وعود شراب اللوز الحلبي/ ضحى العاشور
حسناً فعلوا أهلها حين أسموها عَيّوش. ومَن مثلها كافح ليعيش رغم المرض والفقر والظلم وقلّة الحظ من الجمال والعلم والرعاية، ومَن غيرها مَلك الرضا والصبر حتى نالَ!
عيّوش الحلبية السمراء (يصفونها في حلب العنصرية تجاه ألوان البشرة بالسوداء)، ويتندرّون على ضآلة حجمها وخلّوه من التكورات “اللّحام الشاطر لا يستطيع أن يشّف منها كيلو لحم”، “قفّة (سلّة) عظام اللهم عافينا”.. هذا تصنيف القريبات قبل الغريبات.
عين واحدة أنصفتها وحمتها من شرور العالم، عين ابن عمّها الذي بالفعل لم يكن له سوى عين واحدة تبصر والأخرى مظلمة. أرادها ولم تزده معارضة الأهل إلا طلباً، فصارت له زوجة وحبيبة. لم يكن بينهما قصة عشق، لا غزل ولا شعر، لا سهر ولا أحلام. لكن عندما تغمض عَيّوش عينيها الواسعتين وتقول بعذوبة ندّية “أنا دخلت دنيا، الله يطعمها لكل محبّ”، تشعر كما لو أن حلاوة القدود الحلبية تتوغّل في أوصالك كلها، فخورة بفارسها “بياع السحلب” الذي يعرف الدنيا ومفاتنها وهي تقصد جولاته في قلب حلب التي جلب منها مفاجأة العرس: شراب اللوز.
يجري العالم كلّه على عادة تقديم العصائر والمشروبات في الأفراح والأعراس، ولم تكن العروس في بلداننا تحلم بأفخر من “الشرْبات” المصرية التي شاع صيتها بفضل السينما والتلفزيون مخلّفة في النفس خيالات من البهجة والطيب
مقالات ذات صلة:
ليلة مع النساء
لا ينال من كرامتها موت ولا حياة
أبعد من طعم الشربات ذاتها. أما شراب اللوز، فهو شيء آخر حقاً، واحد من أسرار حلب الكتيمة المكتفية بنفسها والعصيّة على الامتلاك أو الانفتاح إلا لعشاقها.
تلك الخلطة الساحرة من مستحلَب اللوز مع الحليب بمقادير محسوبة مع الرغوة الباردة تقدّم في كؤوس شفافة مزينة بدانتيل يحاكي فستان العروس وأحلامها المحلقة فوق الغيوم.
ـ إيه، “شي بيغّرف القلب” أي يذيبه امتلاء ونشوة، هكذا تستعيد عَيّوش لحظة حياتها الفارقة.
لا تستطيع أن تتخيّل يدي عيّوش وهما هادئتان. على العكس يلزمك أن تفترض أن عشرات الأيدي تكاتفت دون كلل لتنجز ما تقوم به هذه المرأة يومياً.
ما دام الحليب يصل إلى البيت لأجل “السحلب” الذي يبيعه الزوج، فقد أقنعته بتنويع بضاعته وأخذت تصنع القشطة لأجل “الكنافة بنارين” شتاء، و “الهيطلية” مع البوظة صيفاً. معاً يجهزان مستلزمات عربة السحلب، تودّعه على الباب وتعود لتهيئة بناتها إلى المدارس وترتيب البيت، تركض لتأخذ الباصات إلى حلب الغربية، حيث نساء (مثلها) لم يعتدن على تحريك أيديهن، يستعنّ بها في شؤون الطبخ ويكتفين بتعليمها وإرشادها وتوجيهها إلى أصناف جديدة وخلطات لم يسبق أن سمعت بها. وفي طريق عودتها تمرّ على “باب جنين” حيث الخضار أوفر وأرخص، تحمل ما يفوق طاقة جسدها فينحني وتزداد قصراً وتعثراً دون أن تكترث، فهي تسارع الوقت لتصل وتطبخ لبناتها الخمس وزوجها الذي يعود عند مغيب الشمس. إنها أسعد أوقاتها عندما تعرض أمامهم ابتكاراتها في أطباق مختلفة من الكوسا أو القرع. وتحصل على وسام الرضا حين تفرغ الصحون على وقع ثناء رجلها: “الله، سفرة للنظر!” مطرياً ذوقها ولمساتها وطيب نَفَسها في الطبخ.
ثمة إطراء آخر كانت تتشوّقه كقصيدة عشق فريدة، عندما كان يشكر نعمة وجودها مخاطباً بناته: “اللي أمه بالبيت خبزته مدهونة بزيت”.
لا أحد يستطيع الجزم بما إن كانت عيّوش تعرف القراءة والكتابة أم لا، فلا شيء يشير إلى دخولها المدرسة، ومع ذلك كانت تضع كتاب كل واحدة من بناتها إلى جانبها وهي تجهز طعاماً أو تخيط شيئاً، وتطلب منها أن تقرأ أو تتلو ما حفظت دون تساهل، تفتح دفاترهم ولا تطيق أي عيب في الورقة، تمحي وتمزّق وتجبرهنّ على الإعادة: من المعيب أن يكون دفتر ابنة عيّوش على هذا الشكل! وكيف لا؟ ففي بيت عيّوش لا شيء يُهمل، جرّة الغاز لها ثوبها المزركش ورفوف البراد لها أغطيتها المطرزة وصينية القهوة لا تصل الضيف إلا بكامل زينتها.
في مكان آخر، كانت ستنتهي قصة عيّوش هنا.
لكن للجغرافيا قيود أخرى إضافية. ليس سهلاً أن تكون المرأة ابنة الشرق فما بالك بشرق الشرق! وعيوّش ابنة حلب الشرقية، المنطقة التي تتعرّض للدمار منذ سنوات ثلاث، تُقصف وتجوّع ويروّع أهلها ويموتون. ما اضطرها وغيرها من العائلات إلى النزوح مرة بعد أخرى إلى الأحياء المجاورة لهم، والتي بدورها تتعرض للقصف والتجويع. وهل يمكن أن تبقي عيوش أيديها مكتوفة؟! هي أول مَن يُسرع لنجدة الأطفال وإغاثة المنكوبين وتضميد جراح المصابين، وهي مَن تخبز بعد أن قُصف الفرن الآلي في مجزرة رهيبة. ولكن ذلك لم يشفع لزوجها الذي ضُبط (إثر وشاية) وهو يُدخّن ويرقص معها في بيتهما على أنغام أغاني “أديب الدايخ”.
في زمن مضى، كان زوجها الملقّب بـ “أبو أحمد” رغم أنه لم ينجب صبياً، يخطب ودّ عيّوش عبر تدليلها: ارتاحي وتستتّي وأنا سأخدمك بعيوني، فتخجل أن تطلب شيئاً دون أن ترفقه بكلمة: “لا تهون” ناولني فنجان القهوة، “لا تصغر” أحضر صحن فواكه بطريقك.
بعد عودته من حبس “الهيئة الشرعية” كان أبو أحمد قد أُهين وصُغِّر لدرجة أنه امتنع عن الكلام وعن الحركة. تشهد عليه زاوية الغرفة التي تحصّن بها وعينه الكسيرة وعبرات تخرج رغماً عنه على وقع القصف المستمر فوق تلك البقعة المنكوبة.
عيّوش في البيت والخبز بلا زيت! لم تعد تستطيع العبور من حلب الشرقية إلى الغربية لتطبخ هناك، وما يدخل من مواد شحيحة إلى حلب الشرقية لا يفلح في إنتاج طبخة ما رغم سعة حيلتها. يا لشوق اليدين إلى الطبخ، إلى الخضار وألوانها وأحجامها وسوائلها وطباعها، إنه أشدّ حرقة من احتياج الجسم إلى الطعام. امرأة كانت تمضي حياتها في الطبخ، مدينة كانت تأكل وتستهلك وتطعم بسخاء يفوق حاجتها، مَن يصدّق أن تجوع حلب؟
نجحت عيّوش في تدبّر أمر خطبة ابنتها البكر لشاب نجا من بؤس حلب الشرقية ووصل إلى مخيمات الأردن، وها هي تجلس كل يوم بجانب زوجها تبثّه الأخبار والآمال المعلقة على إتمام هذا الزواج. وكلما قرصهم الجوع نادت على ابنتها: أحضري الدفتر يا عُلا اكتبي طريقة طبخ النوع العاشر من الكبّة (هناك نحو ستين صنفاً من الكبة الحلبية)، ضعي ملاحظة: سرّ البامياء في دبس الرمان كما يكمن سحر الملوخية في فن التحميص، افتحي صفحة المحاشي أضيفي طريقة صنع محشي العجور بالفريكة.. أمامنا صفحة المعجّنات، ركزي على “عشّ البلبل” هذا مدّلل وفريد عصره، إلى المخللات افردي صفحة لمخلل الخس.. أسرعي يا ابنتي لا نعرف في أي لحظة يفتح الطريق ويأتون لاصطحابك إلى زوجك.
عُلا تُخبر أمها عن حلمها بشراب اللوز وعن هرج ومرج وأناس مجتمعين، تنعش الذكرى روح عيّوش المنهكة، بخاصة أن الأخبار تتحدّث عن هدنة وعن فكّ حصار التجويع.. وتأخذها وعود شراب اللوز إلى أن تصدح بأهزوجة حلبية قديمة: “أويها ولأروح لباش حلب وأقلو.. فرحة عروستنا وعريسنا بتسوى عسكرك كلو”
عيّوش هي روح حلب المكافحة المنشرحة الوثابة، وحلب هي المدينة العيّوش، مدينة المتع الحسية وفن العيش في قلب الحياة المتخمة بالمعاناة والتناقضات وويلات الحرب.
* كاتبة من سوريا