وقائع السلَمية السورية: النظام يفتك بالمدينة على وقع تفجيرات «النصرة»
عبدالله أمين الحلاق
يكاد الدخان الأسود المتصاعد في يوميات معركة سورية مع النظام يحجب أحداثاً ساخنة بدورها، وفي مناطق تكاد ترقى لأن تتحول أحداثها إلى دخان أسود، بعد أن حافظت تلك المناطق على خطبة الهندي الأحمر الأخيرة وواجهت بالقبضات والدخان الأبيض نظاماً عسكرَ المعركة معه واستقدم المجهول إليها.
السلَمية، باتت اليوم منطقة ساخنة جداً أو تكاد، قياساً بعامين من عمر الثورة فيها. التفجير الذي استهدف أحد أكبر المقرات الأمنية «مقر معمل السجاد»، كان بداية الأحداث المتسارعة التي وصلت اليوم إلى حد اشتباكات يومية بين قوات النظام والجيش الحر «لواء شهداء سلَمية» المتشكل حديثاً في المنطقة، والتابع لكتائب الوحدة الوطنية في سورية.
حملة الاعتقالات التي طاولت قرية تلتوت قبل ثلاثة أسابيع كانت بداية أكبر حملة أمنية في تاريخ مشاركة السلَمية في الثورة السورية، والتي أعادت إلى الأذهان أول حملة اعتقالات في المدينة في أيار (مايو) 2011.
تشيع أجهزة الأمن في المدينة أخباراً عن علاقة المعتقلين في الحملة الأخيرة بالسلاح والجيش الحر، تبريراً للاعتقال وإثباتاً لوجود أمني باتت قبضته رخوةً مقارنةً بالفترة التي سبقت تفجير معمل السجاد. يُعرف عن كثير من هؤلاء المعتقلين أنهم سياسيون تاريخياً، وقبل اندلاع الثورة السورية كانت لهم باع طويلة في المعارضة بالرأي والموقف، وهم على غير علاقة وعمل مشترك مع الفصائل المسلحة التي تنمو باطراد في محيط المدينة وتزحف باتجاهها رويداً رويداً، تمهيداً لما قال بعض المقاتلين في صفوف الجيش الحر أنها ستكون «معركة تحرير السلَمية».
بتاريخ 27 – 3 – 2013 أفرج النظام عن معظم من اعتقل لديه في الحملة الأخيرة، فيما يبقى أكثر من 70 ناشطاً من المدينة في سجونه التابعة غالباً للمخابرات الجوية في دمشق، ومنهم من صار له اليوم عام ونصف في تلك المعتقلات مثل عادل حمد ونعمان النعوفي وغيرهم من مجهولي المصير والمكان حتى تاريخه.
لكن، وقبل ذلك الإفراج، حدثت معركة تعتبر من أكبر المعارك التي شهدها محيط المدنية حتى اليوم، بين الجيش الحر الطامح إلى تحرير المدينة من نظام الأسد والنظام الذي لم يعد يعامل المدينة كما كان يعاملها سابقاً في سياق تكريسه التمايزات الطائفية في صفوف الثورة.
قوات النظام والشبيحة قامت عند الخامسة من مساء يوم 24- 3 – 2013 بالهجوم على مقر تابع لـ «لواء شهداء سلمية» جنوب المدينة، ليلقى الهجوم مقاومة عنيفة من قبل أفراد اللواء الموجودين في المقر بالتعاون مع فصائل الجيش الحر الموجودة في المنطقة.
بعدها قامت عدة فصائل من الجيش الحر بقطع أوتوستراد سلمية – الرقة وضرب حواجز قرب قرية «السعن» في محاولة لتخفيف الضغط عن المقر المحاصر، ولينتج من ذلك رد الهجوم وتكبيد الشبيحة وقوات الأمن خسائر بشرية غص بها المستشفى الوطني في المدينة، أو بقايا ذلك المستشفى بعد أن قوض تفجير جبهة النصرة في المدينة جزءاً منه.
قذائف تنهال على محيط المدينة وريفها، وقبل أيام أصابت إحدى القذائف مبنى سكنياً في قرية «تلدرة»، تبين وفقاً لمعارضين في القرية أنها أتت من الجيش الحر كإشارة وتهديد إلى شبيحة القرية والمخبرين المتعاملين مع النظام.
في الوسط الاجتماعي، ثمة احتقان كبير ضد النظام وعملائه وأياديه في المدينة خلقته حملة الاعتقالات الأخيرة، بخاصة بعدما صار اقتحام حرمات البيوت وتحطيم أثاثها ونهب محتوياتها علامة يومية من علامات تلك الحملة، والتي كانت ميليشيا اللجان الشعبية من شبيحة المدينة وريفها واجهتها. لقد بلغت حصيلة ما تم نهبه وفق المعلومات المنشورة حوالى عشرة ملايين ليرة سورية، أي ما يقارب 10 آلاف دولار أميركي، حتى أن الأمر وصل بأحد أعضاء اللجان إلى سرقة اللحمة المثلجة من ثلاجة بيت أحد المعتقلين، وآخر قام بسرقة كلب أليف غالي الثمن من أحد المنازل.
قرب المستشفى الوطني ثمة بيت لرجل اسمه حبيب أحمد قصاب، عبارة عن غرف بسيطة وفقيرة لا يدخلها ضوء الشمس، ويعوض عن فقدان الضوء هذا لوحات فنية على الجدران رسمت بالطلاء والبخاخ لتشي غيفارا وسمير قصير وصور لجورج حاوي وأبيات شعر للسياب ومحمود درويش… كلها غابت بعد أن تم تحطيم محتويات المنزل واعتقال حبيب وابنه عمار ووفيق أحمد قصاب، ربما استكمالاً من النظام لعملية التغييب التي طاولت موظفي مدينة السلَمية في معمل الدفاع قرب قرية تل قرطل. وحبيب قصاب هو موظف في هذا المعمل نجا من الموت الذي لحق بزملائه على يد إرهاب جبهة النصرة وتفجيرها لحافلة نقل الموظفين، الأمر الذي ذهب ضحيته مدنيون من موظفي المعمل. وليكون إرهاب النظام وسجونه وأدوات تعذيبه باسم الممانعة بديلاً من ذلك الموت البائس باسم الإسلام.
وفي الوقت الذي كانت تجري مداهمات أمنية مكثفة لمقاهي الإنترنت في مدينة حماة، حدثت مداهمات مشابهة في السلَمية للمقهى الملكي ومقهى الأندرينا وتم اعتقال مجموعة من الشبان منهما. قالت مصادر في مدينة حماة أن تلك المداهمات ذات علاقة بإعلان النفير العام في البلاد والحاجة إلى تعبئة مقاتلين لمصلحة النظام في معركته مع الشعب السوري، وهذا كلام صحيح. إلا أن تزامن تلك المداهمات في السلَمية مع الحملة الكبيرة التي كانت تشهدها المدينة غيّب حتى إعلان النفير العام لمصلحة عمل أمني ممنهج استهدف كل من له علاقة بالحراك الثوري مهما بلغ عمره أو حجم نشاطه، وترك أثراً لن يمحى في المدينة أقله لفترة طويلة مقبلة.
هذا الأثر هو ما سيكون عنوان المرحلة المقبلة في المدينة. النظام زرع بذور الاحتراب طويلاً واستطاع جل أهالي المدينة وبخاصة المعارضة فيها أن يقضوا على تلك البذور قبل أن تنمو وتتحول إلى اقتتالات طائفية وأهلية طالما سعى إليها نظام الأسد، وارتد الفعل هذا على النظام إرهاصات تحوُّلٍ كبير تعيشه المدينة اليوم، جزء منه على شكل رد فعل على الأعمال القذرة للنظام ومفارزه ولجانه الشعبية منذ بدء الثورة وحتى اليوم، والجزء الآخر هو التحول الذي كان لا بد للمدينة أن تشهده ولو طال الزمن، وهو ما يشير إلى تهافت كلام النظام حول ضمانته مناطق الأقليات التي صارت السلَمية علامة وعنواناً لها في كل سورية.
ثلاث قوى تتصارع اليوم لإثبات نفسها في المدينة، أولها المعارضة السياسية والمعارضة المسلحة التي وصلت نقطة قطيعتها مع النظام وأياديه في المدينة مبلغاً لا رجعة عنه بعد كل ما جرى ويجري حتى اليوم، وثانيها قوى الإسلام المتطرف الذي تبدو جبهة النصرة عنوانه الأعرض بعد تفجيرين لها ذهب ضحيتهما مدنيون كثر في السلَمية، وأخيراً النظام الذي باتت كل الأرض الســـورية حلبة قتال له ضد «المؤامرة الكونية»، وهي مؤامرة نجحت في توحيد الســوريين كلهم في المعركة ضد هذا النظام، وهي معركة تثبت يومياً أنها لن تخمد قبل تحقيق أول أهداف الثورة ممثلاً بــ «إسقاط النظام السوري». الشعار الذي رفعته المدينة لأول مرة في أيار 2011 في تظاهرة قرب المركز الثقافي في السلَميّة.
الحياة