صبحي حديديصفحات الرأي

وثائق ويكيليكس: فضائل جديد/ قديم

صبحي حديدي

عاد موقع ويكيليكس إلى صدارة الأنباء العالمية، بعد أن نشر حزمة جديدة من الوثائق الدبلوماسية الأمريكية، بلغت قرابة 1.7 مليون من البرقيات والمذكرات والتقارير، تعود إلى سنوات 1973 ـ 1976.

ورغم أنّ السلطات الأمريكية رفعت الصفة السرّية عن هذه الوثائق، بالنظر إلى تقادمها، فإنّ الاطلاع عليها ظلّ مقيداً بشروط الدخول إلى الأرشيف الوطني الأمريكي؛ ومن هنا امتياز نشرها، وفتحها للعموم، في “ويكيليكس”.

وعلى منوال ما جرى في جولات النشر السابقة، وخاصة الأولى التي كانت الأشدّ دراماتيكية من حيث هتك الأسرار، قد يُفاجأ البعض بواقعة مثيرة للعجب تارة (كأن يفكّر الحسين، ملك الأردن الراحل، بمخطط لاغتيال الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة!)؛ وبأخرى ليست مدعاة استغراب، طوراً، إلا لأنها مزيج من المأساة والمهزلة (كأن يفكّر العقيد معمّر القذافي بدعم الإسلاميين المعارضين لنظام حافظ الأسد، ثمّ يرسل مساعده عبد السلام جلود إلى دمشق، لطمأنة الأسد هذه المرّة!). وقد يرى البعض الآخر، وكاتب هذه السطور في عدادهم، أنّ فضيلة “ويكيليكس” الأولى هي منح المرء وثيقة محسوسة، حول سلوك أمريكي رسمي كان واضحاً كعين الشمس، بيّناً ومنطقياً ومنتظَراً؛ ما خلا أنّ الدليل عليه ظلّ غائباً، أو مغيّباً في واقع الأمر.

على سبيل المثال، ثمة هذه الواقعة التي لا تغيب دلالاتها مع غياب صانعيها، أو اختفائهم من المشهد المباشر: ما الذي فعله الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، حين ارتأى الانحناء أمام “إلهام ربّاني”، حسب تعبيره، أراده (وعلى ذمّته: أوكل إليه) أن يجتثّ شرور الشرق الأوسط من جذورها، وأن يرسل مَنّ الحرّية وسلوى الديمقراطية إلى شعوب المنطقة البائسة؟ الخطوة الأولى على درب تلك “الحملة الصليبية الخيّرة”، كانت قراءة كتاب “حجّة الديمقراطية: جبروت الحرّية في التغلّب على الطغيان والإرهاب”، لمؤلفه… ناتان شارانسكي، السياسي الإسرائيلي، والمنشقّ السوفييتي السابق! الأرجح أنّ بوش لم يجد في هذا الاختيار أية مفارقة أخلاقية، كأنْ يبدو من غير اللائق نصح المقهور العربي باعتماد فلسفة القاهر الإسرائيلي. لعلّ سيّد البيت الأبيض قدّر العكس تماماً، وربما وعلى مبدأ: داوها بالتي كانت هي الداء!

أو، في مثال ثانٍ، حين قادت برقيات “ويكيليكس” إلى قطع الشكّ باليقين في أمر السياسات المراوغة التي اعتمدتها إدارة الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما، بين مداهنة المسلمين، علانية، في خطبتَيه أمام البرلمان التركي ومن جامعة القاهرة؛ والإمعان أكثر فأكثر، سرّاً، في تخريب العلاقات مع العالم المسلم، من خلال تحويل إيران إلى شغل شاغل أقرب إلى الهوس اليومي، هنا وهناك في المنطقة. كأنّ ما تغيّر على مستوى الأفراد في البيت الأبيض، ظلّ ثابتاً أو يكاد على مستوى السياسات؛ فكانت إدارة أوباما، في شخص وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون، وفلسفة دنيس روس المتشددة المطالبة لعقوبات اقتصادية أقسى، تعيد إنتاج السياسة ذاتها التي اعتمدتها إدارتا بيل كلنتون وجورج بوش.

بذلك فإنّ وثائق “ويكيليكس” كانت بمثابة “غسيل دماغ”، بالمعنى الإيجابي، عند أولئك الذين يعتقدون أنّ السياسات الأمريكية الكبرى، بصدد الشرق الأوسط تحديداً، يمكن أن تشهد طفرات جوهرية، أو تبدّلات تكوينية تفضي إلى انقلابات رأساً على عقب. هؤلاء كانوا أوّل مَنْ أصابتهم صدمة لدى اكتشاف صلة الاقتداء بين بوش وشارانسكي؛ وأنّ جميع استلهامات الأوّل “الربانية” حول الخير والشرّ، طُويت (حتى قبل أن تتجسد بأيّ معنى عملي) على لسان وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، في تبشيرها بـ”شرق أوسط جديد”. وهؤلاء، في المقام الثاني، كانوا أوّل خائبي الرجاء من ذلك اللغط الأمريكي الذي تعالى عشية غزو أفغانستان والإعداد لغزو العراق؛ حين أشاع البيت الأبيض أنه بصدد الانتقال من سياسة عقد صفقات التسوية مع أنظمة الاستبداد بذريعة ترجيح مبدأ الاستقرار حتى على حساب الشعوب، إلى سياسة الانفتاح على الشعوب البائسة ذاتها وتزويدها بمختلف الصادرات الديمقراطية، شاءت الشعوب استهلاكها أم أبت!

مرجح، إذاً، أنّ الولايات المتحدة لا تتكالب على “ويكيليكس” من باب حفظ ماء الوجه، فحسب؛ وإنما، أيضاً، لإنّ الماء الذي يُراق اليوم هو ذاته الذي أُريق مراراً، وإنْ في خلائط جديدة/ قديمة!

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى