وجع الإنسان في سورية يحكي قصصاً/ إسطنبول ــ لبنى سالم
رغم جدرانه المتهالكة وانتشار الركام فيه، لا يزال أبو صبحي يفخر ببيته، ويقول إنّه أقدم بيت في دوما. تعرّض منزل أبو صبحي لبرميل متفجر أثناء وجوده فيه، خلال حملة عنيفة شنتها قوات النظام في شباط/ فبراير 2015. وعن ذلك، يروي: “اختبأت في واحدة من غرفه لكنها انهارت فوقي، وعلى الرغم من ذلك لم أصب بأي جرح، ولم تسبب جدرانه المنهارة لي الأذى. لقد حمتني جدران البيت الحنونة من الموت والإصابة، وتم إخراجي من تحت الأنقاض سالماً. تزوج في هذا البيت جدي ثم أبي، وأنا أيضاً قضيت حياتي وتزوجت فيه، أزوره كل يوم لأطمئن على الورود المزروعة فيه، وعلى نافورة المياه وسط حديقته. جميع ذكرياتي قرب هذه النافورة”.
وجع الناس.. كما لا يقول الإعلام
أبو صبحي، هو بطل الحكاية الأولى لمشروع “الإنسان في سورية”. والأخير، هو مشروع إعلامي اجتماعي، بدأ منذ خمسة أشهر، يعمل اليوم بقوام أربعين شاباً وشابة من السوريين داخل وخارج سورية، بينهم مصورون احترافيون ومعدّ للنص العربي ومترجمون ومصممون ومنسّقة، يقومون بنقل قصص فرديّة مرفقة بالصور عن الإنسان السوري، لنشرها على الإنترنت.
وتقول مارفن، وهي إحدى مؤسسات المشروع، إنّ الهدف منه هو “إيصال قصص الأفراد في
”
القصص المطروحة ليست بمعزل عن الأوضاع المحيطة بالإنسان في سورية، إنّما تنقل ما يعيشه الفرد وينجزه ويعاني منه
” سورية وما يقومون بإنجازه، قصص لا نسمعها عادةً في وسائل الإعلام”. وتضيف: “تضمّ الحكايات مثلاً قصص الشبان العشرة الذين أنشأوا مكتبة في داريا، حيث تحمل قصتهم الكثير من التفاصيل والدلالات على قدرتهم الكبيرة في خلق الحياة وسط الدمار”.
ويقوم المشروع اليوم بنشر قصصه على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، “فيسبوك” و”تويتر” و”انستاغرام”، بثلاث لغات هي العربية والانكليزية والفرنسية. ويأتي ذلك بهدف الوصول للشريحة الأوسع من الناس داخل وخارج سورية، ويعمل القائمون عليه على تحضير موقع إلكتروني خاص بهم لإطلاقه قريباً.
الركام في كل مكان
يجمع الفريق أفراداً من عديد المناطق السورية وهي الغوطة الشرقية، والقابون، والمعضمية، ومخيم اليرموك، وداريا، وحلب وريفها، وإدلب، وبنش، وأريحا، وسراقب، والمناطق الحدودية بين سورية وتركيا. ويحكون حالها من خلال حكايات أفرادها، كبتول ذات الخمسة أعوام، التي التقطت لها صورة خلال تجوالها قرب منزلها في دوما، هي تحمل أختها الأصغر، التفتت بتول إلى الكاميرا وابتسمت لها، ثم قالت للمصور: “أحملها معي أينما ذهبت، لا تزال صغيرة ولا تستطيع المشي فوق الركام”.
وتشير مارفن إلى أنّ “القصص المطروحة ليست بمعزل عن الأوضاع المحيطة بالإنسان في سورية، إنّما تنقل ما يعيشه الفرد وينجزه ويعاني منه”، وتضيف: “لا نسلّط الضوء على الأحداث إنما على الأفراد”. كما تلفت أيضاً إلى قصور وسائل الإعلام النمطية عن نقل تفاصيل الوضع في سورية، فهناك الكثير لا تتم تغطيته، كالإنجازات التي يحققها السوريون رغم سوء الحال.
ويعمل المشاركون وفق آلية متفق عليها بينهم، إذ يقوم المصورون بإرسال القصص مع معلوماتها وصورها عبر البريد الإلكتروني، ويقوم قسم آخر بتنسيقها وتجهيزها للتصميم والنشر. وتؤكّد مارفن أنّ “المشروع لا يتلقى أي تمويل أو دعم من أي منظمة أو جمعية، إنّما يعمل الفريق بأكمله بشكل تطوعي بهدف نشر القصص وإيصالها”، مضيفةً أنّ “معظم المصورين في فريقنا محترفون ويعملون مع وكالات تصوير عالمية”.
هموم الغوطة
حسام وهبي، هو أحد المصورين المشاركين في المشروع، يعيش في غوطة دمشق، تحدّث حسام إلى عدد من أهالي الغوطة، الذين أفصحوا له عن همومهم، وحكوا له تفاصيل من حياتهم. وعن ذلك، يقول حسام: “أكثر ما يدفع الشخص الذي ألتقطُ له صورة للحديث، هو الهمّ، كثيرون منهم ينتظرون فقط من يسألهم عن حالهم، معظم هذه التفاصيل أحصل عليها من
”
كثيرون من السوريين ينتظرون فقط من يسألهم عن حالهم
” التعارف فقط”.
يحمل حسام كجميع المصورين المشاركين شعوراً بالمسؤولية لتوثيق ونقل أكبر قدر من قصص السوريين وأوجاعهم إلى العالم علّ هذا يغيّر شيئاً، ويضيف: “قصص الناس مشبعة بالوجع والضياع. أشعر في كثير من الأحيان أن قصة كل منهم تحتاج كتاباً”.
وعن مدى محاكاة القصة والصورة للواقع، يرى وهبي أنّ “قصص المشروع تنقل بكفاءة حال الشخصية التي تتحدث عنها، وتخلق إحساساً وموقفاً من المتلقي تجاه ذلك، لكن هذا يحدث للحظات ويتطلّب الكثير من الجهد والزمن ليكون مؤثراً، ويبقى الواقع أسوأ بكثير ممّا يبدو بالصور والكلمات، ولا يشعر بالوجع الحقيقي إلا صاحبه”. ويضيف حسام: “أكثر القصص التي أثّرت فيّ شخصياً، قصة تقى، وهي طفلة أبوها معتقل وتعيش مع أمها وأختها، تعرّفت إليها صدفة في الطريق، كانت تطلب المساعدة من المّارة، تكلمت معها وحكت لي قصتها، لم أعرف ما الذي سأفعله لها حينها”.
بنش بلدة “الطيران”
خصّص مشروع الإنسان في سورية، أخيراً، أسبوعين كاملين لنشر قصص متطوعي الدفاع المدني في مختلف المدن السورية، في محاولة لشكرهم على جهودهم لإنقاذ الإنسان في سورية من بطش آلات الحرب، كمرهف ذي العشرين عاماً، والذي يعمل كمتطوع في الدفاع المدني في ريف إدلب. ويقول إنه يفخر بانتمائه إلى بلدته بنش، التي لا يغادر الطيران أجواءها ولا تهدأ فيها القذائف. يصف الشاب الفرحة العارمة الذي تنتابه عند إخراج شخص على قيد الحياة من تحت الأنقاض. ويحكي تعرّضه للخطر لمرات عدة، يستذكر آخرها حين استهدفت سيارة الإطفاء التي كان فيها بصاروخ حوّل صديقه إلى أشلاء، يقول: “غادرت العالم لثوانٍ، عدت إليه وكانت السيارة تأكلها النيران، لم أجد صديقي بجانبي، عرفت حينها أنه مات، فكّرت بالخروج، لكني لم أجد قدمي أيضاً، فزحفت. صديقي يدعى راغب، كان مثقفاً وطموحاً وشهماً. كنت أحلم أن ألعب كرة القدم، لكن ما حدث سيمنعني من هذا طوال العمر”.
الجدير بالذكر أن مشروع الإنسان في سورية يزوّد اليوم عدداً من وسائل الإعلام السورية، يقدم لهم القصص دون مقابل بهدف نشرها على أكبر عدد ممكن من الناس. توضح مارفن أنهم يتعاونون حالياً مع (موقع حكاية ما انحكت) وراديو سوريالي، كما تعاونوا في وقت سابق مع جريدة سوريتنا.
*******
قصة حسان
“أنا حسان (24 عاماً)، أعيش تحت الحصار منذ عامين، أعمل مصوراً في غوطة دمشق. بدأت عملي الإعلامي خلال المظاهرات، كنت أجمع مقاطع الفيديو وأسلّمها لشقيقي، كان يعمل مراسلاً، كان دائماً إلى جانبي، خلال سنوات الحصار والثورة، واجهت آلاماً وتجارب قاسية تركت آثارها على شخصيتي، أصعبها حين استشهد شقيقاي. أصبحت بعدها مراسلاً لشبكة شام الإخبارية، أواجه مصاعب العمل وحدي وأعتمد على نفسي بعد أن كان أخي الإعلامي الخبير يقف إلى جانبي، لقد مررت في مرحلةٍ قلقة، عرفت خلالها نقاط ضعفي، وبدأت العمل على تداركها حتى أصبحت واعياً تماماً لما أفعله أو أنشره أو أعمل على تغطيته، وأصبحت لديّ رغبة جارفةٌ في أن أبلغ مستواه في العمل. أريد أن أتابع ما بدأه أثناء حياته لأكون صوت السوريين المحاصرين في الغوطة الشرقية”، هذه قصة حسان، إحدى القصص في المشروع والتي حصلت عليها “العربي الجديد”.
ويضيف حسان: “أواجه أيضاً متطلبات الحياة في الغوطة ومرض والدتي. حين أعرض عليها محاولة السفر تقول إنها لا تزال قادرة على تحمّل الوجع لذا يجب عليها البقاء. الحصول على معدات العمل الإعلامي في الغوطة صعب جداً، انقطاع الكهرباء يخلق مشكلات في سرعة
إنجاز العمل. بالنسبة لي لم يعد العمل الإعلامي مجرد عمل ثوري، فاكتسابي لبعض المهارات جعلني أحب مهنة الإعلام، وخاصةً أنني استطعت تحقيق نجاحاتٍ وإثبات نفسي في العديد من المجالات الإعلامية مثل كتابة التقارير والمقالات وإنتاج المواد المرئية. أظن أنني لن أتخلى عن الإعلام في المستقبل، فأنا أحبه كما أحب دراستي الأساسية (هندسة التصميم الميكانيكي)، وأعمل حالياً على زيادة خبرتي في العمل الإعلامي، وأنوي أن أعود لدراستي الأساسية بعد سقوط النظام، وأن أواصل العمل في المهنتين معاً”.
ويتابع: “ثمة 728 ألف مواطن داخل الغوطة الشرقية، وهم جميعاً مهددون بالموت يومياً، إما بالقصف الذي لا يتوقف، أو بالحصار الذي يقتلنا كل يوم عشرات المرات، ونحن الإعلاميون نحاول أن نصرخ في وجه العالم قائلين إن سكان الغوطة الشرقية بشرٌ يستحقون الحرية والحياة الكريمة مثل غيرهم. الحصار أبشع من الموت بآلاف المرات، فرؤية طفل يبكي من الجوع تقتلني كل يوم، ومشهد طفل آخر يجوب الطرقات ليبيع بعض القطع من البسكويت أو السجائر ليساعد في إعالة عائلته أيضاً مشهدٌ قاسٍ ومبكٍ، ورؤية مريض يزداد مرضه سوءاً يوماً بعد يوم مثل والدتي والآلاف غيرها يدمي قلبي، فمتى ستستيقظ الإنسانية في قلوب العالم لينظر إلى هؤلاء المحاصرين ويساعدهم على كسر حصارهم”.
العربي الجديد