صفحات الثقافة

واقعٌ بلا واقعيين.. ماذا نحمل إلى الغد؟/ سحر مندور

يوم كنّا محكومين بالأمل تحت سلطة أنظمةٍ تعاديه، كانت السكّة نحو المُراد تبدو عصيةً لكن سويّة. دربٌ بعناوين واضحة، تحكي عن عيشٍ كريم للإنسان في بلده، عن الإدارة القابلة للمساءلة والمحاسبة والتغيير، عن العدالة الاجتماعية والإنتاج، وعن الكثير سواها. منذ سنوات قليلة، كانت «القِسمة» بين الواقع والأمل تبدو أقل إرباكاً ممّا هي عليه اليوم.

ما ان خرجت مجموعات شعبية من بيوتها، حتى أسقطنا، نحنُ ثوار الأمل، على المشهدِ كامل الطهارة، ونشرنا ما لدينا من انفعالات متراكمة كبتها الظلم لعقودٍ، وما احتاج منا أيّ نظام عربيّ إلى بذل الجهد لتأكيد الإدانة أو تفنيدها. كان كل شعار يتردّد في تظاهرة، يتحوّل إلى شعارٍ منا ولنا. رأينا مشهداً يسقط على واقعٍ، فاحتضنا المشهد وصدّقنا بإمكانية زوال الواقع، هكذا. أُفوله، كندبٍ قديم بقي من جرحٍ طاب.

كنا قد بلغنا من التعب مراحل تجعلنا نستعجل معها الفرح، العدالة، التغيير. وبلغنا من الأمل مراتب تجعلنا نعيش واقعنا كأنه «فلاش باك»، رحلةٌ في الذاكرة، انتهى وهو ما زال هنا، مضى وهو مضارعٌ.

ماذا يحدث لنا؟

نحن المواطنين الناشطين سياسياً في المشرق العربي خلال هذه المرحلة، نعيش انفعالات حادّة فنهضمها كحقائق. نعيش ردّ الفعل كرأي مستقل يصلح لأن يكون مؤسّساً لمنهجٍ في التفكير. نؤسس يومنا على انفجار أمسنا، ونشدّ إلى غدنا مفترضين أن للحظتنا الهشّة جذوعاً. في لحظتنا هذه، تتكدّس معاني الماضي وذاكرته والحاضر والمستقبل، فنجعل اللحظة فور وقوعها مدخلاً إلى التاريخ، ونعجز عن إنتاج قراءات هادئة في واقعٍ جبّار وعنه. فنعيد إنتاجه، كما هو، نصوصاً متفجّرة، وهو بذلك يعيد صياغتنا بشراً.

اليوم، تنفعل في مسامنا حمولةٌ ضخمة. تفيض منا عقودٌ من العيش في متلازمة «السفالة في الحكم والبطولة في الخطاب»، نكره ما سمعناه كله بعدما قصمت ظهرنا ممارساتُه على مدى العقود، نفعل كمن ينزع عن جلده آثار اعتداءٍ، فينزع جلده ولا يهدأ الاعتداء، كون الأثر موجوداً عميقاً في الذات، وهو لا يزال منفلشاً على سطح الجسم ووجه البلد.

فوضى دموية هائلة تحيط بالأفكار في بلاد الشام. الاختلاف، ولو قيد أنملة، بات يولّد العصبية والرفض والعداوة. كأن الكلام قد تفجّر لكن القدرة على الفعل بقيت مقيّدة والظرف بات أشد خنقاً. كأن القوانين العسكرية أُنزلت بكل فرد، فراح كلٌّ يحرّر نفسه منها بأن يشدّ ليلقيها جانباً، وبالنتيجة، ولضيق المساحة الفكرية، بات كلٌّ ينزلها بزميله. كلٌّ منا يحتاج وضع التخبّط في سياقٍ واضح باهر، تماماً كما فعلنا يوم كنا شعباً في مواجهة نظام. ولكن السياقات لا تزال فردية احتكارية قلقة، ليست حمّالة فكرٍ وإنما هي انفعالٌ يصارع عجزاً يقيّده. إن الأنظمة لم تنشأ من العدم، ولا استمرت بقوة السلاح والقمع فقط. تلك الأنظمة التي أراحتنا لسنين من مهمة البحث عن «الشرير» إذ اختزلته في صورتها، ها هي تفتح دفاترنا التي قيّدتها بالأغلال لعقودٍ، لترميها في وجوهنا، وهي مداخلها القديمة الدائمة إلى إرساء سيادتها علينا.

إن الماضين في سكّة التغيير ليسوا واحداً. لقد أزاحت الثورات اللثام عنا، وباشرنا باكتشاف بعضنا البعض، وكره بعضنا البعض، وحبّ بعضنا البعض، بعد عقودٍ طحنتنا في سرديةٍ وحيدة صنعها النظام عنّا: شعوبٌ تعيش الصعب تفادياً لمواجهة الأصعب. وكأن عيش الصعب يفعل غير استدراج الأصعب. فهل كان من الممكن لانفجارٍ شبيه يصيب مواضع الكبت الجماعي الأشدّ عمقاً وتراكماً، أن يولّد زهوراً وفرحاً؟ هل كان يمكن للعدالة أن تولد من قصصٍ سُمّمت على مرّ العقود؟ هذا بعضٌ من أسئلةٍ تنتظر تعاملنا معها.

اليوم، ما عدنا في لحظة الصدمة الأولى، لحظة سقطت الأسلحة على رؤوسنا. ما عدنا في لحظة الصدمة الأولى، وللكثيرين منا «رفاهية» البعد عن موقع سقوط الصاروخ، فلنستغلها للخروج بفكرةٍ لا تقبع في الملجأ. فكرةٌ عن حالنا، فكرة عن إمكانياتنا، أفكارٌ عن ماضينا غير المعالج، عن راهننا المستحيل، وعن غدِنا المرعب. أن ننفصل قليلاً عن الانفعال، لنتيح اتصالاً بالواقع، ينقل أحداثه، حتى غير المشتهى منها، يقرأ في السياق، يحاول استخراج معنى من الفوضى، يحاول ترتيب ما يبدو عشوائياً. فلا عشوائية في ميزانياتٍ حربية وموازنات سياسية على هذا الحجم وعلى هذه الدقّة. ما نعيشه كعشوائي، ليس كذلك. وما نعيشه كرد فعل، هو آلية لتقييد الأفكار في الانفعال، بما يؤدي إلى عجزها عن إنتاج معنى يوم يحلّ موعد «كتابة» المعنى المقبل لأيامنا. كتابة «المعنى» بدورها هي نقاشٌ يحتاج مَن يؤسّس له.

المتاح راهناً

مهما متنا، ومهما دُمّرت بيوتنا، ومهما تهشّمت أفكارنا، ومهما تبادلنا الكره والقتل، سيأتي الغد. لن نتمكّن من تأجيله، ولن يتوقف عند شعارٍ اختنق. سيأتي هذا الغد، فهل سنكون أمامه كما كنّا خلال عقودٍ مضت، ممنوعين من الوجود الكامل؟ هل سنُمنع أكثر، كعقابٍ لنا؟ هل سنقع فوق بعضنا البعض لمّا نُترك لإحصاء خسائرنا؟ هل سنقوى حينها على الاستمرار في أملٍ، في مطلبٍ؟ هل سنمتلك الهمّة والرغبة بأن نتدخّل مجدداً في صناعة حياتنا؟

بالتأكيد، لن نكون الشعوب التي كنّاها قبل خروجنا من بيوتنا. هذا مستحيل. سنحمل ثقلاً كبيراً بوزن الأجسام التي رُميت بالعنف في مثواها الأخير، بحجم البيوت والمباني والطرق التي تهشّمت. سنحمل أيضاً ذنب تغييب النقاش الآمن، سنحمل ذنب التكفير والتخوين والقتل الرمزي الذي أصابنا، والذي أحدثناه. وسنحمل ثقل كراهيةٍ نشرناها في كل اتجاه، لرفض آخرين كثرٍ التماثل معنا، الانصهار بنا، ترداد قولنا كما هو، بأحرفه الدقيقة. وسنحمل أيضاً ذكرى نخجل بها، هي ذكرى هذا اليوم الذي ضقنا فيه بالاختلاف، بينما نطالب بالحريّة.

لكننا، أيضاً، سنحمل التجربة. سنحمل معنا إلى الغد حدثاً مؤسّساً في سياق. الانفجار الأول لا بد أن يكون ماحقاً، لكن هيروشيما استفاقت لتلاقي غدها يومذاك. بطريقةٍ أو بأخرى، الغريزة الإنسانية ستشدّ بنا إلى صناعة حياةٍ فوق الموت. تلك الصناعة التي ستكون مريضة بأثقالها، لا مفر من أن تحمل بعض مقوّمات الولادة. وهذا الخروج من البيت إلى شارعٍ عام واستملاكه أيضاً، ولو للحظة، لن يذهب بلا أثر. وهذا نقاشٌ يحتاج من يعمّقه.

ولكي لا نجد أنفسنا غداً نبدأ من صفر اليدين، لا بد لنا أن نبدأ من اليوم في تأسيس معرفةٍ نستند إليها. هذا واجبٌ علينا اليوم، نحن الذين نتمتّع بـ«رفاهية» العيش على مقربة من القذائف وليس تحتها، أن نتعامل مع الواقع بعد اختناق المطلب، وأن نكون صريحين في تعاملنا معه، فلا «ضرورة خطابية» أشدّ إلحاحاً من الواقع الصريح، ولا «حالة إحباطية» تبرّر الأذى.

إن الأمل يكون عصيّاً على الناس في لحظة موتهم، لكن الصدمة المباشرة والفوريّة ما عادت مبرّراً للاستسلام لانفعالٍ لا يفعل يومياً أكثر من هدّ النقاش، وصرفنا عن المسؤولية العامّة. وربما يكون الأمل عصيّاً حتى على التشكّل كأحرفٍ قبل أن يتشكّل في معنى، لكن الطريق نحوه ليست اختيارية. فلنؤسس مطرحاً صحّياً في النقاش العام اليوم، بعيداً عن ديكتاتورية التماثل. فلنكن كما نحن، مختلفين، ولنخرج الاختلاف إلى الشمس علّها تشرع في علاجه، بعدما طال كبته في الأماكن المغلقة وزنازين فعلية ورمزية، رطبة وعفنة. فليبادر كل من يقوى على التماسك خارج الصدمة الأولى، نحو الانصراف عن اجترار انفعالها، والشدّ نحو توثيقها، تفكيكها، الاعتراف بما لا يحلو الاعتراف به، والتعامل مع ما يصعب التعامل معه.. أي الواقع.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى