وقائع سنوات الجمر
ماهر الجنيدي*
سيظل السؤال قائماً لزمن طويل من الوقت. هل منح المثقفون الاستبدادَ أدواتٍ تساعده على التضليل وصرف الأنظار عن ارتكاباته؟ وهل يستحق هذا، إن صحّ، مراجعة نتاجاتهم الثقافية في المراحل السابقة، وإعادة النظر فيها من مناظيرنا الجديدة؟
في مثل هذه الأيام من العام 1975 تسلّم المخرج الجزائري لخضر حامينا جائزة “السعفة الذهب” لمهرجان كانّ السينمائي، عن فيلمه “وقائع سنوات الجمر”، ليكون بذلك المخرج العربي الأول الذي ينال عن فيلمه هذه الجائزة العزيزة على قلوب المخرجين العرب، التي سبق لها أن أعيت المرحوم يوسف شاهين على مدى سنوات عمره، ولم يفلح في الحصول عليها إلا في العام 1997، ولكن عن مجمل أعماله وليس عن عمل محدد، في ما يشبه جائزة الترضية عن مثابرته وإيمانه برسالة المهرجان، ومبادئه.
تميّز “وقائع سنوات الجمر” فنياً بعناصر فنية محدثة يستحيل إنكارها، وخصوصاً على صعيد الصورة التي جاءت لتخدش مخملية السينما، بمشاهد مروعة عن المجازر التي تعرّض لها الشعب الجزائري خلال سنوات نضاله لنيل الاستقلال والحريّة، من خلال اقتحام الكاميرا مناطق مجهولة غامضة داخل مجتمعات القبائل الجبلية في الجزائر.
لكن جودة الفيلم والتصوير والإخراج والسيناريو ليست دوماً هي معايير الفوز بجوائز كانّ، خصوصاً إذا كان الفيلم عربياً يخترق مرحلة هيمنة السينما الأميركية على السعفات الفرنسية بين 1973 و1980، والتي لم يقطعها إلى جانب لخضر حامينا سوى الطليان في 1977 و1978. فثمة اعتبارات غير فنيّة وقفت وراء فوز صاحب “ريح الأوراس” بهذه الجائزة. إذ كان المزاج الفرنسي يشهد من جهة تعاطفاً واسعاً مع إعادة صياغة تاريخ العلاقات الفرنسية الجزائرية، وكسر جليدها، ما دفع فاليري جيسكار ديستان إلى أن يكون في نيسان 1975 (أي قبل شهر من سعفة كانّ) أول رئيس فرنسي يزور الجزائر المستقلّة في عهد العقيد هواري بومدين. وكان المزاج العالمي العام يشهد من جهة أخرى تعاطفاً مع القضايا العربية أعقب حرب أكتوبر وبروز منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
غير أن فوز فيلم عربي أولاً، وجزائري ثانياً، بالجائزة المرموقة، استغلّته بطرق متعددة، سلطات الاستبداد الثقافي في ما بات يعرف بدول “جبهة الصمود والتصدّي”. إذ جعلت منه نموذجاً، كرّست من خلاله مفهوم “أفلام الجوائز”، لتحصر صناعة السينما في بلدانها في هذا الإطار النخبوي الضيق، ولتضيّق في الوقت نفسه الخناق على منبر ثقافي لا يمكن أن ينمو ويترعرع ويزهر إلا في أجواء حريّة الفكر والتعبير والنقد، بعيداً من سيف الرقابة الأمنية المصلت.
على رغم اللهجة المحلية العويصة في الفيلم، التي كان يتعذر فهمها لدينا نحن أبناء المشرق، يذكر الكثير منا أننا شاهدنا بفضول وباندفاع ذاتي هذا الفيلم ذا اللمسات الهوليوودية في مهرجان أفلام أقامته “صالات الكندي” (الحكومية) في المدن السورية، فضول أعقبه شعور بالذنب لعدم تمكّننا من فهم الحوار.
في سوريا، استُخدم “وقائع سنوات الجمر”، كما استخدم الكثير من الإبداعات الفنية والأدبية العربية والعالمية، كوسيلة لتركيز انتباه المتلقّين على صور وقضايا تعميهم عن متابعة المشكلات والقضايا المحيطة. فأصبح هذا الفيلم بمثابة مقرّر تثقيفي تستخدمه المنظمات الشعبية في “التثقيف الشعبي”، يتابع فيه المتلقي دماءً بعيدة زمنياً ومكانياً عن الدماء النازفة بكثافة حولنا.
إذ “دُعينا” – في أعقاب التورط العسكري السوري في لبنان- إلى مشاهدة الفيلم في عروض خاصة في مدارسنا الثانوية في إشراف منظمة “اتحاد شبيبة الثورة”، ثم “طُلب” منا حضوره في عروض المراكز الثقافية العربية بعد اغتيال كمال جنبلاط. ثم “حُشدنا” إلى حضوره في عروضه المتكررة، في أعقاب مجزرة تل الزعتر، في النادي السينمائي التابع لمنظمة “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا” في الجامعات السورية. أما إذا ارتكبت مجزرة في حماه، أو في تدمر، أو في حلب، فقد يتحوّل إلى عرض سينمائي “إلزامي” في معسكرات التدريب العسكري الجامعي، “يفرض” على كل الطلبة حضوره، حتى لو كانوا منهكين نياماً من دون أن يشاهدوه بعد يوم صيفي ثقيل حار.
عودةً إلى الفيلم، يغلب الظن أن محمد لخضر حامينا بريء من هذا الاستغلال المسيء إلى فيلمه، إذ عاد في 1986، وعبر فيلمه “الصورة الأخيرة”، إلى معالجة مسألة أخرى، كانت بمثابة الضفّة الأخرى للمسألة الجزائرية، إذ تناول فيه مصائر الغربيين في الجزائر أثناء الحرب العالمية الثانية، في فيلم من إنتاج فرنسي، يندرج ضمن توجهات حامينا لوصل ما انقطع من أفكار بين الشمال و الجنوب.
لعلّ السؤال الأخطر من الأسئلة المطروحة أعلاه هو: هل كان مثقفونا أبرياء؟
المؤكد في الأمر، أنّ الاستبداد لا يتورع عن انتهاك الفن واستباحته مهما كان راقياً، ولا عن تسخيره للتغطية على سنوات جمر أخرى كنّا نعيشها نحن.
* كاتب سوري
النهار