وا نـوروزاه!
هوشنك بروكا
لم تبقَ تفصلنا عن نوروز(اليوم الجديد، أو رأس السنة الجديدة)، في كونه “زماناً عالياً”، كأكبر عيدٍ قومي عند الأكراد على الإطلاق، سوى ساعات.
اليوم، سندخل نوروز وزمانه الجديد، وذلك بعد أربعة أيامٍ، من دخول السوريين غضبهم الجديد، في عددٍ من مدن الساحل والداخل والبادية والجنوب.
اليوم، كان الغضب في درعا على أشده؛ درعا، التي أراد لها تلاميذها، في الصفوف الإبتدائية، أن تكون أول من تريد إسقاط النظام، كما جاء على لسان حالهم البريء: الطباشير.
على مستوى غضب الشارع السوري، هناك الكثير ممن عوّل، ولا يزال، على الورقة الكردية، التي يعتبرها البعض من أخطر الأوراق، التي يمكن اللعب بها ضد النظام، لا سيما وأنّ للأكراد السوريين، تجربة غضبٍ سابق على النظام، قبل سبعِ سنوات، عندما خرجت الجماهير الكردية من قامشلو إلى عفرين، مروراً بكوباني وحلب ودمشق، على النظام، وأجهزته الأمنية، في غضبٍ إستثنائيٍّ عارم، عُرف بإنتفاضة 12 آذار، حيث لم يسبق لها مثيل، منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
الأكراد في سوريا، اليوم، ما عادوا كرةً للعب بهم في الملاعب القومجية، كما كانوا أيام زمان. هم الآن، بإعتقادي، ورقةٌ مهمة في زمن قيام الشوارع، يمكنها أن تساهم سورياً، بقسطٍ كبير من التغيير.
حتى اللحظة، لم تشهد المناطق الكردية في الشمال السوري أي غضبٍ يذكر.
وقع اختيار البعض على الذكرى السابعة لإنتفاضة قامشلو، التي مرّت قبل إسبوعٍ أو يزيد، كزمانٍ مثاليّ، لإنطلاق شرارة الغضب الأولى في الشمال السوري، ولكن الذكرى مرّت، بدون غضب. لم يخرج أيّ شيء على العادة.
الكلّ انتظر الغضب ولا يزال، بعد أن بلغ السيل الزبى، كما يقول المثل، ولكن لا غضب ظهر.
الكلّ يسأل عن السبب الذي يتوارى خلفه كلّ هذا الصبر الكردي، ولا جواب حتى اللحظة.
السبب المعلَن حتى اللحظة على الأقل، هو الموقف شبه الموّحد، “اللامشجّع”، لفصائل الحركة الكردية، كما تقول الأخبار. فهي، اختارت لنفسها هذه المرة، “الحكمة السياسية”، على حدّ قول بعض منظّريها، طريقاً “ثالثاً” لها، وذلك على طريقة سياسة “عدم الإنحياز: لا شرقية ولا غربية”!
منذ ما يزيد على نصف قرنٍ ونيف من الزمان(أي بالضبط منذ 14 حزيران 1957 وهو تاريخ ظهور أول حزب كردي سوري، بإسم الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى العلن)، تطالب الحركة الكردية السورية بالحقوق الثقافية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية لأكرادها، ضمن إطار الوطن السوري الواحد. كل الأحزاب الكردية التي تجاوزت عددها ال14 حزب وجماعة، تدعو بدون استثناء، إلى سوريا واحدة، تضمن حقوق أكرادها بإعتبارهم مواطنين متساوين، في الحقوق والواجبات، مع أخوانهم من العرب والقوميات والجماعات الإثنية الأخرى، سواءً بسواء.
الكل الكردي من أهل السياسة، من اليمين إلى اليسار(بحسب توصيف قاموس الحرب الباردة وثقافتها التي أسست لأول الإنشقاق في أول حزب كردي عام 1965)، يريد سوريا واحدة، أرضاً وشعباً، جغرافيةً، وتاريخاً، وثقافةً، مع الإعتراف بالطبع، بنوع من الخصوصية الكردية، ضمن إطار الكيان السوري الواحد.
منذ الظهور الأول للأكراد السوريين في كيانٍ سياسي، بداية النصف الثاني من القرن الماضي، وهم يطالبون ويتمنون ويرغبون، ولا شيء من ذلك تحقق على أرض الواقع.
هم، كأحزاب، يستنجدون وينادون ويطالبون فحسب، وليس لهم إلا أن يطالبوا إلى يوم القيامة، أو يوم الدين، كما يبدو، طالما أنّ السياسة وأهلها في السلطة، باقون على الصدور، بقوة الحديد والنار، رغماً عن أنف الذي يريد أو لا يريد.
طيلة نصف قرنٍ ونيف من الزمان، لم تستطع هذه الأحزاب المتكاثرة أن تحقق للكردي “الأجنبي” أو “المكتوم”، أبسط ما يمكن أن يتمتع به المواطن التحت عادي، ألا وهو حق الإنتماء الطبيعي، ل”هوية” بلاده الطبيعية.
المطرودون الكرد من هويتهم السورية(يقارب تعدادهم الآن 300 ألف نسمة)، الذين حوكموا منذ 1962، بموجب مرسوم جمهوري، ب”الأجنبية” و”المكتومية” و”الخارج وطنية”، لا يزالون يراوحون مكانهم، في اللاحقوق ذاتها، والمطرودية ذاتها، و”اللاهوية” السورية ذاتها.
لا بل أن الطين السوري، قد ازداد في السنوات الأخيرة بلةً، وذلك عبر إصدار النظام لمراسيم شوفينية(كمرسوم 49) بحق الأكراد ومناطقهم التي تعاني من حالة طورائ مضعّفة.
لا شك أن الأكراد الذين يربو تعدادهم عن ثلاثة ملايين نسمة(أي أكثر من 13% من مجموع السكان في سوريا البالغ تعداده 22.5 مليون نسمة)، يشكلون في سوريا مكوناً أساسياً من مكونات الموزاييك السوري، ويحسب النظام حساباً غير قليل، للعبهم المحتمل في الغضب السوري، الذي انطلق قبل أيام، في كلٍّ من درعا ودمشق وحمص وبانياس وديرالزور.
وهنا بالضبط يكمن سبب تناقل بعض الأخبار الخجولة، مؤخراً، والتي يحاول النظام من خلالها “ترقيع” أخطائه، واطمئنان الأكراد بإطلاق بعض الوعود(المشكوك فيها سلفاً) لهم، بأن الإصلاحات بشأن “طارئيتهم السورية”، و”مكتوميتهم”، و”وجودهم الأجنبي”، قادمة ولا داعي للإستعجال، كما يقول صانعو هذه الوعود ومروّجوها.
الخطاب السياسي الكردي، مثله مثل خطاب كلّ المعارضة السورية عموماً، لا يزال خطاباً متخلفاً، عن نبض الشارع وتطلعاته. فهو بدلاً من أن يمشي مع شوارع أكراده، إلى غضب بات على عتبة الباب، لا مناص منه، نرى بعض قياداته ينظّر، راهناً، ل”التخلف السياسي” وضرورة الخروج أو الأبتعاد عن الشارع. أما الحجة الجاهزة لتبرير هذا “التخلف الضروري”، فهي، “الخوف على مصير الشعب”. بكلام آخر، أنهم لا يريدون لأكرادهم أن يصبحوا “رأس الحربة” أو “كبش فداء”، في دولة اضطهدوا ولا يزالون يضطهدون فيها مرتين: مرةً في كونهم أكراداً مطرودين من سوريا الهوية، وأخرى في كونهم سوريين خارجين على النظام، أو هكذا يُحسبون. أما دليلهم الأقرب إلى الذاكرة الكردية سورياً، والذي يبررون به سلوكهم السياسي “الإنطوائي” أو “الإنكماشي”، فهو انتفاضة 12 آذار، التي قمَعها النظام بوحشية وعنف وقتل بالجملة، قل مثيله، حيث راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى.
لايُنكر أن النظام قد نجح في حينه، إلى حد كبير في ضرب الشعب السوري ببعضه، وذلك عبر تجييش أهل الشارع العربي، موالين ومعارضين، وتأليبهم ضد أكرادهم، على أنهم “عملاء انفصاليون يسعون إلى اقتطاع جزء من أرض الوطن وإلحاقه بدولة أجنبية”.
كثيرون(بمن فيهم معارضون سوريون معروفون) صدّقوا كذبة النظام هذه، وتعاطوا مع الدم الكردي القتيل آنذاك، بلامبالاة، ونظّروا في أحداثه، على أنها “خروج على القانون، وشغب وفوضى”، كما سمتها آلة النظام الإعلامية حينئذٍ.
اليوم، بعد مرور سبع سنوات على ذلك الخروج الكردي الفوق عادي، على آلة النظام وأجهزته الأمنية القمعية، لا يزال العقل السياسي الكردي، يعاني من “أزمة الثقة” ذاتها، مع شريكه العربي، الذي ترك جماهيره، آذارئذٍ، يواجه الرصاص الحي بصدور عارية، وأن يذهب إلى “القتل الحلال”، على أيدي أجهزة النظام وقناصة مخابراته.
بعد مرور سنواتٍ سبع، على ذلك الدم الكردي، حيث الزمان تغيّر جداً، لا يزال الخطاب السياسي الكردي السوري، خطاباً ثابتاً يهرب من التغيير، بدلاً من الهروب إليه.
هذا الخطاب، لا يزال يعيش كوابيس سياسةٍ كانت، ناسياً أو متناسياً، بأنّ الشعوب من حولها، اليوم، قد تغيّرت وغيّرت معها دولها وحكوماتها وبرلماناتها، والشوارع قد تبدلّت، وديكتاتوريات قريبة وبعيدة قد سقطت، وأخرى لا تزال تنتظر السقوط.
من حق أهل هذا الخطاب السياسي الكردي، بالطبع، أن يّذكر أخوانه من أهل الخطابات السياسية السورية المجاورة بالتاريخ، ولكن ليس على حساب الحاضر أو المستقبل.
من حقهم أن يتعلموا من التاريخ، ولكن الحاضر يبقى درساً مهماً، ويظلّ المستقبل أهم.
من حقهم، أن يخافوا على أكرادهم، ولكن من واجبهم أن يخافوا على أخوانهم الآخرين، في الوطن الواحد أيضاً.
من حقهم أن يكونوا حقهم في تقرير مصيرهم، كما يشاؤون، ولكن من واجبهم أن يساهموا الآن، في تقرير المصير السوري، كأكراد سوريين أيضاً.
من حقهم أن يطالبوا بحق أكرادهم في التغيير، ولكن من واجبهم أن يغيّروا أيضاً.
فمن يريد حصته من التغيير، عليه أن يكونه.
ومن يريد الدخول في التغيير وقادمه، عليه أن يخرج من الثبات وماضيه.
ومن يريد التغيير، عليه أن يذهب إليه، لا أن ينتظره.
ومن يريد أن يغيّر، عليه أن يبدأ من نفسه، ف”لا يغيّر الله ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم”!
نعلم أنّ الثورات العربية التي اشتعلت حتى الآن، سواء تلك التي غيّرت، أو تلك التي لا تزال في طريقها إلى التغيير، كانت ثورات شعبية بإمتياز.
الشعب، كان هو الأب الروحي لها.
ميزة هذه الثورات الأساسية، حتى اللحظة، هي أنها كانت من الشارع إلى الشارع: الثورة كانت بنتاً للشارع؛ شارع فوق الإيديولوجيا، فوق الحزب، فوق الدين، فوق العشيرة، وفوق الدم.
الثورة السورية القادمة، حسب تصوري، لن تكون استثناءً. الأرجح أنها ستأخذ المنحى الوطني ذاته، صوب الشارع ذاته: وطن يساوي الشارع، وشارع يساوي الوطن.
سورياً، هناك الكثير من الأخذ والرد، بين معارضٍ ومؤيد، حول إجماع الأحزاب الكردية، شبه المعلن، على ضرورة “تحييد” الأكراد، ما أمكن، عن الغضب السوري، الذي دخل يومه الرابع فعلياً. ليس لأنهم لا يريدون التغيير، كما يقول لسان حالهم، وإنما لأنهم لا يريدون “12 آذار” أخرى. علماً أنّ البعض من هذه الأحزاب تتحفظ على مصطلح “التغيير”، وتستبدله ب”الإصلاح”، لأنها “لا تسعى إلى السلطة، ولا تنوي تغيير النظام”، كما تقول.
أياً يكن رأي هذا الأحزاب، وغيرها من أحزاب المعارضة السورية، في القادم من التغيير أو الإصلاح، ولكن الأرجح هو أنّ التغيير قادم، لأن السوريين قالوا كلمتهم.
هم يقولون كلمتهم الفصل، الآن، في درعا، بل الأصح، هو أنّ درعا تقول الآن، ما كان يجب أن يقوله السوريون منذ زمان كثيرٍ.
كما أشرت، آنفاً، الأحزاب والإيديولوجيات وملوك الطوائف، لم تذهب حتى الآن إلى الثورات المجاورة، وإنما هي التي ذهبت إليهم.
هم، لم يقدموا عليها ولم يدخلوها، وإنما الشوراع هي التي أقدمت عليهم وأدخلتهم إليها.
ذات الشيء يمكن سحبه على الأكراد و”حركتهم”، والمعارضة السورية أيضاً.
الأحزاب الكردية، بشهادة كلّ قياداتها، لم يكن لها يدٌ في انتفاضة 12 آذار، قبل سبع سنوات. الآن، تكرر الأحزاب ذاتها، التاريخ ذاته، والسياسة التحييدية(اللاشرقية واللاغربية) ذاتها.
الأحزاب الكردية السورية، هي بمجملها، ذات خطابٌ واضح و”متصالح” نسبياً مع السلطة.
ربما هي لا تريد إزعاج السلطة، كي لا تزعج هذه الأخيرة قياداتها المكشوفة التي تتحرك من دون أي غطاء.
هناك من يرى بأن الخطاب الأخير(تحييد الأكراد عن الغضب)، الذي ركبته الحركة الكردية، هو عبارة عن “غطاء سياسي”، لحماية قادتها من “غضب النظام” الوشيك.
ولكن للشعب أيضاً، كما هو دائماً، كلمته.
للشعب أيضاً، في كلّ زمانٍ، سياسته.
للشعب، أيضاً، في كلّ مكان، حقيقته.
نوروز، في الذاكرة الكردية، هو الزمان الجديد؛ أيّ الدخول في الأوّل من كلّ جديد: كون جديد، طبيعة جديدة، وإنسان جديد.
نوروز، في الميثولوجيا الكردية، هو ذاكرة تؤرخ لإنتصار النور على الظلام، والخير على الشر، وآهورامازدا على أهريمان.
نوروز في الوعي القومي الكردي، هو رمز للثورة: الثورة ضد كلّ قديم.
نوروز، يعني التغيير ضد كلّ ثابت: القادم المتغير ضد الماضي الثابت.
نوروز، يعني الفوضى الخلاقة ضد النظام المنتهي صلاحيته.
نوروز، يعني تمرّد الشعب ضد الطاغية؛ تمرّد الشاب الخلاق “كاوا الحداد” ضد الظالم ضحاك.
فهل سيكون النوروز الكردي، اليوم، جديداً كإسمه، كما أراد له أكراده الأولون أن يكون؟
هل سيصير النوروز السوري، اليوم، إلى شارعٍ جديد، يمشي إلى غضبٍ جديد؟
هل سيدخل الأكراد مع النوروز، اليوم، سوريا جديدة، تتدحرج إلى زمانٍ جديد؟
ليس لنا إلا أن نصرخ من سوريا إلى سوريا، مع درعا المشتعلة في أقصى الجنوب، المحاصرة الآن بتنين “الضحاك السوري”، بملئ حناجرنا:
وا نـوروزاه!
ايلاف