ولادة بطيئة لنظام دولي جديد/ عبدالوهاب بدرخان
لا خلاف بل هناك إجماع على وصف 2016 بأنها كان عاما سيئا، عربيا وعالميا. ولعل العناوين البارزة فيه تختصر بكلمات ثلاث: السقوط والتطرف والشعبوية.
كان عاما مفصليا في تغيير القيم السائدة، وأصبح مؤكدا أن ثمة نظاما عالميا قيد التخلق، ولن تتضح أسسه سريعا، إلا إن بعض مؤشراته الخطيرة قد ظهر في الولايات المتحدة وروسيا والصين، فضلا عن أوروبا، سواء في الابتعاد عن العولمة وإعلان فشلها تحت وطأة الضغوط الاقتصادية، أو في المراجعة التي تشهدها الزعامة العالمية للخروج من القطبية الوحيدة والعودة إلى تعدد الأقطاب.
فروسيا قطعت شوطا واسعا في استعادة قوتها الإمبراطورية وتسعى إلى المزيد، والصين لم تعد مكتفية بالتفوق الاقتصادي والتجاري بل تريد تأكيد نفوذها الإقليمي وتوسيع نطاقه. أما التراجع الأمريكي دوليا فيعزى إلى تبديل أولويات في استراتيجيتها، وليس إلى ضعف في وسائل الهيمنة.
لذلك تلوح السنة الجديدة كمرحلة انتقالية تجريبية سيصار فيها الى اختبار مجالات التوافق الأمريكي – الروسي ومدى انعكاس هذا التوافق على التنافر المرشح لأن يصبح مواجهة أمريكية – صينية.
نادرا ما نظر عالميا بسلبية إلى انتخاب رئيس جديد في الولايات المتحدة، كما حصل مع دونالد ترامب، فباستثناء روسيا وإسرائيل اللتين حظيتا بكل مواقفه الواضحة في إيجابيتها، والصين التي تلقت كل إشاراته الاستفزازية، لا يزال معظم الدول الأخرى فريسة الغموض المخيم على توجهاته.
بدءا من أوروبا الغربية، الحليف الأول التاريخي للولايات المتحدة، التي باتت أكثر يقينا بأن منظومتها الدفاعية تحت مظلة حلف الأطلسي (الناتو) قد تتعرض لهزة كيانية مع ترامب الذي يبدي استعدادا متزايدا لطمأنة فلاديمير بوتين باستجابة ما لمطالبه التي لم يرفض باراك أوباما البحث فيها فقط بل شجع المضي في كل خطط «الناتو» رغم ما فيها من تحديات لموسكو.
أما في الشرق الأوسط، فيبدو انحياز ترامب المبكر والمتهور لمصلحة إسرائيل، مع عدم اكتراثه بمأساة سوريا أو العراق، فينذران بتخل مروع عن المسؤولية في نزاعات كان لأمريكا دور مباشر وغير مباشر في تعقيدها وتأجيجها. وأما بالنسبة إلى الخليج العربي، فيخشى أن تكون مواقفه من إيران مجرد استعراض قوة فارغ من أي تصميم استراتيجي على ضمان أمن المنطقة واستقرارها.
لم تكن معركة حلب سقوطا للمدينة صاحبة التجربة الإنسانية الغنية بمقدار ما كانت سقوطا لـ «مجتمع دولي» أثبت عجزه إزاء حملة تدمير وإبادة، وكرس نفسه متفرجا على تهجير قسري فرضته دولة إقليمية مارقة، هي إيران ونظام سوري اختار تحصين بقائه في السلطة بقتل أبناء شعبه واستخدام ترسانته العسكرية لتدمير مدنه ومقومات اقتصاده. ستبقى حلب علامة فارقة في تاريخ الخزي المعاصر، خصوصا اذا بقي الايرانيون وحلفاؤهم بلا أي مساءلة ومحاسبة، كما بقي أسلافهم المغول لكن في عصر ما قبل القوانين والمعاهدات الدولية.
كان فظائع النازية وحروبها أدت إلى ولادة المجتمع الدولي، ليكون الأداة الرادعة لتكرار الجرائم، وكانت مذابح رواندا انذارا حاسما، بأن هذا المجتمع الدولي لا يعمل فكان مبدأ «مسؤولية الحماية الدولية» لمنع تكرارها، لكن هذا المبدأ أسقط بإرادة روسيا وأمريكا إذ فضلتا الإبقاء على الاستبداد للحؤول دون سيطرة جماعات الإرهاب، رغم العلاقة السببية بينهما، فكان أن حصدتا الاثنين معا.
لعل الاستخلاص الأخطر والأهم في الفهم الدولي للتحولات العربية منذ 2011 أن العلة لم تكن في الأنظمة الفاسدة والمستبدة بل في الشعوب التي ثارت عليها. قبل ذلك كان هناك إجماع دولي على رؤية كل الشرور في تلك الأنظمة، وكان التقويم الغربي يعتبرها نتاجا لنمط سوفييتي كان يجب أن تسقط بسقوطه.
لكن الحاصل الآن في الغرب، بعد موجات الهجرة وتدفق اللاجئين، وبعد استشراء الإرهاب وعملياته، وفي ظل أزمة اقتصادية متمادية، أن الشعبويين يحتلون الواجهة ويستعدون للحكم بشعارات غير مألوفة بعنصريتها وبميلها لإخضاع روح القوانين لمعايير الشارع. وتكمن المفارقة في أن هؤلاء يوجدون بمعظمهم في صفوف اليمين المتطرف الذي يجهر بإعجابه ببوتين ونمطه السوفييتي المتجدد.
وقد غدا الرئيس الأمريكي المنتخب نسخة نموذجية يحاول العديد من ساسة الغرب تقليدها معولين على استنهاض الغرائز في مجتمعاتهم. ربما يحاجج البعض بأن للتغيير الحاصل أسبابه الاقتصادية والاجتماعية، أولا وأخيرا، لكن فيه تكيفا مريبا مع ما تمنته أنظمة الاستبداد وجماعات الإرهاب.
* كاتب صحفي لبناني
الاتحاد