“وداعاً للغة”!/ إبراهيم حاج عبدي
يعبّر عنوان فيلم المخرج السينمائي جان لوك غودار «وداعاً للغة» عن الحال التي وصلت إليها الفضائيات، وتحديداً في ما يتعلق بالجانب اللغوي، وليس المقصود، هنا، أن اللغة باتت عنصراً ثانوياً في وسيلة هي بصرية بالدرجة الأولى، بل المقصود أن هذه اللغة غدت هجينة؛ غير مفهومة، وتُرتكب بحقها أخطاء يصعب تبريرها.
الدليل الأول على أن «اللغة تحتضر» على الفضائيات، هو الخلط بين الفصحى والعامية على نحو يسيء إلى هذه وتلك، فالجمع بينهما يشوه بلاغة وسحر الفصحى مثلما يربك الإيقاع التلقائي الرشيق للعامية، وعلى رغم أن الحل سهل ويكمن في الاقتصار على هذه أو تلك، هناك إصرار على الدمج، بل ثمة دعوات تطالب بلغة ثالثة تجمع بين الفصحى والعامية، وهي دعوة لن تفضي سوى إلى لغة هجينة ملتبسة، فهي ستفقد العامية عفويتها الراسخة في الوجدان، كما ستحرم الفصحى من رصانتها المعهودة.
وهناك خلط من نوع آخر يجمع بين العربية ولغة أجنبية، ففي فضائيات دول المغرب العربي، وكذلك لبنان، تزاحم المفردات الفرنسية مثيلتها العربية، في حين تطغى المفردات والعبارات الإنكليزية في فضائيات أخرى، وهنا نكون إزاء خطاب لغوي غير مفهوم، ناهيك عن النشاز الذي يطرأ على موسيقى الكلمات التي تأتي كرطانة لغوية يصعب فك شفرتها، لا سيما أن هذا الخلط لا مبرر له فهو يأتي بغرض الاستعراض فحسب، أو هو في أفضل الأحوال شعور بالدونية تجاه لغة تنطق بها شعوب ذات حضارة وثقافة لا يمكن تجاهلهما.
وبين هذا وذاك، ثمة إساءة للغة لا يمكن فهمها، وتتمثل في أخطاء نحوية وقواعدية ترفع المجرور وتنصب المرفوع وتسكن المتحرك وتحرك الساكن، فضلاً عن تراكيب تبدو طارئة على لغة لها قواعد واضحة لا مجال للاجتهاد فيها. وتحصل مثل هذه «المجزرة اللغوية»، غالباً، أثناء الترجمة الفورية التي تتطلب مهارة وسرعة بديهة قد يفتقر إليهما المترجم، وكذلك أثناء برامج البث المباشر، فالحديث هنا يأتي ارتجالياً وسريعاً وهو ما يهدد بالوقوع في الخطأ، إذا لم يكن المذيع متمكناً من لغته. والواقع أن شرط إتقان اللغة هو بدهي في اختيار المذيعين والمذيعات. لكن، يبدو أن ثمة استثناءات تقود في النهاية إلى مزيج لغوي غامض لا يتناسب مع طبيعة وسيلة توصف بـ «الجماهيرية».
ووسط هذه الفوضى اللغوية تأتي لغة الإشارة لتكون الأكثر نجاعة وجاذبية، فهي تخلو من الأخطاء ولا تحمل أي ضجيج، وهي، عبر الصمت والحركات المعبرة، كأنها تقول «وداعاً للغة» التي باتت نوعاً من الثرثرة المملة لا تفصح عن شيء بمقدار ما تشير إلى نوع لغوي باهت لا يغني فضاءات الصورة المعروضة، كما يفترض، بل يغطيها بحروف متلعثمة وألسنة ركيكة.
الحياة