وصايا القتل الناعم
بدور عبد الكريم
لعبة البيضة والحجر، والثلاث ورقات، والصّوص في كُمّ الحاوي الذي يخرج من جيب المتفرج آخر ما علق فيه من نقود… نماذج بريئة في استغفال الناس والسيطرة على عقولهم، مع ما بات يعرف به القيمون على النظام وإعلامه في سوريا. فما يمكن تسميته بوصايا القتل الناعم، بات خطة للإعلام وليس للحاوي، غايتها المجتمع لا الفرد.
في كتابه “أسلحة صامتة لحروب هادئة”، شخّص نعوم تشومسكي ما قد يقوم به الإعلام للتحكم والسيطرة على المجتمعات. وسواء وصل هذا الكتاب إلى غرفة عمليات النظام الإعلامية، أم غاب عنها، فإن المادة الخام حُفظت في المخازن، وهي حاضرة لتكون خبزاً وحلوى بطحين كذب.
“إجعل الشعب منشغلاً، منشغلاً، منشغلاً، حتى لا يعود لديه أي وقت للتفكير”. هذه المقولة أوردها تشومسكي تحت بند الإلهاء في مجموعة الأسلحة الصامتة. أما في سوريا، فقد تدرّج تطبيق هذا البند من استراتيجية القتل الناعم، محمولاً على سوء القصد وهزال البنية: “إجعل الشعب يركضن يركض، يركض خلف رغيف الخبز واسطوانة الغاز وليتر المازوت… وقبل هذا وبعده أغلق فرص العمل حتى يصير العثور عليها حلماً بمفتاح الجنة… وقدم للناس على موائد الإعلام وجبات عامرة من الكذب وتزييف الحقائق.. وانشر ما أمكن من ورق التوت لستر عورات بات سترها يفترض الإصابة بالعاهات الخمس…”. حتى إن كاتباً وشاعراً كممدوح عدوان صرخ في مؤتمر للكتّاب: هذا إعلام يكذب من النشرة الجوية إلى الكوليرا… لك في حدا بيخبي كوليرا؟!
“ابتكر المشاكل ثم قدم الحلول”، صنف آخر من الأسلحة الصامتة شخصه تشومسكي، ووسيلة للقتل الناعم طبقها النظام، وتعويذة يرشها الإعلام في وجه المشاهدين عند الطلب. ففي ثمانينات القرن الماضي، حينما أراد النظام أن يثبت حكمه في وجه غليان بدأ في حماة، كان على الناس أن تنخلع قلوبهم قبل أجسادهم، في تفجيرات متنقلة، فيستنشقون الدخان الخارج من مجمر الإعلام الذي يدين عصابات إرهابية مسلحة متآمرة على أمن البلد، وهو الدخان الإعلامي نفسه ينفثه إعلام النظام منذ بدء الثورة في آذار 2011.
وبين ثمانينات القرن الماضي واليوم، ألقى النظام بين أيدي المواطنين جمراً حارقاً لكنه لا يطهو، إذ يختفي الغاز من الأسواق ليظهر في السوق السوداء رافع هامة التكلفة.
أما استراتيجية التدرّج فهي سلاح صامت فعال في أسلحة الحروب الهادئة، كما وردت لدى تشومسكي، وبساط راح يسحبه النظام من تحت أقدام الشعب، حتى أدمن برودة الأرض.
ودخل رغيف الخبز سوق البورصة والعملة الصعبة، واعتذر وزير سوري عبر الإعلام عن غياب الخبز بالهجرة الداخلية المتزايدة، وكأن المشاهدين آتون من المريخ.
وفي استراتيجة المؤجل، بحسب تشومسكي، “خذ موافقة الشعب في الحاضر على قرارات مكروهة في المستقبل”. أما في وصايا القتل الناعم في سوريا، فللمسألة شأن آخر، إذ للنظام من العنجهية ما يجعله يربأ بنفسه عن محض انتظار الموافقة من الشعب. لكن لا بأس بمقولة ” الطيب أحسن” و”اقبل بالتي هي أحسن”. وعلى هذا، ففي مطالع الثمانينات، سرت نكتة في الشارع السوري سيكون لها شأن في سياسة النظام…
تقول النكتة إن الرئيس شكل هيئة خبراء لدراسة مستقبل سوريا على مدى السنوات العشر المقبلة، وعاد الخبراء إليه بنتيجة مفادها احتمالان، جيد وسيئ: الجيد إن الناس بعد عشر سنوات ستأكل (…). قال الرئيس: فماذا عن السيء إذاً؟ فقالوا: بعد عشر سنوات لن يجد الناس (…) ليأكلوه!
ظن كثيرون في ذلك الوقت أن النكتة إنما انفجرت من بؤس واقعهم. لكن سياسة القتل الناعم، وما شخصه تشومسكي من استراتيجيات، تقول غير ذلك. فابتلاع المر الآتي يسهّل المرّ الراهن ويرش النظام بذور الحنظل في أرض اليوم لتنبت غداً: سيرتفع سعر المازوت… لا، البنزين فقط… الإثنان معاً… ثم تقفز إلى واجهة الأخبار الشعبية شائعة: هناك زيادة رواتب… قالوا المرسوم في مجلس الشعب… قالوا جاهز بانتظار توقيع الرئيس… وتبدأ لقمة الحنظل بالانزلاق في الحلق، وقد شرب الناس فوقها كأساً من ماء الزيادة المرتقبة للرواتب، والتي لن تأتي قبل أن يغادر الحجر مكانه في البناء، ليرقد طوعاً أو كرهاً فوق المعدة الخاوية.
المدن