..وعن الثورات وما بعدها
ماجد كيالي
منذ عامين كانت الثورات في العالم العربي لاتخطر في البال، وحتى أنها كانت شيئاً يستعصي على الأحلام، لكن هذا الأمر بات حقيقة ماثلة أمامنا، وعلى حين غرّة، إذ احتلت الثورات الشوارع والميادين، والاهتمامات اليومية، والتحركات السياسية، وشاشات الفضائيات.
المهم أن الثورات حصلت، وهذا حدث غير عادي ومدهش، وغير مسبوق البتّة، في تاريخ مجتمعاتنا العربية، وهو يعني أن الشعوب قامت من سباتها المديد أخيراً، وأن العالم العربي لن يبقى بعد اليوم خارج سياق التاريخ الجديد، المتأسّس على الحرية والمواطنة والدولة.
لكن ماكان حلماً، وفي باب التمنّي، بات موضع تساؤلات وانتقادات وتخوّفات بعد أن أصبح متمثّلاً في الواقع، كظاهرة سياسية واجتماعية، لها خطاباتها، وكياناتها، وأشكال عملها، وحوادثها، وتبعاتها.
هكذا تعرّفت الثورات على النقد، وبات النقد يعرّف بوجوهها المتباينة، بنبلها ومخاتلاتها، باستقامتها وتلاعباتها، بنهوضها وعثراتها، بآمالها وآلامها، فلقد نزلت الثورات من عالم التخيّلات والمثالات إلى عالم التجسيدات والممكنات.
في البداية طرحت تساؤلات بشأن ماهية هذه الثورات، وبشأن النموذج الذي تقدمه للتجربة التاريخية، بحكم وضعها كثورات شعبية عفوية وسلمية، انطلقت من نقطة الصفر تقريباً بالنسبة للسياسة، وبحكم أنها جاءت من خارج عباءة الأحزاب والنظريات الثورية الجاهزة.
وبعد ذلك تعرّفت الثورات على نوع من النقد الهوياتي، المتعلق بماهيتها أو بطبيعة مقاصدها، فهل هي مجرد ثورات لإسقاط النظم القائمة، واستبدالها بنظم أخرى؟ أم هي ثورات ديموقراطية، أو ثورات تتوخّى تحقيق العدالة الاجتماعية؟ وإلى جانب هذه التساؤلات فقد باتت الثورات، في مرحلة لاحقة، في مواجهة موجة من التشكيكات لجهة كونها ثورات شعبية، ووطنية، خالصة، أو لجهة اعتبارها مجرد صدى لمداخلات خارجية، كما لجهة اعتبارها مجرد ثورات تتوخى تصعيد تيار الإسلام السياسي إلى سدة السلطة في البلدان العربية.
لكن وصول الثورة إلى سوريا، بعد تونس ومصر وليبيا واليمن، ولاسيما مع التحول إلى العنف الوحشي من قبل نظامي القذافي والأسد، والعنف المضاد من قبل مكونات الثورة في ليبيا وسورية، باتت تطرح مجموعة من التخوفات في مواجهة الثورات. هكذا انتقلنا من باب النقد والتساؤل إلى باب التوجّس والتخوّف، مما قد ينجم عن الثورات، أو من الثمن الباهظ الذي تتطلبه. وفي التخوّفات، كما في الانتقادات والتساؤلات، ثمة أشياء مشروعة، وأشياء لامناص منها، وثمة أشياء متوهّمة أو مبالغ فيها، إنه نقاش في المابعديات!
وفي الواقع فإن أصحاب الحديث عن “المابعديات” غالبا مايكونون من النوع المتطلّب والطهراني والمثالي، فهؤلاء يبحثون عن ثورات متخيّلة، نموذجية ونظيفة وكاملة ومستقيمة وشاملة، في حين أن الثورة تجري في الواقع، وليس في الكتب، ولا في مراكز الأبحاث أو المختبرات العلمية، ويصنعها بشر عاديون، من لحم ودم، وهؤلاء لديهم مزاجياتهم ونزواتهم وعصبياتهم وعاداتهم وطباعهم المستمدة من الواقع الذي يثورون عليه.
في الحقيقة فإن هكذا توجّسات وتخوّفات تحيلنا على ملاحظتين: أولاهما، وهي ضرورة عدم توقّع ثورة نموذجية، نظيفة وكاملة ومستقيمة وشاملة، لأن ثمة سذاجة في ذلك، ولأن من ينتظر ثورة كهذه، تأتيه من رحم الواقع القائم، لن يجدها، فحتى الثورات، مع الأسف، تتطبّع ببعض خصائص النظام الذي تعارضه، وتشوبها بعض أعراض مقاومته لها، كما إنها تحمل معها رواسب من المجتمعات التي تحاول تطويرها، وهي تأتي على قياس مستوى تطورها السياسي والاجتماعي والثقافي؛ فالثورات تتشبّه بمجتمعاتها. وثانيتهما، وهي أن مسار التغيير الثوري في بنية النظم الرسمية العربية قد يواجه عثرات وتحديات جمّة، حتى بعد التخلّص من النظام القديم (الوضع في مصر وتونس وليبيا واليمن مثلاً)، ما يعني أن التغيير المنشود، عن طريق الثورة، لن يحصل دفعة واحدة، وإنما قد يحتاج إلى توسّطات وتدرّجات وفترات زمنية معينة، قد تكون طويلة أو قصيرة.
بل ربما ينبغي الذهاب أبعد من ذلك، أي إلى حد توقّع أن الثورات في حال انتصارها ربما تواجه نوعاً من انتكاسة في مجالات معيّنة، أو نوع من مرحلة انتقالية إجبارية، تعاكس الصورة المأمولة أو المتخيّلة للثورة. وهذا كله يفيد بأن الثورات لا تسير وفق الرغبات المرجوَة، ولا وفق الوصفات المعروفة، وإنما هي تشقّ طريقها الخاص بها، وفق تفاعلات القوى المشكّلة لها، والرؤى التي تتحكّم بهذه القوى، كما وفق طريقة تعامل فلول النظام المهيمن معها؛ ومن ذلك فلربما أن الثورة تحتاج الى ثورة ثانية او ثالثة، أو حتى الى نوع من ثورة في الثورة.
والأهم من كل ماتقدم فإن قيام ثورة ما لايعني بداهةً حلّ كل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، للمجتمع المعني دفعة واحدة، لأن الثورات ليست مجرّد عملية انقلابية، وإنما هي مجرّد فتح لعملية تاريخية طويلة، مع التأكيد أنها ربّما تتعرّض لنكسات وتراجعات؛ كما قدمنا. هكذا، احتاجت الثورة الفرنسية إلى قرن لتحقيق ذاتها، بثمن أكثر من ثورة وحرب أهلية وخارجية. أما الثورات الاشتراكية، وبغض النظر عن مآلاتها، فقد كبّدت الشعوب الروسية والخاضعة لها أكثر من مليونين من البشر في حروب أهلية، وهذا يشمل الثورة الصينية، أيضاً. ويجدر الانتباه هنا بصورة محددة إلى أن الثورات إذا كانت عنيفة فإنها تفتح على تشقّقات عميقة في المجتمع، وتتطلّب كلفة بشرية ومادية ومعنوية أكثر، في حين تكون نتائجها أقلّ يقينيّة.
ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن الثورات هي عملية صعبة ومعقّدة وطويلة، وإنها تحتاج إلى مواكبة نقدية جدية ومسؤولة، فالثورة ليست بمثابة عملية انقلابية تغيّر في أسابيع أو في أشهر واقعا له من العمر عدة عقود، وربما عدة قرون.
قصارى القول، ثمة للثورات الشعبية الحاصلة في بعض بلداننا عديد المشكلات والنواقص والمخاوف والتحديات، لكنها مع ذلك بمثابة طريق لا بد من ولوجه لكسر حلقة الاستعصاء التي يمثلها الاستبداد، من أجل الدخول في التاريخ، وقيام المواطن والمجتمع والدولة حقّاً في البلدان المعنية، هذا ما تقوله تجارب الثورات التي حدثت عبر التاريخ.