وضع المعارضة في سياق الحل الروسي: سلامة كيلة
سلامة كيلة
الإعلان عن عقد “جنيف2” أوجد تحركات دولية متعددة ومتتالية، لكن الأنظار ظلت متجهة إلى المعارضة السورية، حيث يجب تحديد مشاركة أطيافها كطرف مقابل لوفد السلطة الذي قال الروس إن أسماءه قد تحددت وأرسلت لهم. وإذا كان الطرفان الروسي والأميركي ينشطان من أجل عقد المؤتمر عبر ترتيب “صفوف” السلطة والمعارضة، فإن الحراك داخل المعارضة ذاتها بات واضحاً، والإرباك أضحى كبيراً فيما يتعلق أولاً بمبدأ المشاركة أو عدمها، وثانيا بالحد الأدنى الذي يمكن على أساسه المشاركة؟
وهنا نلمس أن الموقف من بقاء بشار الأسد يعلو قليلاً ويتلاشى، لأنه هو المدخل لكل حل، وهو الأدنى الممكن من أجل الوصول إلى حل يمكن أن يلقى قبولاً من القوى المسلحة أو من الثوار عموماً.
في الأشهر الماضية كان وضع المعارضة ما زال يشير إلى وجود “مركزين” فقط، رغم أن كثيرا من المجموعات والتحالفات والتجمعات قد تشكّل. وظهر أن المركزين يميلان في إطار العلاقات الدولية إلى محورين متناقضين: روسيا/إيران، و”الغرب” الذي يعتبر بديهياً أنه يشمل أميركا وأوروبا وتركيا.
لقد رتبت هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي علاقاتها مع روسيا والصين وإيران، وباتت تراهن على الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الدول من أجل إيجاد “حل سلمي” أو “تفاوضي”، بعدما راهنت طويلاً على “استيقاظ” السلطة من “غفوتها”، ثم على مبادرة الجامعة العربية، ومن ثم على الموفد العربي الدولي (كوفي أنان ثم الأخضر الإبراهيمي)، لكنها وجدت في الروس أخيراً الطريق الممكن لتحقيق “الانتقال السلمي الديمقراطي”. ويبدو الآن أن الطريق بات جاهزاً لذلك، ولهذا ترى قيادات الهيئة أن خيارها كان الأسلم، وأنه أوصل إلى نتيجة كان يمكن الوصول إليها دون كل هذه الدماء.
في المقابل ولد المجلس الوطني بدعم “غربي”، خصوصاً هنا تركيا وفرنسا، ثم قطر. وهو المحور الذي كان يبدو أنه حريص على أن يأتي إلى السلطة بقوى “تمثله”، فتركيا لها مصالح هائلة في سوريا تحققت بعد توقيع الاتفاق الإستراتيجي مع بشار الأسد، وهي تريد أن تحافظ على مصالحها بالطبع. وقطر كانت في علاقة “فوق جيدة” مع الأسد، وتريد أيضاً أن تحافظ على وضعها وأن تعززه. وفرنسا التي ظلت تحاول منذ تسعينيات القرن الماضي أن تجد موطئ قدم لها في سوريا وفشلت (مع شيراك ثم مع ساركوزي)، عادت تحلم بأن يصبح لها مصالح تريدها (ولا ننسى أن فرنسا شيراك هي التي رعت وصول بشار الأسد إلى السلطة، ورعت عملية الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الإداري، قبل أن تكتشف أن كل ذلك لا يجعلها بديلاً عن الهوى الأميركي لدى النخبة الجديدة). ولهذا بات المجلس مدعوماً من هؤلاء، وجرى العمل من قبلهم لكي يصبح هو “الممثل الشرعي الوحيد” للثورة والشعب. لكن يبدو أن الفيتو الأميركي (المخفي حينها) كان يمنع تحقيق هذه النقلة التي كانت تفترض الانتقال إلى مرحلة التدخل العسكري لفرض المجلس سلطة بديلة، وحيث كان واضحاً أن أميركا ليست في وارد التدخل إطلاقاً، وتبيّن فيما بعد أن لها سياسة أخرى في سوريا خصوصاً. ولهذا تعثر المجلس الوطني، ودخل في متاهات الوعود الدولية دون أن يكسب شيئاً، لكنه ظل مرتبطا بهذا المحور رغم ذلك.
وكان واضحاً منذ البداية أن الإخوان المسلمين هم الذين يمسكون بكل مفاصل المجلس، فهم من صانعيه بحجمهم أصلاً (وإنْ بالتعاون مع إعلان دمشق وبعض الليبراليين الهامشيين)، وظلوا يتحكمون بسياسته بدعم من ذاك المحور. ولقد هيمنوا عليه مباشرة بعدما أصبح تشكيل الائتلاف الوطني حتمياً، حيث كانت الضغوط الدولية تفرض تجاوز المجلس، وتجاوز سياساته لمصلحة سياسة أخرى تريدها الولايات المتحدة.
هذا الائتلاف الذي ظهر من أجل “الدخول في الحوار مع السلطة” كما روّج المجلس الوطني، ظهر أنه قد فرض على المجلس أن يشارك فيه. وقد ظهرت آثار تلك الهيمنة المباشرة على المجلس لاحقاً كما سنرى. فقد كانت المسألة تتعلق منذئذ بترتيب وضع المعارضة الخارجية للمشاركة في حل ترعاه روسيا وأميركا، وهو ما لم يكن واضحاً حينها لكثير من المعارضين انطلاقاً من قناعة لديهم بأن الصراع الأميركي الروسي ما زال كما هو، وبالتالي فإن إمكانية التفاهم مستحيلة، وإن أميركا في صف المعارضة الخارجية وإنْ كانت غير متحمسة كثيراً لدعمها، وعرقلت أكثر من مشروع لتعزيز دورها، أو لزيادة الدعم السياسي و”العسكري” للمعارضة.
الدور الأميركي في تشكيل الائتلاف كان لافتاً، لكن تبيّن أن الإخوان سيطروا عليه أيضاً، لهذا حينما بدأ النشاط الأميركي من أجل تقدم الائتلاف نحو الحل عبر تقديم مبادرة “حسن نوايا” ظهر الفشل، حيث ظهر أن أغلبية في الائتلاف ترفض ذلك، فتقدم معاذ الخطيب بمبادرة باسمه فُرضت على الائتلاف فيما بعد (بشربكات مضافة إليها من أجل إفشالها)، وربما ما فرضها هو الشعور بأن جزءاً مهماً من “الجيش الحر” (أو الكتائب المسلحة) ومن الشارع، يدعمها.
لكن قام الإخوان بخطوة زادت في الإرباك حينما طرحوا تشكيل حكومة انتقالية (وكانوا قد رفضوا الفكرة من قبل)، وفرضوا التصويت على انتخاب رئيس لها، تبيّن أن الفائز منهم. لهذا استقال معاذ الخطيب من رئاسة الائتلاف، وأصدر خطباً نارية طالت من يرسل التكفيريين ومن يريد فرض قيادة على الثورة، وعن تقاعس الدول الغربية وكذبها، فأوضحت كل “البيئة” التي نشطت فيها هذه المعارضة.
الضغوط أعاقت تشكيل الحكومة وربما أفشلتها (وهذا هو الأرجح)، و”الدول الداعمة” جرى الضغط عليها أميركياً، أو ترتيب وضعها لكي تحصل مقابل خسائرها (تركيا خصوصاً)، وجرى العمل على “توسيع الائتلاف” بقوى “ديمقراطية” توازن ثقل الإخوان، ومن ثم دفعها في المسار التفاوضي، الأمر الذي يفرض أن يوافق الائتلاف على المشاركة، فقد قرر الروس والأميركيون الدعوة إلى مؤتمر “جنيف2” الشهر القادم (يونيو/حزيران)، وباتوا يدفعون لكي يتشكل وفد المعارضة الخارجية التي وضعت في زاوية ضيقة، لأنها إذا لم تشارك سيجري تشكيل تحالف جديد بدون الإخوان (وبعض أطراف المعارضة الأخرى الملتصقة بهم) يشارك في المؤتمر، وفي الوقت ذاته سينتهي الدعم لكل معارض لهذا المؤتمر، خصوصاً بعدما دعمه “أصدقاء سوريا” تحت الضغط الأميركي (أو في سياق الترتيب الأميركي لا فرق)، وبات واضحاً أن من يرفض سيُعزل.
لهذا فإن الحاضرين في إسطنبول لترتيب أمر الائتلاف هم في وضع حرج، لأن المسار قد تحدد من قبل “الحليفين” روسيا وأميركا القادرين على ضبط حركة المعارضة نتيجة تهافتها على الارتباط بهاتين الدولتين، خصوصاً هنا المجلس الوطني (الذي صار هو الائتلاف الوطني بعد السيطرة على هذا الأخير) الذي صمم منذ البدء على ربط المسألة السورية بالتدويل، وركّز كل نشاطه من أجل أن يستجلب التدخل “الخارجي” (الغربي أو الإمبريالي)، وتعاقد مع الدول الخاسرة في الصراع العالمي على بيع سوريا لها، قبل أن يكون واجهة قوى “دولية” تريد السيطرة على سوريا.
هيئة التنسيق كما أشرنا تبدو فرحة لأن حليفها هو الذي فاز بسوريا في إطار التقاسم العالمي. أظن أن ما تفكّر به هو أن المطلوب هو تحقيق حل “سلمي”، وتحقيق “الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية”. طبعاً الحل “السلمي” بات ممكناً ربما بعد كل هذه الوحشية التي مارستها السلطة، وهذا الدمار الذي حققته بكل جدارة. وربما نصل إلى شكل نظام “ديمقراطي”، لكن يجب أن لا ننسى أن من سيشارك في الحل، عليه أن يوقع على كل “العقود الاقتصادية” التي وقعها قبل أقل من سنة “الرفيق المناضل” قدري جميل، والتي تؤكد السيطرة الروسية على النفط والغاز، وتفتح السوق السورية للسلع الروسية والرأسمال الروسي، أي للنهب الروسي بالتحديد.
فإذا كان الخوف من السيطرة الإمبريالية الأميركية هو الذي دفع إلى التفاهم مع الروس، سنجد أن الروس أيضا قادمون لفرض سيطرة إمبريالية.
ما يمكن أن يستفاد منه موضوعياً هو أن الحل يستطيع أن يحقق الانتقال من هذا الشكل الدموي الوحشي لصراع السلطة مع الشعب، إلى شكل عليه ملامح الصراع الديمقراطي. لكن هذا يستلزم شطب الفئة التي مارست كل هذه الوحشية، وتأسيس دولة ديمقراطية، بينما سيبقى الشعب يخوض صراعه من أجل التغيير العميق الذي يحقق مطالبه.
من الواضح أن روسيا وأميركا تسيران الآن بسرعة نحو عقد المؤتمر، فاللقاءات تتسارع قبل انعقاد اللقاء بين كل من بوتين وأوباما الشهر القادم، والخطوات العملية تجري “بحيوية”، وكأننا على أبواب الوصول إلى حل.
الجزيرة نت