وطنٌ بحجم حقيبة/ عروة الأحمد
كان الوقتُ قد تجاوز الواحدةَ ليلاً، ومحطّة “أمستردام سنترال” تعجّ بالمسافرين.
جلستُ على أحد الكراسي في المنطقة المخصصة للمدخنين منتظراً القطار المتجه نحو مطار “سخيبول” الدوليّ، ثمّ أشعلتُ سيجارةً، ورحتُ أتأمّل حقيبة سفري الحمراء التي امتلأ ظهرها بالأوراق اللاصقة.
أوراقٌ صغيرةٌ تحمل أسماء مختلف البلدان، والمدن. كلّما وقعت عيني على ورقةٍ منها تزاحمت في رأسي العديد من الصور. كانت كلّ ورقةٍ بمثابة كتابٍ يحمل في طيّاته زخماً من الصور مُرفقةً بمشاعرٍ خبأتها في شوارع تلك المدن.
دمشق، دبيّ، جدّة، أبو ظبي، الشارقة، القاهرة، مسقط، بيروت، إسطنبول، غازي عنتاب، أمستردام، كولن، ماغديبورغ، والآن تنتظرني لصاقةٌ جديدة في باريس.
قد يبدو الأمرُ عادياً لأي مواطنٍ يعشقُ السفر، ولكنّ الأمر مختلفٌ هنا؛ فحقيبتي ليستْ أداةً أضعُ فيها حاجيّاتي لبضعة أيامٍ، ثمّ أعودُ أدراجي إلى الوطن. حقيبتي الحمراءُ هذه بمثابةِ وطن صغير بحجم أحلامي التي قلّمتها الحرب، وطن صغير أحمله معي أنّى مضيت.
نعم؛ كانت لدينا الكثير من الأحلام، والعديد من المشاريع المؤجَّلة، وكلّما حللنا في أرضٍ بعد طولِ ترحال قلنا متفائلين: هنا سنحيا، وسيكون لنا ما نأمله من فرح!
وما نلبثُ أن نعلّق أحلامنا على حائط منزل الإيجار حتى نتركهُ دونما عودة إلى وجهةٍ جديدة نجهلها.
بات أعظمُ أحلامنا مؤخراً المكوث الطويل الذي لا تتبعهُ ندبةُ حنينٍ كتلك التي خلّفتها الأماكنُ السّابقةُ في أرواحنا.
مكوث لا تليه محطّاتُ انتظارٍ جديدة، ولا حقائب مملوءة بالأوراق، ولا وجهات ضبابيّة تأكلُ وقتنا المتبقّي.
وصل القطار المتّجه نحو المطار، وعلى رصيف الانتظار عشراتٌ من المسافرين اصطفّوا مبتسمين إلّاي، وسيّدةٌ في الخمسين من عمرها ترتدي منديلاً أبيض، وتحملُ في عينيها حزني الذي ورثته عن بلادها. تنظرُ نحوي لبرهةٍ، ثمّ تمضي في إحدى المقصورات.
قُبيل دخولي المقصورة الأخيرة، كما أختار دائماً، أوقفني موظّف أمنِ القطار طالباً مني فتح الحقيبة؛ ورغم شرحي له عن صعوبةِ فتح هذه الحقيبة المكتظّة التي بذلت كلّ طاقتي كي أغلقها إلا أن الموظف لم يكن ينصتِ إليّ. كانَ يحملقُ في لحيتي متوجّساً، ويطلبُ منّي الإسراعَ في فتحها.
حاولتُ تحريك “السّحاب”، ولكن دونما جدوى؛ فصرخَ الموظّف العصبيّ طالباً منّي العَجَلَة، ثمّ همّ بفتحها ممتعضاً.
شعرتُ لحظتها وكأنّ أحدهم يفتّش منزلي، بل داهمني شعورٌ بأنه اقتحم دماغي، وراحَ يقلّب ذاكرتي مطّلعاً على كلّ تفاصيلها:
كتابٌ من صديقةٍ كانَ أثمن من كلّ مكتبتي التي قضيتُ سنيني الخمس في دبيّ وأنا أجمعها، ثمّ تركتها ورائي ماضياً نحو القارة العجوز. ورقةٌ صغيرةٌ دسّها والدي في حقيبتي حين ودّعته في مصر تختصر كلّ مشاعره في جملة “بحبك يا روحي .. الله يحميك”. صورة لصديقي “مرهف” الذي أصرّ القدر على أن يجمعنا في الإمارات مجدداً بعد خروجنا من مدينتنا حمص. خاطرةٌ ركيكة من فتاةٍ عرفتها في مرحلة الدراسة الثانوية ذيّلتها بعبارة “سنلتقي يوماً ما”. أحجارٌ قالت لي صديقةٌ بأنها تجلب لي الحظّ. تماثيل خشبيّة اقتنيتها من معرض الكينيّين في دبي. ركوة قهوة تركيّة جلبتها من عنتاب، وفنجانٌ اختلسه لي صديقي من أحد المقاهي في الشارقة، والذي رفض مديره أن يبيعني إياه، أو أن يُطلعني على المكان الذي ابتاعوه منه. قرآنٌ أهدتني إياه والدتي في جدّة قالت لي يومها إنه سيحميني من الضرر. أوراقٌ، وحدي أعلم تاريخها، دوّنت فيها مشاعر مضطربة رافقت غربتي في مختلف الأماكن.
صنوبرةٌ جافّة من حمص. شالٌ صوفيّ فقد رائحته. كانفاس رُسم عليها درويشٌ يرقص المولويّة. كريمٌ لليدين كُتب عليه بأنه برائحة الكاموميل لكنّي لم أتجرأ على فتحه حتى اللحظة خوفاً من زوبعة حنين. غليونٌ خشبيّ كان القطعة الوحيدة التي أخذتها من غرفة والدي قبل الخروج الأخير من حمص، ولم أكن أعلم آنذاك بأنه سيصبح الذكرى الوحيدة من منزلنا الذي بات بعدها حطاماً. فنجانُ شاي ينتظر صاحبه كي أهديه إياه. زجاجات عطرٍ، وساعات يد، وسماعات رأس، ومكبر صوت، وكاميرتان، وهاتفان محمولان قديمان، وحاسبٌ محمول، والقليل من قطع الملابس. غطاءٌ لصندوقٍ خشبيّ لم أستطع حمله كاملاً معي حُفر عليه اسم عرضي المسرحي الأخير “هو الحبّ”، والعديد من الأشياء المتناثرة في جيب الحقيبة العلويّ.
نظر إليّ الموظّف سائلاً: ما كلّ هذا؟!
أجبته متهكّماً: وطنٌ صغير.
أردف متعجّباً: أغلقها، والحق بالقطار قبل أن يمضي، واحرص في المرة القادمة على ألا تحمل كلّ هذا فمن الواضح أنّ الحقيبة لا تتسع.
العربي الجديد