صفحات الثقافةعماد الدين موسى

واقع دور النشر السورية: ماذا يحدث في قلب العدم؟/ عماد الدين موسى

 

 

تمتاز الصعوبات التي تواجه دور النشر السوريَّة أنّها متعدّدة، وعلى الأخصّ خلال السنوات الست المنصرمة. البداية الصعبة هي صناعة الكتاب وتأمين لوازم الطباعة، ومن ثمّ الرقابة وغلاء الأسعار وصولاً لظاهرة انتشار القرصنة الإلكترونية للكتاب، كما أنّ غياب دور النشر السوريَّة عن المشاركة في معارض الكتب الدولية كانت من ضمن المصاعب التي أجبرت الكتّاب السوريين على نشر وطبع مؤلفاتهم في الخارج، لصعوبة إيجاد قارئ في الداخل السوري إثر الأوضاع الاقتصاديَّة المزرية، فالأمر أثّر بنفس السوية من الصعوبة على القارئ والكاتب السوريَّين.

واقع دور النشر السوريَّة، تأثّرها بما جرى ويجري، مزاولتها للعمل في ظلّ الحرب، مقاطعة بعض الدول العربيَّة للنظام السوريّ، هل تأثّرت دور النشر بالانقسام الذي صبغ الحياة السوريَّة، الثقافية منها على وجه الخصوص؟ هل هناك دور نشر أخذت موقفاً منحازاً تماماً إلى النظام ليكون نتاجها تعبيراً عن ذاك الانحياز؟ وكيف يتخيلون الوضع السوري القادم مع هجرة العدد الأكبر من المثقفين والمهنيين السوريّين المشتغلين بهذا المجال؟ مجموعة أسئلة وجّهناها إلى القائمين على أبرز دوُر النشر في سوريَّة، لتؤكِّد الردود، أنّ دور النشر فعلاً تواجه أزمة تكاليف، نتيجة ارتفاع أسعار صناعة الكتاب، الأمر الذي أدّى إلى توقّف بعضها عن العمل ومن بقي يواجه أزمة محتملة في الاستمرار.

لا شكَّ أنّ الحرب التي تخطّت الست سنوات، أثرت على صناعة الكتاب كما اتفق أصحاب دور النشر الذين سنقرأ تعليقاتهم على حال الكتاب السوري اليوم وكيف انصرف الكُتَّاب عن طباعة كتبهم لديهم بسبب تكاليف الطباعة المرتفعة.

 

أحمد م. أحمد (دار أرواد): وجبات الثقافة السريعة

لطالما خطر لي، أن دور النشر السورية لم تكن بخير أبداً، كما لم يكن المواطن السوريّ بخير، في سعيه وراء لقمة العيش وأوليات الحياة. وأتحدث هنا عن عقود ما قبل الحرب السورية. قبل هذه الحرب، كانت هناك مشكلة انحسار القراءة في سورية، ومشكلة الرقيب، والمشكلة الأكثر أهمية، وهي ارتفاع تكلفة الطباعة مقارنةً بدخل الفرد السوريّ.

لم تكن أسباب تراجع القراءة لدى السوري هي الأسباب ذاتها في بلدان عربية أخرى، أي التحول إلى الاستهلاك ووجبات الثقافة السريعة، بل كانت بسبب يأس القارئ السوري من نتاج إبداعيّ حقيقي يثق بجدارته. كيف يثق بأنه سيحظى برواية على قدر من الأهمية، إذا كانت رقابة وزارة الإعلام واتحاد الكتاب العرب سيحذفان كلّ ما يتعلق بالثالوث العتيد: الدين والجنس والسياسة؟ وهكذا انغلق الباب أمام المؤلَّفات ذات المضامين التنويرية لصالح المنشورات الدينية التي غزت سوق القراءة السورية، وباتت تشكل القسم الأكبر من معارض الكتاب الداخلية.

منذ بداية الحرب، توقفت بعض دور النشر، مثل داري، عن تبنّي الكتاب والنشر على نفقتها وتحوّلتْ إلى مجرد (دكاكين) تطبع على نفقة المؤلّف. ولا أخفي أنني طبعتُ في داري من ترجماتي وكتاباتي ما يزيد عن عشرة آلاف نسخة ولم أبعْ نسخة واحدة منها، بل أُعطيت جميعاً من دون مقابل، بما فيها تلك التي أرسلتها مع موزعين بهدف التوزيع الخارجيّ، فقد كان يهمني أن يصل نتاجي إلى أصدقاء في بلدان عربية أخرى. والآن لن أنشر لي كتاباً في داري، بل سأبحث عن ناشر (ميسور) يتبنى العمل، أو فلأتركه على كمبيوتري الشخصي.

لم تتأثر دور النشر السورية بالانقسام بين المثقفين السوريين، ولم تنقسم بين دور (موالية) وأخرى (معارضة)، فأنا نشرتُ لكلا (الفريقين)، لكنني تقيّدتُ بمعايير وضوابط المؤسسة الرقابية خوفاً على رقبتي؛ وكذلك فعل معظم الناشرين السوريين، ومعظمهم من الكتّاب أو المهتمين بالثقافة. وأستثني مؤسسة اتحاد الكتاب العرب الفاشلة سلفاً، التي لم تنشر إلا لأقلام مستزلَمة، كما درَجت منذ عقود. وبالمقابل أشيد بمنشورات وزارة الثقافة التي حافظت، إلى حد معقول، على الإرث المنفتح الذي تركه الراحل أنطون مقدسي ومحمد كامل الخطيب وآخرون قلائل، رغم أنني لا أشك للحظة في أن الخط البياني لمنشورات الوزارة يتجه إلى الأسفل.

لا يمرّ أسبوع من دون أن يصلني اتصال أو رسالة أو سؤال على “فيسبوك” عن نية صديق أو صديقة نشر كتاب، وأجيب بأنني لا أشجع على ذلك، فالتوزيع في أسوأ حالاته، ولن يُباع من 300 نسخة مطبوعة أكثر من عشر نسخ سيشتريها المقربون. ولا يزال الناشرون السوريون، وأنا منهم، يتلقون اتصالات كثيرة من مثقفي الخارج السوريين، ولكن مشكلتيّ الموافقة وإيصال المطبوعات تحولان دون إتمام معظم الأعمال.

تبقى طاقات الناشر السوري أكبر من الإمكانيات المتاحة، فلا نزال نلمح من قلب (العدم) منشورات جديدة، وترجمات مرخّصة لكتب صادرة حديثاً في العالم، وطبعات أنيقة محترفة، لكن الكساد سيصيب معظمها على رفوف مكتبات البيع في الداخل.

شكلت مقاطعة المعارض العربية للنظام ضربة قاصمة. فحرمان الناشر السوري من المشاركة في معرض الرياض، وهو أهم المعارض العربية بالنسبة لكل الناشرين العرب من حيث المبيع وبالأسعار العادلة، بالإضافة إلى مقاطعة المعارض الأخرى لهؤلاء الناشرين، هي بداية النهاية للنشر السوري. سيكون النشر السوري قطاعاً جديداً ينهار. وكما كان هناك من سعى إلى تدمير المؤسسات الصناعية والإنتاجية في المدن السورية الكبرى، فإن هناك من يسعى إلى نسف الثقافة السورية ومؤسساتها.

لا أمل لديّ. أرى سورية الآن بلداً خرباً من الناحية الثقافية، فكل الكتّاب أصبحوا في الخارج، وكذلك القراء والمثقفون، وربما سيتبعهم من استطاع من الناشرين. وبدوري قد أعلن عن إيقاف الدار في القريب، وأنضم إلى أصدقائي في الخارج، في غربة جديدة.

 

شيار عيسى (دار Dar): هجرة الكفاءات التقنيّة

دور النشر السورية، شأنها شأن مختلف المؤسسات الثقافية الأخرى، تعرضت لانتكاسة حقيقية بعد الثورة، كنتيجة طبيعية لمآلات الثورة من قتل، دمار، تهجير وهجرة غير مسبوقة. أدت تلك العوامل إلى انخفاض واضح في مستوى دور النشر السورية بسبب هجرة الكفاءات التقنية، التي كانت تعمل في تلك المؤسسات، وكذلك تناقص في المساحة التي كانت تنشط فيها بسبب سيطرة عدة جهات على المحافظات السورية، وعدم قدرة دور النشر على بلوغ تلك المناطق.

من جهة أخرى فإن المدن الأخرى، التي تنشط فيها دور النشر تلك، وتعتبرها سوقاً لنتاجاتها تعاني من نزيف كبير في الكتلة البشرية نتيجة الهجرة خاصة لأصحاب الكفاءات والمثقفين، الفئة المستهدفة بشكل مباشر من قبل دور النشر.

في دار نشر DAR التي تتخذ من مدينة القامشلي مركزاً لها، وتنشط في محافظة الحسكة، على وجه الخصوص، لسنا في صدد الانحياز سياسياً لأي طرف مع الأخذ بعين الاعتبار أننا نتألف من مجموعة عمل معارضة للنظام.

في هذا السياق يجب ألا نغفل أن الظروف السياسية في محافظة الحسكة، تسمح بإنشاء دار نشر غير موالية للنظام، وقمنا في DAR بطبع كتب لا تتوافق مع سياسة النظام لا بل تنتقده وبشدة، الأمر الذي قد لا يكون ممكناً بالنسبة لدور نشر تتخذ من دمشق واللاذقية وباقي المدن، التي تقع تحت سيطرة النظام مقراً لها، فالقبضة الأمنية لا تزال تضرب بيد من حديد ولا إمكانية لأي دار نشر أن تنحاز جهاراً للمعارضة، أو أن تنتقد النظام بشكل صريح خارج إطار الدائرة الضيقة ممّا هو مسموح لها.

مشكلة أخرى تعترض عمل دور النشر السورية هي قطع بعض الدول العربية لعلاقاتها مع النظام، ما يعني عرقلة عمل دور النشر السورية في تلك الدول، وضياع شبه تام لفرصها في المشاركة في معارض تستطيع أن تعرض فيها نتاجاتها الثقافية، وبالتالي تعرض مردودها المالي، الذي يمكن من خلاله أن تقوم دور النشر بتطوير عملها، لانتكاسة، كما أن ذلك قد يدفع بالعديد من القامات الثقافية للإحجام عن طبع كتبها في دور النشر تلك، لعدم انتشار كتبهم بالشكل المطلوب، وعدم قدرة دور النشر تلك على دفع مردود مالي كبير اعتاد هكذا كتاب على الحصول عليه.

 

محمود الوهب (دار نون 4): أعباء الحرب والاستبداد

تابعت دار (نون 4) عملها بعد العام 2011 على نحو طبيعي حتى بداية العام 2013، بعدئذ أخذت تتراجع، إذ شرعت الأسعار ترتفع، فمعلوم أن مواد الطباعة مستوردة كلها، ناهيك بانخفاض المستوى المعيشي للمواطنين الذي وقف حائلاً دون الكتَّاب الذين يطبعون على نفقتهم الخاصة. كذلك يمكن ملاحظة أن اهتمام الناس في المجتمع السوري – والكتّاب عموماً جزء منهم – انصرف نحو أمور أخرى فردية وجماعية. ولا شك أنَّ ثمة أمراً آخر، إنه الاختلاط الذي جرى في أذهان الكتاب، ما جعلهم يتريثون بعض الشيء، لتفهم مجريات الواقع، ومآلاته.

أما ما يتعلق بانقسام دور النشر فلا شك أن الناشر تهمه قضايا وطنه، وله أيضاً وجهة نظره حول هذه القضية أو تلك، لكن أكثر ما يهم الناشر هو مادة الكتاب لجهة الجودة التي يطلبها القارئ، كما يهمه اسم الكاتب، والناشر عموماً صاحب صناعة، ويعمل على تحسين إنتاجه شكلاً ومحتوى على نحو دائم. فالناشر ليس وسيلة إعلامية لها نهج سياسي محدد، تأخذ هذا وترفض ذاك، وفق قاعدة مرسومة مسبقاً، بل هو يعنى بالمحتوى الفكري، وبتربية الناس على نحو سليم، إذا صحَّ التعبير، فالكاتب الذي يدين الاستبداد، يدينه كفكرة مطلقة لا كفكرة مرتبطة بهذا الفرد أو ذاك، وهذا الأمر غير موقفه السياسي الذي يجعله يؤيد هذا الطرف السياسي أو ذاك.

في ما يتعلق بحال دور النشر، فهو كحال السوريين جميعاً؛ فمنها ما بقي متحملاً أعباء الحرب والاستبداد، ومنها ما هاجر إلى بلدان عربية أو إلى بلدان أخرى كحال دار نون 4 التي انتقلت إلى مدينة غازي عنتاب التركية، وهي تتابع عملها الآن، رغم ارتفاع الأسعار، ورغم بقاء كتبها المنشورة سابقاً في سورية، وكأنها بدأت من جديد، ومعظم الكتب التي تنشرها هنا، هي كتب تستقي موادها مما يجري في سورية، وهي كتب تأتي على أحلام الشعب السوري المضيَّعة؛ أحلامه في الحرية والديمقراطية، وفي وحدة أرضه وشعبه. إنها في الأصل كانت تنشر كتباً تنويرية تدين الاستبداد، كما تدين الأفكار الظلامية على حد سواء.

وفي ما يتعلق بسؤالك حول مستقبل الثقافة في سورية، فإنني أعتقد أنَّ الثقافة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بحال المجتمع بحركته وركوده بحيوته وجموده. هي جزء منه، إنها صورته ومرآته. ولا أعتقد أنَّ هجرة المثقفين ستؤثر سلباً على المجتمع، فثمة وسائل اتصال حية كفيلة بردم مثل هذه الهوة. وهنا أفْصِل بين المهني والمثقف، وأعني بالمهني الطبيب والمهندس والمبدع في هذا الجانب الحياتي أو ذاك. أما الثقافة فشيء آخر هي صورة هؤلاء جميعاً، وشيء من نسيجهم المتصل بالمجتمع.

 

نبيل سليمان (دار الحوار): معجزة النشر في سورية.. الآن

على الرغم من كل ما يعصف بنا في سورية، منذ ست سنوات، فالمعجزات السورية ليست قليلة ولا هينة. أليس بمعجزة هذا التأقلم مع أربع ساعات ونصف ساعة من انقطاع الكهرباء مقابل ساعة ونصف ساعة من نعمائها في مدينة محسودة مثل اللاذقية؟ والتأقلم مع سرقة سيارتك من أمام بيتك، ثم عرض شرائها عليك بربع ثمنها؟ والنكتة السورية المتنامية، أليست معجزة شعب نصفه مهجّر في الخارج أو نازح في الداخل أو شهيد أو قتيل أو معوق أو معتقل؟ ولكن كله (كوم) وأن تكون لهذا الشعب معجزة النشر (كوم) بما تعنيه هذه المعجزة من التأليف أو الترجمة أو الطباعة أو مشاركة دور النشر، حيث أمكن في معارض الكتاب العربية.

بالطبع، أغلقت مكتبات شهيرة، وتراجعت المبيعات كثيراً، وتضاعفت تكاليف النشر انسجاماً مع انهيار العملة. وإلى ذلك، نقلت دور النشر كل أو بعض أعمالها إلى القاهرة أو بيروت أو الإمارات، ولكنك حيث تزور أي معرض عربي للكتاب، سيدهشك عدد دور النشر السورية المشاركة من الداخل، ما عدا معارض الكتاب الدولية في الرياض وجدة والدار البيضاء، حيث تمنع مشاركة دور النشر السورية في الداخل. وبالطبع، لا يقدم ذلك مع النظام ولا يؤخر، وإنما يضاعف هذا المنع من أعباء دور النشر الخاصة، حيث يندر أن يتجاوز عدد النسخ من الكتاب ألف نسخة، كما هو الحال في دور النشر العربية عموماً.

ن معجزة النشر في سورية – وشر البلية ما يضحك – أن يُقال إن كاتبة شهيرة مثل أحلام مستغانمي لا يباع من رواية لها إلا نسخة واحدة، هي التي يسرع أحدهم إلى بيروت ليشتريها ويبدأ النسخ /التزوير/ اللصوصية، فتباع النسخة بنصف أو بربع ثمنها.

ما زال على الناشر أو من يريد أن ينشر كتابه بنفسه، أن يحصل على موافقة مسبّقة من دائرة الرقابة في وزارة الإعلام. ومن الحق أن الأمور “ترحرحت” في السنوات الأخيرة. أقول هذا وقد مُنِعَتْ لي سنة 2014 روايتي (جداريات الشام – نمنوما) وسنة 2016 روايتي (ليل العالم)، فـ “للرحرحة” حدود، وبخاصة عندما تضع بعض الحروف على بعض الكلمات المتصلة بما نحن فيه من نعيم ما بعده نعيم، منذ ست سنوات، وإلى أمد غير معلوم. وما من ريب في أن لذلك أثره في نوعية ما ينشر، خارج الدور المعنية بكتاب الطفل أو الكتاب العلمي أو الكتاب الديني.

 

مروان عدوان (دار ممدوح عدوان): انهيار الليرة السورية أثر على كل شيء

تأسست دار ممدوح عدوان للنشر في دمشق العام (2006) تكريماً لذكرى الأديب السوري الراحل ممدوح عدوان (1941- 2004)، وتكريساً لحلمه بتأسيس دار نشر تشكل منبراً للكتاب الجدد.

لذا، تعنى الدار في المقام الأول بنشر الأعمال الأدبية والفكرية المتميزة لكتاب ومترجمين جدد، والتي ترى الدار في إصدارها، إضافة نوعية للمكتبة العربية. وتفخر الدار بتقديمها إصدارات لأدباء مستجدّين أصبحوا أسماءً لامعة في عالم الثقافة. كما بتقديم ترجمات دقيقة ومنقّحة لكتّاب من مختلف أنحاء العالم، إدراكاً لأهمية تنشيط الحياة الثقافية والاطلاع على المنجزات الحضارية المختلفة في تشكيل الوعي الفكري في المجتمعات العربية.

توقفت الدار بين عامي 2013 و2014 بفعل الظروف القاهرة في سورية، لتعاود عملها في نهاية العام 2014 بإصدار أربعة كتب جديدة، وإعادة طباعة كتابين من إصداراتها التي نفدت، وأصدرت منذ بدء هذا العام 2016 تسعة عشر عنواناً جديداً، ليصبح في رصيدها ما يقارب المئة عنوان تتوزع ما بين دواوين شعرية، ونصوص مسرحية، ودراسات فكرية وأدبية، وقصص، وروايات لكتاب من مختلف الدول العربية، بالإضافة إلى ترجمات عن الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والسويدية والروسية والسلوفاكية.

في العام 2013 بسبب بعض الظروف الشخصية، والوضع العام اضطررنا لترك سورية. وهذه الظروف أدت لتوقف عمل الدار لعامين تقريباً.

على الرغم من بقائنا خارج البلد، حاولت الدار العودة للعمل بشكل كامل في سورية، نهاية العام 2014، لكن بالإضافة إلى كوارث الحرب في سورية وصعوبات الرقابة الدائمة، كانت الكوارث المعيشية من انعدام الكهرباء وصعوبة التنقل والشحن والانهيار الاقتصادي السبب في اضطرار الدار إلى العمل خارج سورية.

لكن لرغبة في البقاء في المشهد الثقافي السوري – رغم تداعيه – تعمل الدار على تخصيص طبعة محلية من أغلب عناوينها وبأسعار خاصة بالوضع في سورية.

الصعوبات والتشتت السوري، أدت إلى التفكير بطريقة مختلفة لعالم النشر، بالاعتماد على التطور التقني سواء في كيفية صناعة الكتاب. الإنترنت ألغى الحاجة إلى وجود مكان مشترك لفريق عمل الدار، كل شخص يعمل من مكان مختلف في العالم، مما يجعل الجواب عن سؤال، أين يقع مقر الدار حالياً؟ هو الإنترنت.

صيغة النشر نفسها تغيرت لتعتمد إلى الكتب الإلكترونية والكتب الصوتية بالإضافة إلى الكتب الورقية، الكتب الإلكترونية تتخطى الحدود والرقابات.

المقاطعة العربية والتخوف العالمي من الجنسية السورية أدى إلى كثير من المصاعب. دور النشر تعتمد بشكل رئيس على معارض الكتاب للتسويق والمبيعات. أغلب الدول العربية صعّبت منح تأشيرات دخول (فيزا) المشاركة للناشر السوري، في كثير من الحالات تصل الفيزا بعد بدء المعرض أو قبل المعرض بيوم. بعض المعارض تمنع مشاركة الناشر السوري من الأساس. فضلاً عن أن الوضع الاقتصادي السوري والوضع الأمني صعّب على الناشر السوري السفر، لكن كوني مقيماً خارج البلاد فلا أعاني من هذه المشكلة.

النسبة لنا ولبعض الدور فإننا نتجه للمشاركات المشتركة في المعرض (وفي كثير من الأحيان مع دور غير سورية) لتسهيل الأمور الإجرائية بالمشاركة، وموضوع فيزا المشاركين في المعرض.

المشهد الثقافي السوري وصناعة النشر يعانيان على عدة أصعدة؛ كثير من الفاعلين في المجال الثقافي اضطروا للهرب من سورية تحت ضغط الملاحقات الأمنية أو المليشيات المتشددة أو الوضع الاقتصادي والأمني السيء. كثير من العاملين في هذا المجال تعرضوا للاعتقال سواء من السلطات السورية أو من المليشيات المتشددة التي ملأت البلاد.

كثير من المطابع أغلق بسبب دمار الريف الدمشقي، بعضها انتقل بشكل أصغر إلى المدينة، وبعضها سافر أصحابها أو اختفوا، كذلك الأمر لبعض الناشرين.

التردي الاقتصادي وانهيار الليرة السورية أثر على كل شيء في سورية، ومن ضمنها صناعة النشر، ورق الطباعة ليس متوافراً دائماً، تغير الأسعار نظرًا لتغير قيمة الليرة، الوضع الأمني.

أعتقد أن الانقسام المجتمعي في سورية أثر على العلاقات الشخصية في عالم النشر أكثر من المستوى المهني، العاملون في المجال الثقافي السوري انقسموا بحدة حول الوضع السوري والحراك الشعبي، لكن مخططات النشر لأغلب دور النشر لم تتأثر بهذا الانقسام والعلاقات المهنية لما تتأثر بشكل كبير بين الناشرين.

أغلب دور النشر السورية – والعربية، هي مشاريع شخصية أكثر من كونها مؤسسات، لذا الرأي الشخصي لصاحب الدار يحكم بالتأكيد خياراته في النشر. لكن الكثير من دور النشر حاولت ألا يطغى طابع سياسي على إصداراتها (بحكم ما أراه في المعارض). وبالأساس لا توجد دور نشر عاملة في سورية وتهتم (أو تستطيع) العمل في المجال السياسي. لذا القليل جدًا من دور النشر من اتخذ موقفاً مؤيداً للنظام السوري من ناحية الإصدارات (هذا مختلف عن الآراء الشخصية لأصاحب دور النشر). دور النشر المهتمة مثلاً بنشر الروايات الأدبية لم تتغير نوعية إصداراتها بغض النظر عن رأي صاحب الدار بما يحدث.

بعض الدور اهتمت بإصدار كتب تشرح الوضع السوري من وجهة نظر العاملين في النظام السوري -على قلتها -، لكن بعض دور النشر التي نشأت لاحقًا خارج سورية، تخصصت في إصدار كتب لمعارضين للنظام، كثير من الكتاب والناشطين السوريين عمدوا إلى توثيق تجربتهم الصعبة في هذه السنوات، وأغلب من خاض هذه التجارب الصعبة هم المعارضون للنظام السوري، سواء تجارب الاعتقال أو تجارب الهجرات. فأفسحت لهم هذه الدور الباب لنشر نتاجهم.

بالمجمل أغلب النتاج الأدبي الذي يصلنا في الدار أصبح مرتبطًا بالحرب والحراك الشعبي. وحتى لمن لم يسبق له العمل في المجال الثقافي، عمل على توثيق تجربته وحاول نشرها.

بشكل ما، لا أعتقد أنه توجد دور نشر يمكن وصفها أنها موالية أو معارضة بالاعتماد على إصداراتها، ما عدا القليل جدًا من دور النشر الجديدة التي تخصصت بإصدار كتب عن الحراك الشعبي أو تجارب المعتقلين.

بالنسبة لنا، انعكس الوضع على خيارتنا في الدار، خط الدار الرئيس الآن هو الترجمات الأدبية، وضمن عملنا أصبحنا نركز أكثر على ترجمة كتب أدبية تعرض تجارب مشابهة لواقعنا من ناحية السلطات القمعية أو تجارب الثورات والحروب الأهلية، (مثلاً رواية المفقود للكندية كيم إلكين عن المفقودين في كمبوديا، أو رواية حديث ليلي للكاتب السلوفاكي لاديسلاف مناتشكو التي تدور في مدينة دردسن الألمانية التي تعرضت لتدمير هائل وقصف لا داعي له بعد نهاية الحرب)، وهي محاولة لعرض تجارب شبيهة للوضع السوري، وأننا بشكل ما لسنا وحدنا من مر بهذه الكوارث.

الوضع الثقافي السوري سيتأثر بدول اللجوء، رغم كارثية تجربة اللجوء إلا أنه برأيي سيكون لها فوائد من حيث اطلاع العاملين في المجال الثقافي السوري على ثقافات وتجارب جديدة، فرصة للانفتاح على العالم بعد العيش في القوقعة السورية.

وحتى في كيفية مقاربة الكارثة السورية، فإن الاطلاع على تجارب دول ومجتمعات أخرى سينعكس إيجاباً على النتاج الثقافي السوري، وبالاتجاه الآخر، أي على الاطلاع الغربي على النتاج الثقافي السوري.

ربما سيحتاج الموضوع بعض الوقت لتجاوز النظرة الغربية المتعاطفة دوماً مع الإنتاج الأدبي للاجئ بسبب الوضع الإنساني إلى نظرة واقعية في تقييم نتاجه الثقافي والأدبي، وليس لتجربته الإنسانية.

من الصعب التنبؤ بمستقبل الوضع في سورية، قبل أن ينضج شكل الحل السوري القادم، وارتباطه بمدى إمكانية عودة العاملين في مجال النشر إلى دمشق.

ومن ناحية اقتصادية، لمن أسس لمشروعه خارج سورية، قد يكون من الصعب عليه العودة إلى الداخل السوري من ناحية الاستقرار الاقتصادي.

 

أيمن الغزالي (دار نينوى): حرب الهويّة والوجود

يجد السوري اليوم نفسه تائهاً بين الواقع والطموح بين المسؤولية والعبثية بين مواقفه تجاه قضاياه وبين موقف العالم منه، والذي يحاول بكل وسائله إيجاد المعادل الموضوعي لما جرى لكن يبدو أنه من دون جدوى حتى وإن تجسد ذلك حيال مصيره وحياته، وبين ما تتطلبه المرحلة من توازن وتحدٍ من أجل المشاركة والمساهمة في عملية الإنقاذ والبناء والمشاركة على المستوى المحلي أو المستوى العربي ودوره الإنساني في الحياة، ورسالته للعالم سواء أكان هذا الموقف منسجماً مع قناعاته أم ضدها، خاصة عندما تشظّى لدرجة الضياع وأصبحت مهمته المحافظة على الحد الأدنى من وجوده وكيانه وعدم الانجرار وراء عالم عبثي ظلامي بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإن بدت السياسة تتقاذفه وتدفع به إلى الجنون.

أعتقد أن المشروع الثقافي وما يتطلبه ذلك الدور بعد كل هذه المخاضات، سيكون محكومًا بهذا الصراع الأكبر في عملية النهضة بالإنسان نفسه، كحامل فكري وموضوعي للمعطيات الجديدة وبالعملية الإنتاجية بحد ذاتها.

ومن هنا لا يزال السوريون بمختلف دوافعهم الذاتية والتجارية والحياتية والفكرية يحاولون المحافظة على الدور الإيجابي للكتاب من خلال مواجهة تحديات المرحلة الآنية والاستراتيجية على المدى البعيد، وأهمها صراعه الدائم في دوره الذاتي أو الأيديولوجي أو الوطني والمحافظة على دوره وموقعه في خارطة النشر العربي، والتي لا تزال إلى الآن تحمل الجانب الفكري والنخبوي من العملية، رغم كل محاولات الإجهاض الداخلية والخارجية، التي تتمثل بموقف بعض إدارات المعارض العربية من الناشر السوري وتأطيره بما يجري في المنطقة ومحاربته، علمًا أن هذه المواقف بدت واضحة في السنوات الخمس الأخيرة.

بين وضعين وبين حربين تختلف معاناة الناشر السوري، ولكل مرحلة معوقاتها ومشاكلها سواء تقاطعت أم تنافرت، لكن بالمحصلة المشاكل دائمة وتزداد، ولهذا نجد النشر اليوم كميًا ونوعيًا بالوقت نفسه، وهذه محاولة حثيثة في التشبث بالبقاء، وليس الخروج وتعويم الأزمات وطرح بدائل شكلية وتافهة وتغريبية، بغض النظر عن السبب والدافع، ورغم تأثرها الشديد بما يجري إلا أن العملية لم تدفع ثمن الانقسام الواضح في بلدي، بل بقي الكتاب بمنأى عما يجري إلى حد ما، وإن بدا ذلك واضحًا بعض الأحيان في الشكل والمضمون، لكن الكتاب السوري عن مشكلته لم يرتق بعد الى مستوى ما يجري فبقي محتواه مقاربات وأمنيات وتداعيات ذاتية.

 

أما في ما يتعلق بالكتاب السوري بشكل حصري، أعتقد أن مشاكله تبدأ وتنتهي في كل العملية برمتها كعملية إنتاجية ضمن ظروف الحرب والسلم، وما تواجهه من معوقات وتجاهل، وما سرّ بقاء بعض دور النشر إلى الآن إلا عناد مؤجل، قد ينقضي الأمر في أي وقت، وإيمان مبطن بالدور الحقيقي للكتاب، وإن بدا اليوم عكس ذلك.

لكن هناك منافسات فردية تأتي في سياق أحد أهم العوامل التي جعلت العملية متجددة ولا تنتهي، وتبدأ العملية بالرقابة وتنتهي بالتسويق، كل هذه المشاكل كفيلة بجعل العملية حرباً مع كل شيء. أمام المنتصر، أجد بصيص أمل هو النوع والجدية التي قد تكون مطلباً ورهاناً حقيقياً في المرحلة العربية القادمة، وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى مؤسسات ذات قيم وطنية عربية.

أما عن الأسباب التي كانت من الممكن أن تدفعني للتوقف عن العمل أو الانتقال إلى مكان آخر هي الأسباب نفسها في كل مكان مع اختلافات شكلية. أضف إلى ذلك، نحن لا نستطيع تحمّل تكاليف الانتقال في ضوء التدهور الحالي لأوضاع المنطقة العربية برمتها، وكذلك التعامل الرديء الذي يواجهه السوري من كل العالم.

فليست المشكلة الآن في المكان ولا في النشر أو معوقاته، الآن امتد السؤال ليصل إلى النظر في الجدوى والحرب التي يبدو أن العربي لم يدرك بعد مخاطرها وهي حرب الهوية والوجود.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى