أو مؤلفه، صيتا أدبيا أو علميا عالميا. الخبر لا يعلم القارئ بهكذا تفاصيل ولا يشير إلى عدد النسخ المترجمة التي لا تتجاوز في معظم الأحيان أكثر من ألف نسخة لبضع مئات الملايين من الناطقين باللغة الأجنبية. إضافة إلى ذلك فإن القسم الأكبر من دور النشر في العالم مشاريع تجارية، وليست كل بضاعة مربحة تكون جيدة.
ملاحظة عارضة: عدد القراء في ألمانيا يراوح بين ثمانين ألف قارئ ومائة وعشرين ألفا تتصارع عليهم ثمانية آلاف دار نشر. وفي بريطانية ينشر سنويا نحو ألف عمل أدبي، يطبع من معظمها من خمسمائة إلى ألف نسخة. في نهاية العام لا يتذكر أحد أسماء المؤلفين ربما باستثناء نحو عشرة يستمرون في الكتابة، بين الحين والآخر، وقد يصل أحدهم، بعد حين، إلى الانتشار القومي.
المشكلة لا تكمن لدى مسؤولي صفحات وملاحق ثقافية فقط وإنما في طبيعة الصحيفة وانتمائها السياسي المتجلي في مانشيتاتها وكبر حجم صورة الزعيم… إلخ.
هذا يقودنا إلى مصطلح “الصحافة الحرة” أو “حرية الصحافة”. في ظني أنه لم يتم ابتذال معنى مفردة الحرية، المقدسة حقا، بقدر ما تم بالعلاقة مع الصحافة، عربية كانت أو غير ذلك. “الصحافة الحرة” تعني في المقام الأول أن الشخص أو المجموعة التي تمتلك مالاً كافيا يمكنها، قانونيا، نشر صحيفة أو مجلة، مع ضرورة توافر علاقات وثيقة بدوائر صنع القرار (كبار الصناعيين والمصرفيين) المتخفين، بسبب مبدأ تقسيم العمل، وراء أحزاب ومنظمات.
ولأن بلادنا العربية تعاني ما تعانيه من افتقاد المواطن لأبسط الحريات الفردية والاجتماعية، فإن “الصحافة الحرة” تعني حرية صاحب الصحيفة في نشر ما يريد وحجب ما لا يحب، وليس أكثر من ذلك.
ولأن الصحافة مشروع سياسي [أي: تضليلي] وليس إعلاميا أو تجاريا، نرى “تصدي” كثير من تلك الصفحات والملاحق لبعض الكتب التي يرى المسؤول عنها أنها تمس من سمعة صديق/صديقة له/لها، أو تنتقص من قيمة الإنتاج، أدبيا كان أو علميا. هنا أود إعطاء مثل ملموس عايشته بالارتباط مع كتابين ناقدين لكل من الأديب الراحل محمود درويش وإميل حبيبي الكاتب والسياسي الإسرائيلي من أصل فلسطيني، الذي تسلم عام 1992 جائزة إسرائيل الأدبية من يد رئيس الوزراء الصهيوني إسحق شامير.
فقد حصل، مصادفة، أني كنت مع زميل أو زميلة عندما تلقيا مكالمة هاتفية من مسؤول ملحق ثقافي لصحيفة بيروتية يطلب منهما نقد أحد الكتابين. الكاتب أو الكاتبة المطواعان، فعلا المطلوب وكالا ما طاب لهما ولمستكتبهما من قواميس النقد والتهم و.. و.
وفي إحدى المرات أخبرتني زميلة كتبت مراجعة سلبية لكتاب محدد، لكنها فوجئت بأن النص المنشور باسمها استحال مديحا. كان عليها الاختيار بين قبول الأمر المفروض أو رفضه ما يعني بالضرورة وضع الاسم في “القائمة السوداء”.
ولأن معظم الصحف العربية مشاريع سياسية متطابقة بامتياز، فإن الاعتراض يعني تعميم “القائمة السوداء” على معظم صحف ذلك التيار السياسي بتفرعاته الوطنية والعابرة للحدود.
كما يلاحظ المتتبع للموضوع أن مسؤول صفحة ثقافية، يضطر أحيانا إلى الكتابة عن مؤلف مهم لكنه لا يحب ناشره، فيعبر عن الأمر بإضافة ملاحظة أن الكتاب (ترجمته ركيكة) ويحوي (أخطاء لغوية)، مع أن الكاتب/الكاتبة، كما أعلم تماما، لا يعرف أبجدية لغة الكتاب الأصلي.
إنه التعالي الفارغ من مُشْرفين على صفحات وملاحق ثقافية على كلّ ما يأتي من خارج حدودهم الضيقة.
إضافة إلى الاستهتار الذي قدمنا أمثلة عليه في هذا المقال، ننبه إلى مسألة حقوق الملكية الفكرية وعدم احترام مسؤولي كثير من الصفحات والملاحق الثقافية حقوق الكتاب، وأعنى بذلك التأكد من حصول ناشر الكتاب المترجم، الذي سمحوا بنشر مراجعة له، على حقوق النشر بالعربية.
لكن الأمر الأشد خطورة ممارسة النشر على حساب المؤلف، لكن من دون الإشارة إلى الأمر. فقيام دار نشر بإصدار مؤلف لكاتب دفع بنفسه كلفة الطباعة، والتي تراوح في كثير من الأحيان بين خمسة آلاف وعشرة آلاف دولار أميركي أمر مهم يجب أن يعرفه القارئ. الاعتراض هنا ليس على مبدأ حق أي كاتب في نشر ما يرى أن العالم أجمع في حاجة إلى قراءته والاستفادة منه، وإنما على ممارسة الخداع. فقيام دار نشر مرموقة بإصدار كتاب على نفقة المؤلِّف، من دون ذكر ذلك، يوحي بأهميته، وليس بأولوية أهمية مساهمة صاحبه المادية.
نقول إنه خداع لأنه ثمة رأي سائد يرى أن ذكر مساهمة الكاتب في كلفة إصدار دار نشر مؤلفه ينتقص من قيمته الحقيقية أو المفترضة.
هناك كتاب يصرون على تأكيد إصدار مؤلفاتهم على نفقتهم، والسبب عادة ما يكون عدم الثقة بالناشر المحلي وما إلى ذلك من أسباب وأعذار.
لكن هذه الممارسات في عالم الثقافة تتعدى الملاحق الثقافية لتصل إلى مؤسسات منح الجوائز الإبداعية. لقد دعيت أكثر من مرة لعضوية لجان تحكيم جوائز للمبدعين في مختلف المجالات، وفجعت بما رأيت ما دفعني إلى الاعتذار عن المشاركة مستقبلاً في هكذا لجان من دون اليقين من أن المحكِّم ليس شاهد زور فقط.
فباستثناء مؤسسة سلطان العويس في إمارة دبي، التي شاركتُ قبل سنوات مرة في لجنتها التحكيمية، والتي أنوه هنا باحترامها العميق والصادق للمحكم وتمتعه باستقلالية كاملة، عدا ضميره ومعارفه المتخصصة، فإن تجاربي الأخرى أثبتت لي، ولغيري من الزملاء أن اللجنة المديرة لجائزة ما تستخدم عضو لجنة التحكيم شاهد زور لقراراتها التعسفية الظالمة ذات المرجعية السياسية والشخصية.
في ظني أن لجنة التحكيم هي الجهة الوحيدة المخولة بتقرير الفائز بهذه الجائزة أو تلك، وليس اللجنة المنظمة، ما يؤكد انحيازا مسبقا لمؤلِّف أو كتاب.
بل نقول أكثر من هذا: إن صديقا عزيزا طلب إلى أن أنشر له كتابا لم يؤلفه بعد لأن لجنة منح جوائز في إحدى الدول العربية، ثقيلة الوزن، أخبرته بأنها تريد تكريمه ومنحه جائزة كبرى، لكتاب جديد (لم يكتبه بعد) يصدر في العام نفسه، والله على ما أقول شهيد.
نتوقف الآن لنقول: إن حياتنا السياسية كما نعيشها منذ هزيمة عام 1967، وما تحويه من نواقص قاتلة، تنعكس في كل مجالات الحياة وفي مقدمة ذلك عالم الثقافة، المشاركُ فيه نشرا وكتابة وتأليفا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الجزيرة نت