وداعًا خوان غويتيسولو
تأمل حفلة الأباطيل من خارج الحلبة/ خوان غويتيسولو
ذات يومٍ غرقت طفلة في صهريج على مرأى من مئات الشهود دون أن يبادر أحد منهم لانتشالها: “لربما هي مهاجرة”، يهمس الجمهور. في يوم آخر كانت قنبلة مختبئة في صندوق دمية أهداه سائق سيارة “محسن” لصبيين غجريين وانفجرت في يد أحدهما مسفرةً عن إصابتهما بجروح خطرة. وفي يوم ثالث صبّ جماعة من ذوي الرؤوس الحليقة سائلا سريع الالتهاب على فتاة غجرية وأضرموا فيها النيران. بيد أن الرأي العام للدار الأوروبية المشتركة المجيدة لا ينفعل، لا يشعر بصدمة. إنّ أحداثا من هذا القبيل صارت عادية وشيوعها المتكرر يحوّلها إلى أحداث تافهة.
لقد عششت الهمجية في نطاقنا النقي والمحايد ونتعايش معها. هل تعني شيئا للأوروقراطي فظائع كل من البوسنة والشيشان ورواندا؟ لامبالاتُنا حيال مصيبة الغير، ولو كانت مصيبة معيّنة وملموسة للغاية، لا تختلف عن اللامبالاة الخاصة بقرية نمل.
نحيا، مثلما أشار بودريار، ضمن نظام عالمي أناني، لا قيم له، مستغرقين في ثقافة مظاهر ليست في الحقيقة سوى ثقافة فراغ. هيمنة الحضور الإعلامي تجعله مبتذلا وتفسده. نطلع على كل الأحداث ولا يمسنا أيّ منها. وهناك يتموقع الأخ الأكبر، الذي كان جورج أورويل قد تنبأ بمجيئه، ساهرا بعناية على هذه الغفلة والكسل ويعبّئ قواه الجبارة لإبقائنا جامدين، فاقدي الإحساس، متجاهِلين.
وهكذا، ينزلق تعاقُب الكوارث التي تجتاحنا -العنصرية والكره للأجانب والقومية المتطرفة والحروب العشائرية إضافة إلى عمليات الإبادة البشرية والتطهير العرقي- على جلد أوروبا التي أضاعت الايمان بمبادئها والصلة المثمرة القائمة بثقافتها ذاتها، أوروبا ترفض خائفةً المعايير والثقافات المغايرة لاعتبارها تهديدا كامنا ضد خلائها الأخلاقي المثقف وضد بدائله المصطنعة.
ومن ثمة، ففي فضاء تستحوذ عليه عقيدة جمع الأموال المقدسة وإحراز الرضا الفردي، يُشتبه بكل ما لا ينسجم مع ذلك ويوصف بأنه حجر لفاعلية النظام الاجتماعي أو عائقا معرقلا لتماسكه: إنّ عدم تكيُّف الغجر على الطرقات الجديدة الممهدة جعل منهم عناصر للشذوذ والفوضى في صميم مجتمعاتنا المحافظة الجوفاء.
لنعلننّه عاليا: لقد أصبح الشذوذ اليوم فضيلة لا بدّ منها وآخر عدة الإنسان المتعدد لمواجهة التخدير المتوحِّش الذي يحقنونه. أن يكون المرء غجريا يمثل صورة من صور الصمود إزاء حجر رحى الانتزاع الثقافي الطاحن وتجاه التبخّر التدريجي الذي تشهده صلاحية الاتفاقات والقوانين التي تعتمد عليها دول أوروبا التي يقال عنها إنها موحدة ومنظمة. الشعور بغجرية الذات يعني التماس حق الاختلاف في فضاء غير مبال وسوي، يعني دعوة إلى الترحال بدلا من التحديد الصارم للمكان، بل والمطالبة، في خضم الحضارة الكاذبة لرفاهية القليلين وبؤس الكثيرين، بإنسانية البشر المفقودة.
لستُ من هواة الجوائز والتكريمات لأنني عاجز عن تحديد نقطة الاتصال بين بريق الكتابة ولطفها وبين سلّم قيم لا يخصها، إنْ لم يكن معاديا للحافز الأوليّ الذي يثيرها.
وحينما بات فساد الطبقة السياسية النتن واقعا يلطخنا جميعنا يوميا في إسبانيا وخارجها، لا ينخدع بسذاجة حلم وجود “برناس” الشعراء مبني على قيمة العمل المكتوب باستقلال عن ضغوط المصالح المؤسساتية والتجارية؛ سوى من يرغب في انخداعه.
ما كتبه في أوانه كل من بلانكو وايت ولارّا وكلارين وباي إنْكَلان وثِرنودا عن محترفي الأدب ومنازلهم وطقوسهم لا يزال يحتفظ بمصداقيته القديمة. لقد كان كذلك ماضيا، وما زال حاضرا، وسوف يكون مستقبلا: ليس هناك، إذن، مبرّر للتأسف ولا لتمزيق الثياب. سأقتصر، كما يفعل آخرون وكما هو حال الكلب المسن ذي الخبرة الذي يتورّع عن العضّ والنباح، على تأمل حفلة الأباطيل من خارج الحلبة. عطيتُنا لشجرة الأدب منزهة عن أي مقصد. لا ننتظر شيئا عوضا عنها: لا نطمع في تشريف ولا في سلطة.
بالعكس، ما يحرك عواطفي حقا وما يصل مباشرة إلى أعماق قلبي هو “اعتراف المساكين” و”إجلال البسطاء” الذين ذكرهم مَن تفضلوا اليوم بتكريمي. ألم أكن أشعر نفسي بوجه من الوجوه، ومنذ بلغت الإدراك الكامل، غجريا معنويا؟ ألم يلهم كتابتي وحياتي استقلال النَّوَري وتسكعه الخصب، أي ازدواجيته السعيدة المؤلفة من الإخلاص ومن تشرّدٍ دام قرونا من الملاحقة والشقاء؟
لهذا، فلا أحسب استقبالكم إياي أخيرا عضوا في جماعتكم أمرا عابرا وشرفيا بحتا، وإنما أرى فيه اعترافا علنيا من جهة فئة بشرية أتعاطف مع صراعها -الدفاعي دوما- من أجل البقاء على قيد الحياة ومن أجل الاختلاف، والتي أوافق على معاييرها موافقة تامة إذ هي خليط منتج من الاستثنائية والعالمية.
إسبانيا وأوروبا خاليتان من الغجر ستمسيان أكثر رمادا وحزنا وستعدمان الروح والظرافة. إنّ الغجر وإخوانهم المهاجرون العرب والأفارقة الذين يقتربون بتواضع من أراضينا لأن أسلافنا وطئوا عنوةً أراضيهم، هم جميعهم النور والظل الخالقان للتباين الضروري، إنهم سُمرة البشرة التي تعسلنا وخميرة ما لا طعم له وملحه. يمثلون شعورا كنوع من الوجود الخيّر والبداوة والقابلية اللتين تستدعياننا. هم من العوامل المضادة للاختلال الأخلاقي والانغلاق على الذات، ويشكّلون الأبجدية الجديدة لكتابة مصير مغاير لذلك الذي صممه لنا مالكو العالم عن طريق الرسوم البيانية والحواسيب.
* نص الكلمة التي ألقاها الكاتب الراحل في تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 بمناسبة استلامه جائزة Hidalgo (ذو المروءة) التي منحتها له “جمعية الحضور الغجري الوطنية” بإسبانيا.
** ترجمة عن الإسبانية: خوسيه ميغيل بويرتا
العربي الجديد
غويتيسولو: بُغْض القهر وتكريم الحياة/ صبحي حديدي
في أربع دورات متعاقبة، تشرفت بعضوية لجنة تحكيم «جائزة محمود درويش للحرّية والإبداع»، فمُنحت إلى أهداف سويف وبرايتن بريتنباخ، خوان غويتيسولو ومحمود شقير، زهير أبو شايب وجليلة بكار، حنا أبو حنا ودار النشر الفرنسية «أكت سود». وفي سنة 2010، حين فاز غويتيسولو (1931 ـ 2017)، شرّفتني لجنة التحكيم بكتابة حيثيات منح الجائزة، وأستعيد اليوم بعض أفكاري تلك؛ الآن إذْ يرحل الأديب الإسباني الكبير، الذي ـ للتذكير الأخلاقي الضروري، والمفيد ـ رفض جائزة القذافي الفلكية (200 ألف دولار)، وقبل جائزة درويش الرمزية (25 ألف دولار).
وحين كان على قيد الحياة، اتفقت غالبية من نقاد الأدب الأوروبي ومؤرخيه على اعتبار غويتيسولو أعظم كتّاب إسبانيا الأحياء، ليس لأنّ أعماله هي الأكثر ترجمة إلى اللغات الحية بعد ثيربانتيس، صاحب «دون كيخوته»، فحسب؛ بل كذلك لأنّ تلك الأعمال مدّت الكثير من جسور التواصل مع الثقافات واللغات الأخرى، ولا سيما الثقافة العربية والإسلامية، وأرست ركائز راسخة للاغتناء المشترك والاحترام المتبادل.
وكتابات غويتيسولو، الإبداعية والفكرية والصحافية، حول استقلال الجزائر والقضية الفلسطينية والبوسنة والشيشان وغزو العراق ونقد أنظمة الاستبداد العربية؛ شكّلت، من جانبها، أدب انحياز صريح إلى الحقيقة، وامتداح نبيل للحقّ في المقاومة، وهجاء مرير للتاريخ الاستعماري الغربي، ولكلّ ما هو زائف في سرديات أوروبا عن الآخر.
وعلى نحو خاصّ، كان غويتيسولو قد أخضع الثقافة الإسبانية إلى نقد معمّق، ولاذع تماماً، وشدّد على العواقب الوخيمة التي نجمت عن الموقف السلبي من المنجز الأندلسي، والانغلاق على الذات، وإطلاق أطوار شمولية ورجعية خيّمت ظلماتها على روح إسبانيا طيلة قرون. وفي ثلاثيته الشهيرة، «علامات الهوية» و«الكونت جوليان» وخوان بلا أرض»، التي صدرت خلال سنوات 1970 ـ 1975؛ هزّ غويتيسولو الضمير الإسباني باحتفائه بسبعة قرون من الثقافة التعددية التي أدخلها العرب إلى البلاد، وبفضائل اللغة والآداب العربية، لا سيما الشعر؛ مقابل الردّة التي تمثلت في محاكم التفتيش، وطرد العرب، والركود الفكري، وتعطيل الحداثة، و«الدخول في إجازة طويلة بعيداً عن التاريخ»، حسب تعبيره.
وعلى امتداد قرابة 50 مؤلفاً، في الرواية والسيرة والمقالات الصحافية وأدب الرحلات، عكس غويتيسولو ذلك البغض المبكّر لأنساق القهر كافة، والتي كان وعيه قد تفتّح عليها حين سقطت أمّه ضحية إحدى الغارات التي شنتها قوّات الجنرال فرانكو على مدينة برشلونة، خلال الحرب الأهلية لسنوات 1936 ـ 1939. ولقد صودرت كتبه، ومُنعت، فصار شهيراً لدى أقسام الشرطة أكثر من شهرته في المكتبات كما عبّر ذات مرّة؛ فغادر إسبانيا إلى فرنسا، حيث عقد صداقات أدبية وفكرية مع صفوة مثقفي باريس والمهاجرين إليها، من أمثال صمويل بيكيت وإرنست همنغواي وغي دوبور وجان جينيه، وكان الأخير صديقه الأقرب إلى نفسه. لكنه، إثر رحيل زوجته الفرنسية مونيك لانج، اختار مراكش مستقرّاً ختامياً، فأقام في بيت يطلّ على ساحة جامع الفنا، وخاض معركة تثبيت هذا الموقع ضمن تصنيف اليونسكو للتراث الإنساني.
عن أدبه يقول البيروفي ماريو فارغاس يوسا، نوبل الآداب للعام 2010، إنه لا يوجد في اللغة الإسبانية مَنْ يضاهي غويتيسولو في «التعمق الفكري، والابتكار الدائم للغة، والاستيعاب غير العادي للثقافات الأخرى، ومجاراة أفضل كتّاب أمريكا اللاتينية، من أمثال ماركيز وخوليو كورتاثار. ورغم أنه يكتب روايات ذات أسلوب طليعي وحداثي واستفزازي، إلا أنّ الإلحاح السياسي يقف خلفها على الدوام. وإنّ حسّه الرهيف بالتاريخ إنما يتأتي من عميق حياته الشخصية».
وفي اللغة العربية، كان للشاعر والمترجم والناقد العراقي كاظم جهاد فضل كبير في تقديم غويتيسولو، فترجم له «يوميات فلسطينية»، و«رحلات إلى الشرق»، و«في الاستشراق الإسباني»؛ كما اختار جهاد عدداً من الفصول الروائية، صدرت في كتاب بعنوان «على وتيرة النوارس». الكاتب والمترجم المصري طلعت شاهين نقل مختارات من مقالات غويتيسولو السياسية، صدرت بعنوان «دفاتر العنف المقدّس»، وضمّت «دفاتر سراييفو»، و«الجزائر في مهب الريح»، و«غزّة ـ أريحا: لا حرب ولا سلم»، و«مشاهد حرب، والشيشان خلفيتها». وأمّا الناقد المغربي ابراهيم الخطيب، فقد ترجم ثلاث روايات: «الأربعينية»، و«أسابيع الحديقة»، وحصار الحصارات».
كان غويتيسولو صديقاً شخصياً للراحل محمود درويش، وقد التقيا مراراً في أمكنة عديدة، باريس والأندلس ورام الله وسراييفو وسواها، وظهرا في شريط الفرنسي جان ـ لوك غودار الشهير «موسيقانا». ويقول غويتيسولو عن درويش إنه «أحد أفضل الشعراء العرب في القرن الحالي، ويرمز تاريخه الشخصي إلى تاريخ قومه. استطاع تطوير هموم شعرية جميلة مؤثرة احتلت فيها فلسطين موقعاً مركزياً، فكان شعره التزاماً بالكلمة الجوهرية الدقيقة، وليس شعراً نضالياً أو دعوياً. وهكذا تمكن درويش، شأنه في ذلك شأن الشعراء الحقيقيين، من ابتكار واقع لفظي يرسخ في ذهن القارئ باستقلال تامّ عن الموضوع أو الباعث الذي أحدثه».
ولم يكن غريباً (وإنْ كان نادراً!) أن تنصفه مرثية «نيويورك تايمز»، على هذا النحو الصائب: «بين كتّاب إسبانيا الأشهر، والذي كانت رواياته وقصصه قد مزّقت أوصال النزعة المحافظة، دينياً وجنسياً، في بلده؛ ومجّدت ماضيها الأندلسي».
القدس العربي
هذا المثقف/ توفيق بوعشرين
لا يُفتح كتاب المثقفين الملتزمين في هذا العصر من دون أن يُذكر اسم الأديب الإسباني، خوان غويتيسولو، ابن مدينة مراكش الذي عاش فيها وعاشت في داخله، ولم يهدأ له بال حتى أدخل ساحتها الساحرة، جامع الفنا، إلى قائمة التراث العالمي المحفوظ في اليونيسكو.
أسلم غويتيسولو الروح، الأسبوع الماضي، في بيته العتيق في المدينة القديمة بمراكش. مات جسديا، لكنه ثقافيا وفكريا سيظل حيا في ما خلّفه من سيرة وكتب ومواقف ستُبقي اسمه محفورا في ذاكرة أجيال وأجيال.
ترك حفيد سرفانتيس عشرات الكتب والمؤلفات، لكنه ترك ما هو أهم، ترك سيرة مثقفٍ لم يهادن الديكتاتورية، ولم يرفع الراية البيضاء أمام العنصرية، ولم يتعايش مع المركزية الغربية، ولم يهضم القومية المتعصبة التي تزرع الكراهية والحرب بين بني البشر.. مسار حياة ابن برشلونة رُسم يوم قتل الديكتاتور فرانكو والدته في قصف عشوائي بالطائرات إبّان الحرب الأهلية (1936- 1939). عندها قرر الصبي أن لا حياة له تحت سقف الحكم الاستبدادي، ولا مهنة له خارج الكتابة، ولا عقيدة له خارج ملاحقة الدم وإعلاء صوته، ألا يقول المثل “صوت الدم دائما أقوى”. …
ولأن العالم بيت من لا بيت له، رحل الشاب خوان إلى باريس، وهو ابن العشرين، وتحوّل من لاجئ ثقافي إلى لاجئ سياسي، حيث لم يوفر نقدا لنظام فرانكو وللكنيسة الكاثوليكية التي تحالفت مع الديكتاتور. ولهذا، تألم خوان غويتيسولو كثيرا عندما اختارته ليبيا ليحمل جائزة معمر القذافي (مليون دولار) فرفض تسلّمها، وكتب رسالة معبرة جدا يشرح فيها دواعيه السياسية، وليس الثقافية أو الأدبية، وأنه لكي يبقى منسجما مع ذاته وتاريخه ومواقفه، فإنه لا يمكن أن يقبل جائزةً من نظام ديكتاتوري، وهو الذي أمضى حياته يناهض الديكتاتورية، ويلاحقها بالقلم والكلمة والرأي.. نزلت رسالة خوان كالصاعقة على ديكتاتور باب العزيزية، معمر القذافي، فما كان من اللجنة التي تمنح الجائزة إلا أن حوّلتها إلى مثقف مصري اسمه جابر عصفور، ففرح بها هذا مثلما يفرح الصبي بلعبةٍ تُهدى له، ولم ير فيها ما يعيب سيرته وموقفه، فكان هو الآخر منسجما مع ذاته وتاريخه.
يقول غويتيسولو عن علاقته كمثقف بالمال: “أنا لا أكتب لكسب قوتي، بل أكسب قوتي لأستمر في الكتابة حرا بلا قيود. أنا كاتب الأقليات، ولم أطمح يوما لأكون كاتبا مشهورا أو كثير القرّاء. أنا أبحث عن قارئ يعيد قراءة ما أكتب، هذا يكفيني، لم أرضخ يوما لديكتاتورية الجمهور، ولا لديكتاتورية دور النشر”.
أينما كان الدم يراق، كان غويتيسولو يشدّ الرحال ليُسمع صوت الضحايا إلى العالم الذي لم يعد يسمع إلا نفسه ومصالحه. سافر إلى سراييفو التي كتب منها “دفاتر سراييفو وحصار الحصار”، وإلى فلسطين، حيث ساند قضيتها، وهو يعرف نفوذ اليهود في الأوساط الثقافية والإعلامية في أوروبا وأميركا. سافر إلى العراق، حيث وقف ضد حصار شعب وتدمير حضارة، وهو يعرف جبروت الآلة الأميركية.
أحب هذا الإسباني الثقافة العربية، ودافع عنها أكثر من أبناءَ لها، وناهض كل الكليشيهات التي وجدها في طريقه عن الإسلام والثقافة العربية والمهاجر المسلم، ودعا إلى التعايش بين كل الحضارات، على قاعدة الكفر بالقوميات المتعصبة التي رأى أنها الشر الأكبر الذي يبعد البشر عن بعضهم بعضا، ويزرع الفرقة بينهم.
ليس كل من يكتب يستحق حمل لقب مثقف، وليس كل من يظهر في الإعلام حاملا صفة دكتور أو باحث أو أستاذ أو خبير أو إعلامي يستحق لقب مثقف، وليس كل من جلس عند باب السلطان يمدحه أو يهجو خصومه بمثقف. المثقف علم وموقف، خبرة ورأي في الشأن العام، واستعداد للتضحية من أجل قول الحقيقة للسلطة، أيا كانت هذه السلطة، سياسيةً أو اجتماعية أو دينية. وبهذا وحده يكون المثقف مثقفا. هذا هو درس من يُدفن اليوم في أرض المغرب، علّ ترابها يُخرج من رفاته من يشبهه ثقافةً وروحاً نقديةً وشجاعةً في إبداء الرأي والانحياز إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
العربي الجديد
وداعًا غويتيسولو: كاتب إسبانيا الأكبر ومحب العرب/ أحمد عبد اللطيف
بعد مسيرة طويلة من العطاء الثقافي والإنساني، رحل عن عالمنا الكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو عن عمر يناهر الـ86 بمدينة مراكش المغربية، المدينة التي اختار الحياة والموت فيها.
فاز غويتيسولو بجائزة ثربانتس الكبرى، والتي تعد نوبل الآداب الإسبانية، عام 2014، بعدما توقف عن كتابة الرواية ما يربو على ستة أعوام، وهي الجائزة التي وصلته متأخرًا وكان يتوقع ألا تصله أبدًا، إذ كانت مواقف الكاتب الكتالوني حادة جدًا اتجاه السلطات الإسبانية المتعاقبة، وكانت مقالاته سهامًا لا تعرف المواربة تصيب هدفها تمامًا، حتى إنه في خطاب تسلم الجائزة الكبرى وجه كلماته لسكان مراكش الذي يدين لهم، بحسب كلماته، بالكثير من الهدوء والسكينة، بل وتبرع بالقيمة المالية للجائزة إلى العائلة العربية التي تستضيفه في بيتها منذ 1997.
كان غويتيسولو قد هاجر من إسبانيا لفرنسا في خمسينيات القرن الماضي احتجاجًا على ديكتاتورية فرانكو وتكميمه أفواه الكُتّاب والمثقفين، وفي باريس واصل مشروعه الأدبي وانتقاده سلطة الطاغية. تزوج من الكاتبة مونيك لانج التي رحلت عن الحياة في عام 96، فقرر غويتيسولو، رغم انتهاء الديكتاتورية، ألا يعود لمدينته، بل الحياة في مراكش التي قضى فيها ما تبقى من حياته واستقبلت موته ظهيرة أول من أمس. من هذه المدينة العربية، تابع وانحاز الكاتب الإسباني لكل ما هو عربي، وكان أحد أهم وأكبر الأصوات الأجنبية المدافعة عن الثقافة العربية الإسلامية، وكتب العديد من المقالات المطولة عن فضل العرب وثقافتهم في الثقافة والتاريخ الإسباني القديم والحديث.
لم يكن غويتيسولو فقط صديقًا لمحمود درويش وإدوارد سعيد وجمال الغيطاني، من بين مثقفين عرب آخرين، بل كان بالأحرى صديقًا للثقافة العربية، وفي احتفال الدولة الإسبانية عام 1992 بمرور 500 عام على “استرداد إسبانيا” من العرب، كتب مقالًا مطولًا ينتقد فيه الاحتفال بمحاكم التفتيش ومخالفة المعاهدة مع عبد الله الصغير، وطالب الحكومة الإسبانية في مقالته بتقديم اعتذار للعرب عما حدث للموريسكيين على مدى لا يقل عن مائتي عام، ووصف عمليات الطرد والتهجير التي تلت سقوط غرناطة بأنها “بقعة سوداء في تاريخ إسبانيا”، وكان هذا الاحتفال بمثابة الاحتفال بالوصمة السوداء.
التزام وفن
اتجهت الرواية الإسبانية بعد الحرب الأهلية (1936-1939) إلى التوثيق والالتزام، وسادت رواية اجتماعية لا تتجاهل، مع ذلك، رقابة فرانكو ويده الحديدية. في الخمسينيات بدأ غويتيسولو مسيرة الكتابة، وكانت روايته “ألعاب يدوية” (1954) نموذجًا لهذه الروايات الواقعية الاجتماعية التي وقعت في الفخ، فخ الالتزام وليس انتصارا لفن الرواية، ثم واصل نفس الطريق في باريس، ثم في الثمانينيات سينشر كتابه اللافت ذا الطابع السيري “في ممالك الطوائف”. قبل ذلك نشر رواية “علامات هوية” في المكسيك بعد أن منع نشرها في إسبانيا، وفي بداية السبعينيات انتبه غويتيسولو لفخ الواقعية والتوثيق وتكونت لديه تصورات فنية دفعته للتجريبية والطليعية، هكذا، وهو في الخامسة والثلاثين، سيصنع أعمالًا بارزة في الأدب الإسباني ليصنفه النقد كأحد أفضل كُتّاب إسبانيا في القرن العشرين، وربما يذهب بعضهم لاعتباره أهم مؤلف بعد ثيربانتس.
وتعليقًا على هذا التحول، قال غويتيسولو ذات مرة: “في كتبي الأولى قمت بواجبي كمواطن، لا ككاتب: يجب أن نعيد للأدب شيئًا مختلفًا عما تلقيناه. والعمل الحقيقي هو العمل المجدد، وأنا لم أكن قد صنعت قطيعة مع القانون الأدبي المستقر”. القطيعة حدثت مع أعمال مثل “مطالب الكونت دون خوليان” “خوان بلا أرض” “المقبرة” “فضائل العصفور المنعزل”، والتي لجأ فيها للتجريبية الشكلية لتناول موضوعات تقليدية مثل البؤس السياسي والأدبي في إسبانيا، والتقليد الصوفي أو التصوف المسيحي. خلال هذه الفترة أيضًا عمل غويتيسولو مراسلًا حربيًا في سراييفو والجزائر والشيشان، وهي التجارب التي تحولت لريبورتاجات صحافية ذات بعد تحليلي عميق جمعها بعد ذلك في كتاب. كما صنع العديد من الأفلام الوثائقية عن الثقافة الإسلامية لتلفزيون الإسباني، مثل “القِبلة”، ودفعه انحيازه للثقافة الإسلامية لتعلم اللغة العربية.
غويتيسولو والعرب
بالإضافة لمواقف غويتيسولو المعروفة والمسجلة في مقالاته التي انتقد فيها السلطة الإسبانية، سواء لموقفها من المهاجرين أو لتجاهلها التاريخ العربي في إسبانيا أو لمشاركتها في غزو العراق، انتصاره المتواتر لملامح الثقافة الإسلامية، سجّل الكاتب الإسباني موقفًا جديدًا يتسق مع مبادئه حول الحرية برفضه القاطع لجائزة القذافي في دورتها الأولى، وقال صراحةً إنه لا يمكن أن يقبل جائزة تحمل اسم ديكتاتور، وعبّر عن حبه للشعب الليبي.
وبعد نشوب ثورات الربيع العربي، زار غويتيسولو القاهرة في أبريل/ نيسان عام 2011، وكان من أكثر المنحازين للثورات العربية، وعبّر عن سعادته بقيام ثورة استطاع فيها الشعب خلع رئيس ديكتاتور، لكنه لم يشعر بكثير من الاطمئنان لانتقال السلطة للمجلس العسكري في مصر.
خلال هذه الزيارة، أصر غويتيسولو، وكان في الثمانين، وكانت الأوضاع في القاهرة شديدة الاضطراب، أن يتجول بميدان التحرير، متخيلًا كيف كانت الـ 18 يومًا التي استقر فيها الثوار في هذا الميدان. ولاضطراب الأوضاع، تعرض لمضايقات من البلطجية ورجال الأمن (أو البلطجية رجال الأمن) الذين فتحوا معه تحقيقًا في الميدان عمن هو وماذا يفعل في الميدان، فأخبرهم أنه سائح لينهي شكوكهم.
لم تكن زيارته للقاهرة، والتي التقيته فيها وأجريت معه حوارًا، مجرد فضول فقط، بل زيارة لأرض المعركة التي سيكتب عنها فيما بعد بحثًا طويلًا عن مآلات الربيع العربي، طرح فيه مخاوفه من أن يتحول “الربيع” إلى “خريف عربي”، وكان ذلك في مرحلة مبكرة من ميلاد الثورات.
لكن فضلًا عن انغماسه وتورطه في العالم العربي في الواقع المعيش، انغمس أيضًا في هذا العالم عبر رواياته التي تظهر فيها مقابر القاهرة، كما يتجلى فيها التصوف الإسلامي خاصة في روايته “الأربعينية” التي يستحضر فيها متصوفة عربًا وإسبانًا، في رحلة صوفية ملأى بالأسئلة والخيالات.
الشعر كخاتمة
توقف غويتيسولو في سنواته الأخيرة عن كتابة الرواية، وخصص جل وقته للقراءة وكتابة مقالات شهرية، وتحديدًا للشعر. وفي 2014 صدر ديوانه الوحيد “اضطرام، رماد ومحو للذاكرة”، ومن المتوقع العثور على دواوين أخرى غير منشورة.
والعام الماضي أودع غويتيسولو كتابًا لوكالته الأدبية بالسيلس مع وصية نشره بعد وفاته بعشرة أعوام. أما محتوى الكتاب فلا يعرفه أحد، ولم يقل عنه الكاتب العجوز إلا أنه مجرد ذكريات شخصية.
ضفة ثالثة
خوان غويتيسولو يغمض عينيه في مدينته الأحب مراكش/ ياسين عدنان
توفي الكاتب الإسباني الشهير خوان غويتيسولو، صبيحة الأحد بمحل إقامته في المدينة العتيقة بمراكش، عن عمر يناهز الـ86 عاما. وقد نعاه اتحاد كتاب المغرب الذي اعتبر أنه بوفاة خوان غويتيسولو، فقد العالم الثقافي والإبداعي والإنساني رمزا كبيرا من رموز الثقافة والفكر والإبداع والنضال وحقوق الإنسان في العالم، وصوتا من الأصوات الكونية المدافعة عن حوار وتلاقح الحضارات والثقافات. وقد أوصى الكاتب بدفنه في مراكش المدينة التي عاش بها منذ سبعينات القرن الماضي لكن أهله والسفارة الإسبانية يحاولون نقل جثمانه ليدفن في برشلونة، ما سيخلق نزاعا على مكان دفنه.
ها قد رحل خوان غويتيسولو، المراكشي، ابن جامع الفنا. في ديسمبر الماضي رأيتُه آخر مرة. تعمدنا المرور على “القنارية”، أخي طه، الصديق محمد آيت لعميم وأنا، بغرض عيادته والاطمئنان عليه والسؤال عن أحواله بعد الكسر الذي تعرّض له على مستوى الحوض إثر سقوطه بمقهاه الأثير: مقهى فرنسا المُطل على ساحة جامع الفنا، الساحة التي أدهشته وغيّرت فهمَه للأدب.
الابن الشرعي
لحسن الحظ التقيناه بالخارج. غادَرَ دارته القديمة بدرب “سيدي بو الفضايل” ليغيِّر الجو ويرى الناس ويُبادلهم تحايا الصباح. كان متعبا، لكنه مع ذلك جاملنا قليلا. مرت بنا مراكشية من نساء الدرب فبادرته “خوان، ماذا تفعل هنا؟ علينا أن نزوجك يا رجل؟ ماذا تنتظر لتتزوج؟” أشرقت عيناه. كان سعيدا بمشاغبة الجارة له، لكنه ابتسم بصعوبة مع ذلك. كان أيضًا يجيب على أسئلتنا باقتضاب، ثم يسرح في البعيد.
آخر مرة كتبت فيها عن خوان هي يوم حاز على جائزة سيرفانتس قبل سنتين. تسلم جائزته يومها من يد العاهل الإسباني الملك فيليبي السادس وحرمه ليتيسيا. ظل الترقب سيد الموقف قبل اليوم المشهود. العديدون تخوفوا من أن يُحرج خوان الملك ووزارة الثقافة برفض الجائزة الأدبية الأهم في العالم الناطق بالإسبانية.
لكن أخيرًا قرر قبولها. قبلها على مضض. صحيح أنه رفض ارتداء الزي الرسمي للفائزين وفضّل حضور الحفل بسترة بسيطة وربطة عنق قديمة، صحيح أيضا أنه ألقى خطابا ناريا من عشر دقائق انتقد فيه الغرب الذي يتجاهل مآسي الهجرة واللوبيات التي تسيطر على الاقتصاد العالمي، لكنه حضر الحفل لكي لا يخطئ موعده مع كاتبه المفضل ميغيل دي سيرفانتس صاحب “دون كيخوته”. فجائزة تحمل اسم سيرفانتس لا يمكن أن يرفضها خوان الذي يعتبر نفسه “ابنًا شرعيًا” لأديب إسبانيا الأول.
علاقة خوان بالجوائز كانت دائما تثير انتباه النقاد والصحافة الثقافية الإسبانية. حين منحته وزارة الثقافة قبل سنوات الجائزة الوطنية الإسبانية في الأدب وقيمتها 40 ألف يورو بدا غير مكترث بهذا الاستحقاق الأدبي الرفيع بل وتعامل معه ببرود حيث صرّح حينها بأن هذا الفوز كان سيسعده لو تمَّ قبل ثلاثين سنة. وحين مُنح جائزة القذافي العالمية للآداب رفضها بصرامة.
الإسباني ابن مراكش
ولد خوان غويتيسولو في برشلونة سنة 1931. زلزلت الحرب الأهلية الإسبانية حياته وطبعت طفولته بجراح لا تلتئم كان أكثرها تأثيرًا على نفسيته تفجير القنابل لجسد أمه إثر قصف جوي لطيران الجنرال فرانكو لوسط برشلونة سنة 1937. صار الكاتب الشاب بعدها معارضا شرسا لفرانكو ونظامه، ثم بدأ ينتقد بشدة كل الأساطير المؤسسة للقومية الإسبانية، وكان ينتقد على الخصوص الإصرار الغريب للتاريخ الإسباني الرسمي على إنكار الدور المحوري للعرب والمسلمين في صياغة الشخصية الحضارية لإسبانيا في القرون الوسطى. بل ظل يعتبر طرد الموريسكيين من شبه الجزيرة الإيبيرية “فصلا أسود” في تاريخ إسبانيا.
أحس خوان الشاب بالاختناق داخل بلده إسبانيا. لهذا قرر الهجرة إلى باريس التي استقر فيها منذ سنة 1956، وبدأ يتحول بالتدريج إلى نجم من نجوم المشهد الثقافي الباريسي. لكن لقاءه بجان جينيه كان نقطة تحول في مساره، حيث انتبه بتعرُّفه على جينيه إلى نموذج الكاتب الذي يحلم بأن يصيره. كما اكتشف أن الأضواء الباريسية بدأت تبعده عن طموحه العميق في كتابة أدب حقيقي ينشغل بقلق الإبداع وليس بهواجس الشهرة والذيوع، أدب قوي يطرح القضايا الكبرى ويفضح النفاق الغربي وينخرط في مجرى إنساني عميق يسخر فيه من النزعة الأوروبية الساذجة.
لهذا بالضبط احتاج خوان إلى مسافة معقولة ليُنجز مشروعه الأدبي والثقافي الكبير. جاء إلى طنجة أولًا سنة 1965. لكن سنة 1976 سيزور مراكش التي اختارها منذ ذلك الحين مقامًا له. صارت مراكش مدينته. وصار خوان يشتغل يوميا بالقراءة والتأليف قبل أن يخرج كل مساء إلى ساحة جامع الفنا ليأخذ قهوته مع أصدقائه الذين ليسوا سوى حكواتيي الساحة الشهيرة وبعض من صُنّاع فُرجتها من رواد موسيقى “كَناوة” الشعبية.
كان مقهى “ماطيش”مقهاه الأثير قبل أن يغلق المقهى ويتحول إلى بازار وتيليبوتيك. تأثر خوان كثيرا حينها، تحول إلى مقهى ساتيام، ثم إلى كافي فرانس بعد ذلك. لكنه مات اليوم وفي نفسه شيء من “ماطيش”. في مقاهي جامع الفنا، تعلم خوان اللهجة المغربية، ومن مجالسه الشعبية في مقاهي ساحة جامع الفنا أعلن نفسه مدافعا عن الثقافة الشعبية المغربية وقاد معركته الأشهر من أجل إقناع اليونسكو بتصنيف ساحة جامع الفنا تراثا شفويا للإنسانية، ونجح في مسعاه حينما تم اعتماد طلبه رسميا من طرف اليونسكو سنة 2002. حصل خوان على عضوية اتحاد كتاب المغرب، وصار يقدم نفسه للعالم ككاتب مراكشي، ويردد في حواراته الصحافية أنه “ابن جامع الفنا”. لهذا لم يكن عبثا أن يردد أمام ملك إسبانيا وهو يتسلم جائزة سيرفانتس أنه يتشرف بإهدائها إلى سكان مدينة مراكش الذين احتضنوه بكل مودة ورحبوا بشيخوخته المتعبة.
لكن إقامة خوان الهادئة والسعيدة في مراكش لم تمنعه من خوض أكثر من معركة وعلى أكثر من جبهة. روايته “دون خوان” أثارت جدلا كبيرا في إسبانيا حيث فضح فيها خرافات وأساطير وحماقات التطرف العرقي الإسباني الذي لا يريد الاعتراف بأهمية الدور العربي الإسلامي في بناء الشخصية الإسبانية. وفي كتابه “وقائع إسلامية” عاد ليدافع عن محورية الدور العربي الإسلامي في تاريخ إسبانيا منتقدا بشدة القيم الرسمية الكاثوليكية التي قامت عليها إسبانيا في عهد فرانكو وظلت ترهن الوجدان الإسباني حتى اليوم.
فضح الأنا الأوروبية
في سيرته الذاتية “ملوك الطوائف” تحدث عن لقائه بالثقافة العربية الإسلامية ودور هذه الثقافة في بلورة تجربته الأدبية. أما روايته “الأربعينية” -أو “برزخ”- فجاءت عملا عجيبا من أربعين فصلا جعلت النقاد الإسبان يلقبونه على إثرها بدانتي الجديد. ومن خلال هذه الرواية التي شكلت ساحة جامع الفنا نواتها المركزية كشف خوان عن مدى تعمقه في معرفة التصوف الإسلامي.
كما تعتبر روايته “فضائل الطائر المتوحد” من أصعب رواياته، لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى ابن عربي وابن الفارض. أما “أسابيع الحديقة” فهي رواية مركبة من حكايات متتالية هي من صميم حياة خوان المراكشية، مع العلم أن غويتيسولو كتبها إجلالا للأدب الشطاري الإسباني لكن انطلاقا من بيئة شعبية عربية.
كان خوان غويتيسولو لا يزال مقيما في باريس حين تعرف على القضية الجزائرية، وبدأ يعلن مواقفه المُدينة للاستعمار الفرنسي. بل بلغت به الجرأة أن كان يُخفي المجاهدين الجزائريين في شقته الباريسية. كذلك منذ 1968 تعرف على بعض مناضلي “فتح” ووضع قلمه في خدمة قضية فلسطين. وسنة 1988 سيسافر إلى فلسطين حيث كتب عن ثورة الحجارة بصفته “رجلا معنيا مباشرة بالنضال الذي يخوضه شعبٌ للدفاع عن أرضه وذاكرته في مواجهة فظاظة الاقتلاع ومناخ الأساطير الخادع”. سافر خوان أيضا إلى سراييفو أيام الإبادة العرقية التي مارسها الصرب على أهلها. كتب كذلك يدين الحرب الشيشانية الظالمة. وكان في كل مرة يُحرج الغرب بكتاباته ويفضح الأنا الأوروبية المنغلقة على أكاذيبها.
حينما انتهيت رفقة الصديق سعد سرحان من كتاب “مراكش: أسرار معلنة” اقترحنا على خوان أن يقدمه. ثم اختفينا عن بعضنا البعض. نعرف مشاغل الرجل، لذا تصورنا أنه نسي الموضوع تمامًا، وفضلنا عدم إزعاجه، قبل أن يفاجئنا هو بالاتصال. وحين قرأنا تقديمه للكتاب، أخجلنا فعلا كرمه. لم يُخف الرجل سعادته بكتابٍ رأى أن مدينته الحمراء تستحقه. فكان حريصا على شكرنا بحرارة، وعلى تهنئتنا بمحبة، وكأنه ابن الحمراء ونحن غريبان عابران تلطفا بإطراء مدينته.
بعد فوز خوان بجائزة سيرفانتس التقيتُ به في مقهى فرنسا في الخامس من مايو 2015 يشرب شايه في هدوء ويرقب الساحة. هنأته بالفوز. لكنه لم يكن مهتما جدا لذلك. كان أول سؤال بادرني به “هل قرأت خطابي أمام الملك؟”. قلت له طبعًا قرأته. “بأي لغة؟” سألني. “بالفرنسية والعربية”، أجبته. ثم بدأ يسألني عن الترجمة العربية “هل كانت موفقة؟”. هكذا هو خوان غويتيسولو. التفاصيل هي ما يهمه. وربما حرصه على أن يصل خطابه إلى العالم العربي عموما ثم إلى أصدقائه المراكشيين بشكل خاص. أما الأمور الأخرى فلا يكاد يهتم بها. المجد الأدبي لا يعنيه. يعنيه الموقف. وتعنيه الكلمة. ويهمه كثيراً أن يصل صدى كلمته إلى من يحب.
هذا الصباح، رحل عنا خوان غويتيسولو. وأذكر أن الرجل يوم كان مسافرا إلى الشيشان للتضامن مع أبناء ذلك البلد أيام الحرب، كان خائفا من أن يصيبه مكروه، فأوصى أصدقاءه هنا بدفنه في مقابر المسلمين بمراكش في حالة عودته من أرض المعركة جثة هامدة. أعرف أن الوصية لم تكن شفوية فقط. بل كانت وصية مكتوبة. لذا يجب العثور على هذه الوصية ونشرها، خصوصا وأن السفارة الإسبانية دخلت على الخط، وما يروج اليوم في بيت الفقيد هو أن النعش سيُحلِّق باتجاه برشلونة ليُدفَن الراحل هناك. رحم الله خوان غويتيسولو: كاتب مراكش الأول وأديبها الأشهر. نتمنى فقط أن نضمن للرجل قبرًا في مدينته التي اختارها لنفسه سكنًا ومُقاما، وفي مدينتها العتيقة لفظ أنفاسه الأخيرة.
العرب
رفض جائزة القذافي وأكد على أهمية البعد الكوني للمثقف: رحيل الكاتب الاسباني خوان غويتيسولو: صديق القضية الفلسطينية وعاشق مراكش/ محمّد محمد خَطّابي والطاهر الطويل
غيب الموت الكاتب الإسباني الشهير خوان غويتيسولو Juan Goytisolo، في ساعة مبكرة من صباح أمس الأحد، في منزله في مدينة مراكش، عن سن 86 عاما، مخلفا وراءه رصيدا كبيرا من الروايات والدراسات.
يعتبر خوان غويتيسولو من أبرز الكتاب الذين ترّبعوا على عرش الرواية المكتوبة باللغة الإسبانية في أواخر القرن المنصرم، كان كاتباً فذاً، ومُحاوراً شجاعاً، وباحثاً كبيراً، ومن أكبر المُعجبين بالثقافة العربية والإسلامية، والعالم العربي، وكان له أخَوَان يشتغلان بالأدب كذلك، وهما الشاعر خوسيه أغوستين غويتيسولو (1928-1999)، والكاتب الأكاديمي لويس غويتيسولو المولود في مدينة برشلونة كذلك عام 1935.
درس خوان غويتيسولو الحقوق في جامعة برشلونة ثم سرعان ما اختطفه الأدب، هاجر إلى باريس وعاش فيها بين 1956 و1969، ثم عاش ردحاً من الزمن في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين 1969 و1975 حيث عمل أستاذاً للأدب الإسباني في جامعات كاليفورنيا، وبوسطن ونيويورك.
تتعدد أعماله وإبداعاته ما بين الرواية والقصّة والدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية، وبرع في أدب الرحلات والمذكرات، ومثل صديقه غابرييل غارسيا ماركيز عمل غويتيسولو في الصحافة كذلك، وكان مراسلاً لجريدة «الباييس»(من أوسع الجرائد إنتشاراً في إسبانيا اليوم) في كل من الشيشان والبوسنة.
حصل على العديد من الجوائز الأدبية الكبرى في إسبانيا وخارجها، منها جائزة سيرفانتيس الإسبانية، والجائزة الوطنية الإسبانية للآداب، وجائزة بلانيتا الإسبانية المرموقة، وجائزة خوان رولفو في الأدب الأمريكي اللاتيني، وجائزة الفنون والآداب من مؤسسة الثقافات الثلاث، فضلاً عن حصوله على جائزة أوكتافيو باث، وجائزة «فورمينتور»الدّولية الأدبية لعام 2012، وعلى أكبر جائزة أدبية في أوروبا، وهي «أورباليا» التي تُمنح في بروكسل، التي تُعتبر بمثابة نوبل في الآداب الأوروبية، وهو حاصل كذلك على الجائزة الدولية «دون كيخوته دي لا مانشا»، وجائزة محمود درويش من الجامعة الفلسطينية بيرزيت، في رام الله وسواها من الجوائز الأخرى. ومنذعام 2007 أصبحت المكتبة التابعة لمعهد سيرفانتيس في مدينة طنجة (شمال المغرب) تحمل اسمه تكريماً له ولإبداعاته المتميّزة.
اشق الثقافة العربية
ويجدر بنا التذكير في هذا المقام بهذه المناسبة أنّ الأديب خوان غويتيسولو كان يكنّ محبّةً كبرى، وتقديراً عظيماً للثقافة العربية على وجه العموم، ويشعر بإعجاب كبير نحوها في مختلف مجالات الفكر والخلق والإبداع، حيثما نما وسما وترعرع، سواء في المشرق العربي أو في المغرب، ففي معرض إعجابه بالحضارة الأندلسية (إسلامية كانت أم مسيحية أم يهودية) وعلى وجه الخصوص بالثقافة العربية، حيث نجده يقول بالحرف الواحد: «إنّ استيعابي وتمثلي للفضول الأوروبّي الشّره جعلني أتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مواطن إسباني من نوع آخر، عاشق لأنماط الحياة والثقافات، واللغات من مختلف المناطق الجغرافية. لا ينحصر عشقي وإعجابي وَوَلَهيِ بكيبيدو، أو غونغورا، أو ستيرن، أو فولتير، أو مالارميه، أو جويس، بل يتعدّاه كذلك إلى ابن عربي، وأبي نواس، وابن حزم، وإلى التركي جلال الدّين الرومي مولانا. إنّ هناك عوامل إيجابية، وطاقات إبداعية هائلة مختلفة من كل نوع لهؤلاء وأولئك على حدّ سواء، فعندما يكلّف المرءُ نفسه عناء تعلّم لغة صعبة جداً مثل اللغة العربية، وقد بلغ من السنّ عتيّا، فإنه ينبغي أن تكون هناك دواعٍ عميقة جدّاً لذلك (الكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس، قرّر تعلّم اللغة العربية كذلك عندما ناهز سنّه الثمانين) والحقيقة أنّ الدواعي موجودة. فأنا أعتقد أنه يستحيل فهم الثقافة الإسبانية وهضمها بشكل شامل ودقيق دون استيعاب التراث الإسلامي، ومعرفة الثقافة العربية، وكلّما دخلتُ في هذه الثقافة، تأكّد لي بشكل جليّ قيمةَ وأهميةَ ما ورثناه عنها في شبه الجزيرة الإيبيرية. ويردف الكاتبُ قائلاً في السّياق نفسه: «هناك من ناحية أخرى جانب المودّة في العلاقات الإنسانية، التي انعدمت في المجتمع الأوروبي، الذي أعيش فيه وأنتمي إليه، ففي مدينة مراكش، على سبيل المثال، يمكنني أن أكتب وأن أقرأ، كما يمكنني في الوقت ذاته الخروج للنّزهة والتحدّث إلى الناس البسطاء، وليس مثل ما هو عليه الأمر في باريس ونيويورك اللتين انعدمت فيهما العلاقات الإنسانية وتلاشت» . لقد قرأ خوان غويتيسولو ـ على حدّ تعبيره: «نصوصاً دينية إسلامية كثيرة وهي نصوص تهمّه جدّاً، إنّه يقرأها مثلما يقرأ أعمالاً لماغلان، أو ابن عربي المُرسي، أو إبن حزم، أو سان خوان دي لاكروث، بمعنى أنّها تبدو له وسيلة تعبير أدبيٍّ راقٍ جديرٍ بالإعجاب والتقدير».
ساحة جامع الفنا تراث إنساني عالمي
كان غويتيسولو يثير ردود فعل متباينة في الأوساط الأدبية والثقافية الإسبانية، بكتبه أو مقالاته أو تصريحاته، التي لا تخلو من نقد لاذع للمجتمع الإسباني، وللمثقفين الإسبان بشكل عام، ورميهم بروح الانغلاق وعدم تفتّحهم على ما يدور حولهم من تظاهرات وتحركات ثقافية، خاصة لدى جيرانهم العرب. كان يثير هذا الموضوع في مختلف محاضراته، أو تصريحاته أو كتاباته في كلّ محفل ومنبر، نظراً لما كان يربطه بالعالم العربي من أواصر المودّة والإعجاب، حيث احتلّت مدينة مراكش بالذّات حيّزاً مهمّاً في أدبه، وإبداعاته الرّوائية، وبالخصوص روايته المعروفة «مقبرة» أو في سيرته الذاتية «منطقة مسيّجة محظورة» أو في سواهما من المقالات والدراسات حول الثقافة الإسلامية والمسيحية، أو الحضارة العربية على وجه العموم، مثل كتابه «إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فكّ العقد»، وحول الدّور الكبير الذي اضطلع به المسلمون خلال وجودهم في الأندلس، وإيمانه القويّ في مقدراتهم الإبداعية، وعطاءاتهم الثرّة في مجالات العلوم على اختلافها، وفي حقول الآداب، والشعر، والفكر، والفلسفة، والموسيقى، والمعمار، وحول التقارب الذي ينشده بين العرب وإسبانيا بحكم العوامل التاريخية والحضارية والجغرافية، ودعوته المتواصلة إلى إسدال ستائر الحقد والضغينة، وإزاحة حُجُب التجاهل والتنافر والتنابذ، والتعرّف عن قرب على ما يجري في البلدان العربية من غليان فكري، ونهضة ثقافية، وتطوّر حضاري في مختلف الميادين.
إنّ المتتبّع للصّحافة الإسبانية في الآونة الأخيرة، يلاحظ مدى ما أثاره هذا الكاتب من موضوعات فكرية وثقافية لا تخلو من شجاعة أدبية، وإنصاف محقّ للثقافة العربية والشهادة لها بمواكبة التيارات الفكرية المعاصرة، واتهام بني طينته الإسبان بالقصور في هذا المجال. إنه يعتبر في هذا السّياق حصوة في عيون المتزمّتين، والمُنغلقين من الإسبان وغير الإسبان، الذين ينكرون على هذه الثقافة إشعاعَها، وتألقَها، وتفوّقَها، والأوج الذي أدركته على امتداد تاريخها الطويل في مختلف الأصقاع في مشارق الأرض ومغاربها. كما أنّ غويتيسولو على غرار صديقه الكاتب الألماني الرّاحل غونتر غراس، معروف بمناصرته ودفاعه كذلك عن القضية الفلسطينية على وجه الخصوص. ومعروف أنه لخوان غويتيسولو يؤول الفضل، من جانبٍ آخر، في أن تصبح «ساحة جامع الفنا» الشهيرة في مدينة مرّاكش، تراثاً إنسانياً عالميّاً شفويّاً لا مادياً من طرف منظمة اليونسكو العالمية منذ 18 مايو/ أيار من عام 2001 .حيث تقرّر ذلك على عهد بلديّه ومواطنه وصديقه فيديريكو مايور ثاراغوسا المدير العام لهذه المنظمة الدّولية في ذلك الإبّان.
إسبانيا وحضارة الأندلس
دافع الكاتب خوان غويتيسولو دائماً قيد حياته عن مغزى التداخل والتكامل الثقافيين، عكس ما يحدث في إسبانيا في الوقت الرّاهن من ميولات إقليمية وانفصالية منكمشة ومنغلقة على نفسها، إلاّ أنّ غاية تدخّلاته وتصريحاته في هذا القبيل لم تكن مفهومة بما فيه الكفاية من قبل. إنّه يشير في هذا الصدد» إلى أنّ الدفاع عن التعدّد الثقافي والتنوّع الفكري أو تعدّد قنوات الثقافات القائمة في محيط بلد مّا شيء، وإقامة حواجز بين هذه الثقافات وتصنيفيها في حيازة فرضيات ذات مضامين معّينة وطنية أو محليّة شيء آخر مخالف للسّابق. إنّ ثقافة من هذا القبيل منكمشة على نفسها هي ثقافة مُنكِرة لوجود سواها من الثقافات وإشعاعاتها، فالتزوير المتعمّد للماضي التاريخي، وتشذيب أو حذف أو التغاضي عن كلّ ما هو أجنبي من الثقافات، من شأنه أن يفقر أو يفسد الحقيقة في حدّ ذاتها. كما أنّ ذلك يشكّل حاجزاً يقف حجرعثرة في سبيل التداخل المتناغم للثقافات. إنّ المثال الأعلى للفكر التعدّدي هو أن يكون فكراً متقبّلاً ومفتوحاً خلاّقا. وانطلاقاً من هذا المفهوم، فإنّنا نورّط أنفسنا ونجعلها تغيّر موقعها الحقيقي من تاريخ إسبانيا. إنّ النيّة المبّيتة التي تجرّد جميع تلك المُعطيات من عناصرها الصالحة بشكل تعسّفي لهويّة وطنية مّا، لهي نيّة تتّسم بنظرة ضيّقة، هامشية، متزمّتة ومنغلقة، ذلك أنّ تاريخ أيّ شعب إنّما هو خلاصةُ التمازج الحضاري والتأثيرات الخارجية التي استقبلها وهضمها، وإسبانيا خير مثال للبلدان التي استفادت بشكل إيجابي مباشر، وكبير من الحضارة العربية التي تألقت وازدهرت وبلغت أوجها فوق ترابها زهاء ثمانية قرون ونيّف، بالعطاءات الثرّة والخلق والإبداع في مختلف مجالات الحياة التي ما زالت تطبع الحياة الإسبانية، وتميّزها عن سواها حتى اليوم .
أعماله وإبداعاته
بدأ غويتيسولو يكتب القصص والرّوايات منذ سنّ 23 سنة (عام 1954) وتحمل أولى رواياته عنوان «لعبة الأيدي» التي وضعته في ذلك الإبّان في مصافّ كتّاب الواقعية السّحرية غداة الحرب، استقر في باريس منذ عام 1956، وبعد أن انتقل بين كوبا ومدينة ألميرية الإسبانية، بدأ في كتابة نوع جديد من الإبداع الرّوائي، الذي سوف يتميّز به منذ ظهور روايته الشّهيرة «علامات هويّة» عام 1966، التي يقدّم فيها نظرةَ تقزّزٍ عن إسبانيا على عهد الجنرال فرانكو على لسان «ألفارو ميننديولا» الذي كان في الواقع يعبّر، وينطق باسم الأنا الآخر للكاتب نفسه.
ومنذ أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم انتقل خوان غويتيسولو لإقامته الدائمة التي حدّدها بين مدينتي باريس ومرّاكش، حيث استقر بصفة دائمة في هذه المدينة المغربية التي أهداها روايته الكبرى «مقبرة» (1980)، ومن أعماله الأخرى: «الإشارات»، و«صراع في الجنّة»، و«السّيرك» و«الجزيرة» و«نهاية الحفل» و«عناوين هويّة»و«دون خوليان»و« خوان بلا أرض» و«فضــــــــائل الطائر المنعزل» و«أسابيع الحديقة» و«ستارة الفم» و«في ممـــــالك الطوائف»(مذكّرات) وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى في مثل ملحمة «بعد المعركة»، وملحمة «ماركس»، و«موقع المواقع»، حيث تمتزج في هذه الأعمال جميعها هواجسُ الحياة، وتداخل الأزمنة، وتوارد، وتواتر الأصوات، والتصوّف، والأبيات الشعرية العائدة لأرثيبيستي دي هيتا، وإشكاليات الهجرة، وتطوّر اليسار بعد سقوط جدار برلين، وحرب البلقان، والعالم العربي بمسلميه ومسيحيّيه. تضاف إلى ذلك أعمال شكلت سيرته الذاتية أو مذكراته مثل «منطقة محظورة»، ومن أشهر كتبه في العالم العربي هو كتابه المُترجم للغة العربية «إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فكّ العقد» حيث يُدافع فيه عن الثقافة العربية، ودورها في التقريب بين الشعوب وسواها من الأعمال الإبداعية الاخرى.
طرائفه مع جائزة سيرفانتيس في الآداب
قبل أن يستلم الكاتب الإسباني الذائع الصّيت خوان غويتيسولو في عام 2015 جائزةَ «سيرفانتيس» في الآداب الإسبانيّة التي تعتبر بمثابة نوبل في العالم الناطق بهذه اللغة، وخلال لقائه مع ثلّة من الصّحافيين والنقّاد الإسبان، كان قد صرّح بأنه أثناء حضوره مراسيم حفل تسليمه لهذه الجائزة في جامعة « ألْكَلاَ دِي إِنَارِيسْ» ( قلعة النّهر) بالقرب من العاصمة الإسبانية مدريد قائـــــــلاً: «لن أرتدي سترة السّهرة السّوداء، أو بدلة «شاكيّ» أيّ المِعطـــف التقليــــدي الذي عادةً ما يرتديه المكرّمون في مثل هذه الحفلات الرّسمية كما طلب منّي القائمون على هذه التظاهرة الأدبية الكبرى، بل إنني سأرتدي خلال فعاليات هذه الحفل الأدبي بشكل عادي»، وكان غويتيسولو قد برّر ذلك قائلاً كذلك: «إنّه من السّخف أن يُطلبَ من رجلٍ عجوز في الخامسة والثمانين من عمره أن يرتدي أرديةً تنكّريّة، وإذا كان لابدّ لي أن أفعل ذلك، فإنّني أوثر، وأفضّل أن أرتدي جلباباً مغربيّاً»، وبالفعل فقد ارتدى خلال حفل مراسيم تسلّمه لهذه الجائزة لباساً عادياً بسيطاً، متواضعاً، مُوليّاً ظهرَه للتقاليد المُتحجّرة المتَّبعة والمُجترّة في مثل هذه المناسبات، وكان بذلك في نظر قرّائه والمُعجبين به بعيداً عن التصنّع، والتنكّر والبهرجة.
ويسجل لغويتيسولو أنه الكاتب الوحيد الذي رفض في أيلول/ سبتمبر 2009 الجائزة الأدبية التي كان يموّلها العقيد الليبي معمر القذافي، وقيمتها 150000 يورو.
اتحاد كتاب المغرب ينعي
وجاء في بلاغ نعي أصدره اتحاد كتاب المغرب أمس أنه بوفاة خوان غويتيسولو يكون العالم الثقافي والإبداعي والإنساني، قد فقد رمزا كبيرا من رموز الثقافة والفكر والإبداع والنضال وحقوق الإنسان في العالم، وصوتا من الأصوات الكونية المدافعة عن حوار وتلاقح الحضارات والثقافات بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط، وبين الضفتين الإيبيرية والأمريكية. وأضاف البلاغ: لقد ظل كاتبنا الراحل، رحمه الله، وفيا للمبادئ وللقيم التي آمن بها، بمثل ما ظل مدافعا عنها إلى أن وافته المنية، رافضا كل أشكال الإغراء أو الاستيلاب وعلى مستويات رسمية كبرى، محافظا بذلك على استقلاله الفكري والثقافي، ومساهما بقوة في تجديد الإبداع الإسباني واللغة الإسبانية.
خوان غويتيسولو والتركة الثقيلة للاستشراق الإسباني/ يحيى بن الوليد
يسجّل المؤرخ الفرنسي المعاصر، والمختص في شؤون المغرب المعاصر، بيير فيرمورين (P.Vermeren)، في كتابه “مغرب المرحلة الانتقالية” (Le Maroc en Transition)، أن المغرب رغم وجوده في وضعية مفترق جغرافي وجسر تاريخي للمبادلات التاريخية مع بلدان المغرب العربي وأفريقيا وأوروبا… فهو اليوم، فيزيائيا، مفصول تقريبا عن بقية العالم. غير أن المسألة، من منظورنا، ليست مسألة انفصال أو انقطاع بالمطلق عن بلدان الجوار والعالم ككل، وإنما هي مسألة “تميّز” للمغرب رغم ما طاول محيطه المباشر من تغيّرات وتبدّلات تحت تأثير الآليات التفكيكية للعولمة وعلى نحو ما يظهر في التحوّل الهوياتي والتآكل الجغرافي واختلاط الأنماط الثقافية.
ويبقى تميّز المغرب، من حيث هو دافع ومجلى للكتابة، ومن خارج أية نظرة هيراركلية أو تراتبية لثقافات الشعوب، ناجما عن أكثر من عامل. ولعل أهم هذه العوامل هو عامل المدينة أو معطى المدينة التقليدية. ولعل هذا ما يبرّر استقرار منظمة اليونسكو (العالمية) على إدراج مدن مغربية ضمن التراث العالمي للإنسانية، وهذه المدن (ووفق تواريخ التسمية في المنظمة) هي: فاس (1981) ومراكش (1985) وتطوان (1997) والصويرة (2001) والمدينة التاريخية لمكناس (1996) والمدينة البرتغالية للجديدة (2004).
ومن منظور “عقيدة الاستشراق”، وفي حال الشرق ككل، ثمة مدن “توجد على نحو مزدوج في الواقع وفي الأسطورة” كما يقال في أدبيات الاستشراق. ولعل هذا ما يفسّر توجّه كتّاب أجانب إلى المغرب من أجل “شرف الإقامة” بمدنه “التقليدية” (Impériales) التي تُطبّق عليها المقولة الاستشراقية الأخيرة. ومدن من هذا النوع توفّر لهؤلاء الكتّاب مواصلة حياتهم في حرية مطلقة تقريباً، “أنت في مكان يمنحك كلّ شيء أكثر ممّا لو كنت في بلدك الأصلي. أنت تقريبا مواطن فوق العادة. فوق القانون، تقريبا” كما قال وليم بوروز (W. Burroughs) أثناء الحديث عن مدينة طنجة. غير أن ممارسة هذا النوع من الحرية، سواء في حال الكاتب الأميركي الأخير أو غيره من الكتّاب الأجانب من الذين أقاموا لفترات أو ما تبقى من عمرهم بمدن المغرب، لا تفيد أيّ نوع من التفريط في “معايير” الغرب وثقافته. وحياة هؤلاء، في الأغلب الأعم، وهو ما لا نوليه أهمية تذكر أثناء الكتابة عنهم، لا تقلّ أهمية عن أعمالهم الأدبية وكتاباتهم المفتوحة. ومردّ هذا “الامتلاء”، على صعيد المعيش، إلى ما توفّره لهم بعض المدن المغربية من أمكنة عادة ما يحرصون على إعادة هندستها من منظور ثقافتهم الأوروبية.
ومناسبة هذا الكلام هي الكاتب العالمي خوان غويتيسولو (Juan Goytisolo) الذي فارق الحياة يوم الأحد الرابع من شهر يونيو/ حزيران (الجاري)، بعد أن أمضى ما يزيد عن ثلاثين سنة في واحدة من أعرق مدن المغرب التقليدية وهي مراكش التي جاءها من باريس (المنفى) وليس برشلونة (موطن ولادته). وذلك كله في المدار الذي أفضى به، بعد هذه المدة الزمنية غير القصيرة، وبعد إقامة قصيرة في البداية بطنجة، إلى التأثّر بثقافة مراكش وأفكار المغرب التقليدي ككل. وكما أن تمكّنه من اللغة العربية الدارجة والتراث الشفوي المغربي أسهم في توسيع دوائر التأثّر والتشرّب. ومن هذه الناحية كان له ما أراده كما يقال، بخاصة من ناحية “جامع الفنا” أو على وجه التحديد ساحة جامع الفنا التي قطن بحيّ يقرب منها. الساحة التي تختزل مدينة مراكش بأكملها، ومراكش باعتبارها تراثا وتاريخا… وحاضرا.
لقد تمكّن صاحب “رحلات إلى الشرق”، عبر قراءة مقرّبة ونبيهة، وعبر تصوّر نظري للتراث الشفوي كذلك، من التعرّف إلى أبطال الساحة من قوّالين وحكواتيين وموسيقيين (إثنيين) ومتسوّلين وبهلوانيين وسحرة ومشعوذين ودجّالين وفلكيين (وهميين) وملاكمين وواشمات حناء و”شوّافات” ومهندسي حظ ومروضي ثعابين وقردة وعقارب… إلخ. فالساحة مجال لـ”التعريف والتصريف” بالنسبة للثقافة الشعبية وفضاء نادر للفرجة والبهجة. وهي تمكّن “من الغطس ثانية في عالم كان قد اختفى بالنسبة إلينا نحن الإسبانيين منذ مئات السنين” كما قال غويتيسيلو. إضافة أيضا إلى ما وفرته لخوان غويتيسولو نفسه من فضاء سمْحٍ وصوفي للغطس في طقس من نوع آخر هو طقس القراءة.
لقد أسهم الكاتب، وهو البارع في كتابة المقال في كبريات الجرائد العالمية، وفي الكتابة النقدية والفكرية النابهة، في لفت الانتباه إلى جامع الفنا والمدينة في الوقت نفسه لكن من خارج أي كليشيه استشراقي كما ينبغي التنصيص على ذلك ابتداءً. وكما أن تأثيره امتد خارج مراكش ولا أدلّ على ذلك من كتيب صغير له تحت عنوان “أضرحة وزوايا وطوائف ــ طقوس زيارة الأولياء في الإسلام المغربي” (ترجمة وتقديم: إبراهيم الخطيب) تمّ توزيعه بين وثائق على ما يزيد عن مائتي كاتب مغربي في المؤتمر الأخير لاتحاد كتّاب المغرب (المؤتمر 18 ــ 2012). ولم يكن ذلك موضع اعتراض ولا حتى نقاش أو غمز أو لمز… وذلك كله في دلالة على الكاتب الأجنبي غير الغريب عن المغاربة وفي دلالة على خوان غويتيسولو المغربي بالانتساب وليس الولادة. وأما المراكشيّون، من الكتّاب والشعراء والفنانين والمعجبين والأصدقاء، فيعدّونه “ابن جامع الفنا” و”بكل افتخار” كما يضيف الفنان التشكيلي والفوتوغرافي المراكشي أحمد بن سماعيل. وغويتيسولو بدوره كان يثني على أهل مراكش من الذين يعيش بينهم، وأشار إلى ذلك في أكثر من مناسبة لعلّ أبرزها في الكلمة (المغايرة) التي ألقاها بمناسبة حصوله على جائزة “سيرفانتس” الأدبية (2014) على مسامع الكتّاب والأكاديميين وبحضور الملك فليبي والملكة ليتسيا.
ذلك هو خوان غويتيسولو أو “إدوارد سعيد الإسباني” كما ينعته بعض المثقفين العرب. وإحالاته على إدوارد سعيد وهشام جعيط وعبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي… لافتة ومتكرّرة في كتاباته. ولقد تمكـَّن القارئ العربي من الاطلاع على عدّد مهم من مقالاته النقدية للاستشراق الإسباني والأوروبي في كتابه الذي ترجمه كاظم جهاد إلى العربية تحت عنوان “في الاستشراق الإسباني” (1997).
ومواقف الرجل لصالح الفلسطينيين والمسلمين والمهاجرين، وأفكاره حول الإسبانيين المسيحيين الذين طردوا الإسبانيين المسلمين والإسبانيين اليهود من إسبانيا إلى المغرب، وأفكاره الأخرى حول الرشدية الإسبانية الشعبية اللاتينية وحول ما تدين به الثقافة الإسبانية للعرب واليهود. وانتقاده تراث النزعة الوطنية الكاثوليكية في المرحلة الفرانكاوية الفظيعة وعدم اكتراث الإسبانيين بالعالم العربي وعدم معرفتهم بالعرب وجهلهم للتاريخ والشرق، وكذلك قفز الاستعراب الإسباني على المغرب الجار لإسبانيا. ذلك كلّه، وغيره من الأفكار والمواقف، خلّف له متاعب أو تصنيفاً ضمن غير المرغوب فيهم في بلاده. ومن ثم محاربته علناً وتشويه صورته (الإسبانية) وقطع الطريق عليه من أجل الوصول إلى الجوائز العالمية… إلخ.
وحتى إن كان الاستشراق قد نشأ نتيجة التقارب الخاص بين فرنسا وبريطانيا من ناحية، وبين الشرق من ناحية أخرى، وعلى نحو ما يدلّنا على ذلك إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، فإن ذلك لا يحول دون حرمان إسبانيا ــ التي بلغت بدورها حد “الظاهرة الاستعمارية” ــ من نصيبها في “مشروع الاستشراق”، وخاصة من ناحية السرد أو الرواية في سياق ما يصطلح عليه بـ”الأدب العام” وخاصة تجاه المغاربة. لا يمكن فهم الاستعمار الإسباني، والذي شغل المنطقة الشمالية للمغرب، بمعزل عن الأدب والثقافة ككل. وإذا ما استحضرنا ضعف “الأداء الأنثروبولوجي” بإسبانيا فقد كان هذا الأدب وراء تكريس صور منمّطة عن المغرب والمغاربة. وهذه الصور لا تخلو من دلالات تنقيصية وتحقيرية وعنصرية. وقد برع الناقد محمد أنقار في تشريح هذا الخطاب الأدبي الاستشراقي في كتابه “”بناء الصورة في الرواية الاستعمارية ــ صورة المغرب في الرواية الإسبانية” (1994).
والظاهر أن خوان غويتيسولو، والذي يصنّف نفسه ضمن “المثقفين والكتّاب وأصحاب النزعة الإنسانية”، على اطلاع واسع على “مشروع الاستشراق” وعلى دور “الخطاب” في تشكيل المشروع. ولم يكن غريبا أن يتصدّى للتركة الثقيلة للاستشراق الذي يستجيب، ومن حيث هو مشكلة قديمة/ جديدة، للثقافة (الغربية) التي أنتجته.
ولعل هذه الثقافة ما جعلت الكاتب إلياس كانيتي (Elias Canetti) (1905 ــ 1994)، والذي زار مراكش عام 1953 أو 1954، يسقط في الاستشراق من ناحية كليشيهاته وتنميطاته وتلفيقاته. وهو ما يمكن الاطلاع عليه من خلال كتابه “أصوات مراكش” (1986). أجل لم يسقط كانيتي، ظاهريا، في “الشرق المشرقن” والشرق المسكوب في قالب قصصي حيث موضوعات الحريم والحمام العمومي وسوق الرقيق والمحظيات والمخصيّين وتعدّد الزوجات والجنسانية المثلية، غير أن ذلك لا يحول دون إدراجه ضمن ترسانة الاستشراق أو “أساطير أوروبا عن الشرق”، تبعاً لعنوان كتاب تذهب فيه صاحبته الباحثة السورية رنا قباني إلى أن الكتاب نفسه (“أصوات مراكش”) “أقرب إلى قصص الخيال”. ومرد ذلك في نظرها إلى “أن (كانيتي) لا يدخل في عمق المدينة [مراكش] وواقعها بل تحرّك خلال مجموعة من الصوّر الغربية المتلاحقة ليصنع للقارئ لوحة حيّة على غرار ما كان يفعل فلوبير”. وتواصل الباحثة قائلة: “ورغم أن شرق كانيتي موصوف بشيء من العاطفة التي لا تخلو منها كتابات القرن التاسع عشر، إلا أن هذا الشرق يظل هو نفسه شرق الرؤية الغربية الثابتة […] إن مراكش عند (كانيتي) أرض تتسم بالغرابة وفق مفهوم القرن التاسع عشر، أي أنها “مختلفة، ومتوحشة، وبعيدة عن كل ما هو مألوف”.
والمسألة، من وجهة نظرنا، ليست مجرد مسألة تخييل أو تلفيق… وإنما هي مسألة موقف غربي مبني على الاستشراق بشقيه النظري والعملي. وكما أن المسألة تتجاوز ما كان إدوارد سعيد قد نعته، في “الاستشراق”، بـ”معالجة الشرقيين لا كمواطنين أو أشخاص، وإنما كمشاكل قابلة للحل أو مستعصية…” نحو “الاختلاف الأنثروبولوجي”.
إقدام خوان غويتيسولو إلى مراكش كان بدافع الإقامة بين الأهالي وليس بدافع “الغرب الذي يتقدّم نحو الشرق” من أجل صياغة الاختلاف الأنثروبولوجي في النص الرحْلي (من أدب الرحلات) المقعّر بـ”توابل الاستشراق”. في حال غويتيسولو يتعلق الأمر بإمكان النظر إلى لغته وثقافته في ضوء لغة وثقافة أخرى، كما كتب الناقد إبراهيم في نص التقديم لترجمته (الأنيقة) لكتاب غويليسيلو سالف الذكر.
ولعل ما نهدف إليه، من خلال هذا المقال، هو لفت الانتباه لهذه المراعاة لثقافته. فغويتيسولو، في النظر الأخير، منتوج المرجعية الغربية الأوروبية، تلافياً للسقوط في أي نوع من التلقّف الوطني الأعمى أو القومي العاطفي للرجل. وعلى سبيل التمثيل، فهو يقرأ ابن رشد من خلال الأوربيين وليس الرشديّين العرب، وهو عندما يحيل على المفكرين العرب المعاصرين (وقد أشرنا إليهم) فإنه لا يحيل إلا على الذين تشبّعوا بفكر الغرب ومناهجه الحديثة. ومن ثمّ لا يبدو غريبا أن يكون ناقده المفضل هو ميخائيل باختين، وأن يكون الكاتب الذي أثّر فيه أكثر من أيّ كاتب آخر هو جان جنيه (1910 ـ 1986) الذي تعاطف بدوره مع العرب والفلسطينيين إضافة إلى السود، لكن من دون أن يكون معهم كليّا كما يقول هدي خليل في كتابه “جان جنيه” (Jean Genet) (2005) الذي كرَّسه صاحبه للبحث في صورة العرب والسود والفلسطينيين في عمل جان جنيه. واضح أن جان جنيه بدوره منتوج الغرب رغم إصراره على مواصلة ما بعد الحياة من مقبرة مسيحية مطلة على البحر بمدينة العرائش بشمال المغرب، وهي المقبرة ذاتها التي التحق بها غويتسولو لمواصلة حياة ما بعد الموت ذاتها بجوار صديقه الوفي.
ضفة ثالثة
خوان غويتيسولو.. رحلة أخيرة إلى العرائش
خالد الريسوني
اختار خوان غويتيسولو (1931-2017) أن يغادر عالمنا في مدينة مراكش المغربية، كما اختار أن يوارى الثرى في المقبرة المدنية بالعرائش قريبًا من جان جينيه الكاتب الفرنسي الذي كان خوان يكنّ له المودة والإعجاب، لأنه يلتقي معه في الالتزام بقضايا الدفاع عن الإنسان باعتباره قيمة عليا، وهو ما قام به خوان في أعمال عديدة مثل: “مطالبات الكونت دون خوليان”، و”خوان بلا أرض”، و”مقبرة”، و”فضائل الطائر المتوحد”، و”الأربعينية”، و”أسابيع الحديقة”، و”حصار الحصارات”، و”ملحمة آل ماركس”، و”الكوميديا الأيرية” أو”المنفي هنا وهناك” وغيرها.
غويتيسولو الذي رحل، أول من أمس، عن عمر يناهز 86 عاماً في مدينة مراكش المغربية، احتُفي به سنة 2014 في عالم الكتابة بحصوله على جائزة ثيربانتس للآداب، أهم جائزة هسبانية تتوج مسار الكتاب الكبار في اللغة الإسبانية. ذهب خوان ليتسلم الجائزة في مدينة قلعة النهر، لكن المفاجأة التي أحدثها خوان غويتيسولو تمثلت في حدثين، الأول ابتعاده الكلّي عن الرسميات التي تميّز عادة مثل هذه الحفلات، فقد لبس خوان لباسه العادي الذي كان يرتديه كل يوم، عدا أنه أضاف إليه ربطة عنق يحكي أنها ربطة العنق الوحيدة التي كان يمتلكها وعمرها 35 سنة.
كانت قد مرّت ست سنوات على آخر عمل إبداعي أصدره خوان وهو رواية: “المنفي هنا وهناك”، عمل سيعقبه فيما بعد إصدار دراسات نقدية كان قد خص بها صديقه الراحل الشاعر خوسيه أنخيل بالينتي، أحد الأصوات المتمردة ضمن الجيل الشعري الخمسيني، لكن المتابعين لخوان يعرفون أنه كان قد وضع بين يدي وكيلته كارمن بالسيلس عملا أوصى بنشره عشر سنوات بعد موته.
الحدث الثاني الذي طبع تسلّم خوان جائزة ثيربانتس يتمثل في الخطاب الاستثنائي الذي ألقاه أمام محفل الكتاب والأكاديميين بحضور الملك فليبي والملكة ليتسيا، كلمة تعتبر أقصر خطاب في تاريخ الجائزة، لكنه يعتبر من أقسى الخطابات وأكثرها كشفاً عن التمرد الذي رافق هذا الكاتب طوال حياته؛ أربع صفحات مأهولة بألف وثلاثمائة كلمة، خطاب مختزل ومكثف قدّم فيه التحية لأهل مدينة مراكش الذين عاش بينهم وهو اليوم يموت بين أحضانهم، إلى جانب إشارات قاسية لما حدث وما زال يحدث من فظاعات: منافٍ فرضت على الكاتب ومن قبله على أساتذته، هيمنة للعولمة ولسلطة المال والبنوك، وهو ما يفرض على مستوى الواقع الفقر والجوع والبؤس والحروب والظلم، نتيجة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفساد المنتشر على مدى واسع بين الطبقة السياسية، وتقتيل المهاجرين الأفارقة الباحثين عن ظروف حياة مستحيلة أفضل برصاص الحرس المدني على سياجات مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، خطاب متمرد يستشهد بمانويل أثانيا، الرئيس الجمهوري الإسباني الذي انقلبت عليه الطغمة العسكرية الفرنكوية.
هذا الخطاب ينسجم مع تاريخ غويتيسولو وإنتاجه، وهو الذي لم يستطع العودة إلى بلاده إلا بعد سقوط الدكتاتورية، وبقيت روايته المعنونة بـ”الأفضل التدمير والنار” (قبل أن يتم تغيير العنوان ليصير “علامات هوية”) محظورة في بلده إسبانيا حتى وفاة فرانكو. الرواية التي كانت قد نشرت في المكسيك عام 1966، تعتبر نقطة تحوّل حقيقية في مساره ككاتب، وهي الرواية التي اقتبس عنوانها في البداية من بيت شعري للشاعر الإسباني لويس ثيرنودا، الذي كان غويتيسولو يعتبره كاتباً مرجعياً من حيث تأثيره في مساره الفكري، مثله في ذلك مثل خوسيه ماريا بلانكو أو أمريكو كاسترو.
في سن الخامسة والثلاثين استطاع خوان غويتيسولو أن يحدث تغييرات جذرية على السرد التقليدي من خلال مصادفته لبيت شعري سردي لثيرنودا، متخلياً عن هيمنة ضمير الغائب ومستعيضاً عنه بمزيج من الضمائر، المتكلم منها والمخاطب والغائب، ومزيج من الأزمنة والمكوّنات السردية، مما حقق للنص نوعاً من الكولاج الطليعي على مستوى الكتابة. يقول خوان غويتيسولو: “ولدت رواية علامات هوية من عدم الرضى عن أعمالي الخاصة السابقة، في أعمالي الأولى كنت قد أدّيتُ واجبي كمواطن، لكني لم أقم بواجبي ككاتب: أن تمنح للأدب شيئا آخر مغايراً لما نلته. دون فكرة الجِدّة ليس ثمة عمل حقيقي، وأنا حتى ذلك الحين لم أكن قد كسرت مع القوالب الأدبية الجاهزة”.
لكن أحد أهم وأبرز الجوانب في مسيرة خوان غويتيسولو كان يتمثل في اندماجه العميق مع فئات مسحوقة تعاني القهر والظلم، وتبنيه لقضاياها ودفاعه عنها، لقد دافع الشعب الفلسطيني مثلما دافع عن الشعب الجزائري في معركة تحرره من الاستعمار وشعب البوسنة والهرسك وشعب الشيشان، كما سجل مواقف مؤيدة للحراك العربي بعد 2011.
وقد عبّر غير ما مرة عن حبه العميق للعرب؛ إذ قال في كتابه “عصافير تلوث أعشاشها”: “إن الفضول الذي دفعني في بداية الستينيات نحو ثيمة العرب، كان أولاً وقبل كل شيء إنسانياً وليس ثقافياً أو كتابياً، فقد عايشت في باريس الرعب اليومي للاضطهاد العنصري، لما كنت مستقراً بها أثناء الحرب الجزائرية، عايشت الإهانات، والحملات التأديبية، والاغتيالات المتكررة التي تفلتُ مِنَ العقاب من طرف الشرطة، وبالإضافة إلى تضامني الطبيعي مع الضحايا انْضافَ شيئا فشيئا عامِلٌ حميميٌّ، كان بدون شك حاسما في اقترابي من عالمهم الحيوي وثقافتهم […] إن الكيمياء التي تُحَوِّلُ حبَّ جسدٍ من نموذج فيزيقيٍّ وثقافيّ للجسد إلى ضرب من شراهة المعرفة، لَقادِرَةٌ على تحويل العاشق إلى لغويٍّ، وباحثٍ، وعلَّامَةٍ أو شاعرٍ، وتنقله من المستوى الفرديِّ إلى الجماعي، وتفتح عينيه على التاريخ بتراجيدياته وظُلْمِهِ، وتدفعُه إلى النضال في حركاتِ التحرُّرِ من الاستعمار، والنفاذ إلى اللغةِ والأدبِ والفكرِ الذي يستحضرُهُ الجسدُ المحبوبُ ويمثلُهُ […] إنَّهُ بَرَكةٌ أو نعمةٌ ممنوحةٌ إلى مَنْ يظلُّ بصرامةٍ وإخلاصٍ دائمٍ وفيّاً مهما كانتِ الظروفُ لِمَا هو أكثرُ سرِّيَّةً وأكثرُ قيمةً فيهِ، لا حاجة لأن أوضح أنني، وأنا أتحدثُ عن هذا النوعِ النادرِ من الكُتَّابِ، كنتُ أتحدثُ عن نفسي، عن مساري الأدبي والأخلاقي”.
وفاءُ غويتيسولو للهويَّة العربيَّة لا ينتهي، ووفاؤهُ للمكانِ ولأهلِ المكانِ لا يعادله وفاءٌ، حتى بعد أن أصيبَ ومنذُ شهورٍ بكسرٍ على إثر سقطةٍ ثم بجلطةٍ في الدِّماغِ، اختار أن تنتهي حياتُه “مع قبيلته” -كما كان يحلو له أن يقول- في مدينته مراكش، وأن يدفن قرب صديقه جان جينيه بالعرائش، لقد ختم خوان أحد أهم حواراته بعد نيْله جائزةَ ثيربانتس قائلا: “الآن لا أغيِّرُ مراكشَ بأيِّ مكانٍ آخرَ، في عمري الحالي أنا لستُ قادرا على أن أزُجَّ بنفسي في مغامراتٍ جديدةٍ”.
العربي الجديد
فتحة صغيرة/ خوسيه ميغيل بويرتا
كواحد من أكثر كتّاب إسبانيا المعاصرين عالمية وأوثقهم علاقة بالعالم العربي روحا وعيشا وأدبا، تختص علاقة خوان غويتيسولو بالآخر، وبالعالم العربي تحديدا، بالانفتاح الثقافي والإنساني على الشعوب والبسطاء وبابتعاده الحازم عن الأقوياء وعن أوساط السلطة أينما وجدت.
لذا، اعتزم غويتيسولو منذ شبابه الحفاظ على استقلاله الشخصي وخاض مغامرة أدبية نادرة في زمننا تنصهر في بؤرتها روح إنسانية لا تمّحي مع طموح نقدي متعمق وخلاق يسعى إلى إحياء النواحي المنسية والجمالية الكامنة في الثقافات التي احتك مؤلفنا بها، سواء كانت الثقافة الاسبانية أو الأوروبية أو العربية، محبذا انبثاق ثقافة كونية متعددة الأعراق والحساسيات، وداعيا في كل حال إلى اجتياز وجوه الطغيان المتنوعة وطمسها.
ومن هنا، أخذ غويتيسولو يطور شيئا فشيئا أسلوبا خاصا في الكتابة والحياة مصبوغا بالتنقل الدائم بين الأنواع واللغات والأزمنة والأدبيات وبنبرة كونية ذات نفس صوفي فريد لا يمنعه من الانخراط في قلب أخطر قضايا العصر ككاتب وإنسان.
الكلمة التي نقدّم ترجمتها في هذه الصفحة (ألقاها غويتيسولو عند استلامه جائزة Hidalgo (ذو المروءة) التي منحتها له “جمعية الحضور الغجري الوطنية” باسبانيا 1995) تشكل فتحة صغيرة وملائمة جداً للإطلال على عالم غويتيسولو وبالتالي على تناقضات حاضرنا الجريح.
العربي الجديد
بعض من كتبه
عصافير تلوث عشها (محاضرات ومقالات حول الرواية)
الرابط الأول
عصافير تلوث عشها (محاضرات ومقالات حول الرواية)
أو من الرابط الثاني
عصافير تلوث عشها (محاضرات ومقالات حول الرواية)
أو من الرابط الثالث
عصافير تلوث عشها (محاضرات ومقالات حول الرواية)
——————-
—————-