وليام دوبسون الصراع بين الدكتاتوريات العربية والربيع العربي لم ينته بعدُ
محمد ماضي – واشنطن
يجمع خبراء التحوّل الديمقراطي، على أن ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس، تشكل علامة فارقة على طريق الصِّراع المحتدم بين الدكتاتورية والديمقراطية وأنها أحدث جبهة في نضال عالمي ضدّ القهر والاستبداد.
في الأثناء، أمضى الكاتب والصحفي والمحلل السياسي الأمريكي وليام دوبسون، أكثر من عامين في دراسة الأساليب المُـبتكرة، التي لجأ إليها الحكّام الدكتاتوريون حول العالم للبقاء في الحُـكم والتخفِّي وراء مَظاهر ديمقراطية زائفة، كما قام بدراسة التكتيكات الجديدة التي لجأ إليها الناشطون السياسيون، في سعيهم للتحول الديمقراطي والإنتصار على مُـراوغات الحكّام المُـستبدِّين، وشرح الكاتب دوبسون خلاصة دراساته في كتاب جديد بعنوان: “مدى ما تعلّمه الدكتاتور: داخل المعركة الدولية من أجل الديمقراطية”.
swissinfo.ch التقت المؤلِّف وليام دوبسون في واشنطن وأجرت معه الحوار التالي.
swissinfo.ch: شرحْـت في كتابك كيف لجأ الحكّام الدكتاتوريون في عالم اليوم، إلى تغليف قبضتهم الحديدية بقطيفة ناعمة. فما هي الأدوات التي يستخدِمها هؤلاء الحكّام للظهور بمظهر ديمقراطي خادع؟
وليام دوبسون: هناك أدوات متعدّدة يستخدمها الحكّام الدكتاتوريون في عالم اليوم:
أولا: استخدام الانتخابات كوسيلة لإقناع الشعب بوجود تحوّل ديمقراطي مع التخلّي عن أسلوب الاستِناد إلى نتيجة 99% والاكتفاء بنسبة 70% كنتيجة أكثر إقناعا.
ثانيا: اللجوء لتزوير الانتخابات لضمان عدم حصول المعارضة على نِسبة عالية من الأصوات، على غرار ما تفنّن فيه وزراء الداخلية في عصر الرئيس المخلوع مبارك وفي دُول أخرى عديدة.
ثالثا: التحكّم في وسائل الإعلام، مع السماح بقدر محدّد من حرية التعبير وحرية الصحافة، ليس بغرض إحداث تحوّل ديمقراطي ولا لكي تكون الصحافة سُلطة رابعة، وإنما بغرض التنفيس عن الغضب والإحباط، وكوسيلة لتعريف النظام الدكتاتوري بحقيقة المواقِف والمشاعر السائدة في المجتمع.
رابعا: التحكّم في صياغة القوانين، بشكل يُـناسب رغبة النظام المستبِـد في استهداف مَـن يراهُـم خطرا على وجوده.
وبهذه الأدوات، تبدو الأنظمة الدكتاتورية من خلال استخدام مظاهر ديمقراطية، وكأنها إصلاحية.
وكيف تُـقيِّـم أداء الدكتاتوريات العربية في تعلّم أساليب التكيّف وخداع الشعوب بمظاهر ديمقراطية زائفة؟
وليام دوبسون: أعتقد أن مِنهم من نَجح نِـسبيا، ومنهم من أخفق بشكل مروّع. فقد نجح مبارك إلى حدٍّ ما في الاحتفاظ بالسلطة لثلاثين عاما، بشعارات وأدوات زائفة، مثل الإصلاح الاقتصادي والفكر الجديد واستخدام أدوات ديمقراطية، مثل الانتخابات مع تزويرها، وحرية الصحافة كوسيلة للتنفيس، وتفصيل القوانين لتكريس السيْطرة. وفي نفس الوقت، استخدم مبارك سلاح التّخويف مِن المجهول الذي يمكن أن يحكم مصر، إذا سقط نظامه. ولكن، مع كل هذا سقط النظام تحت الضّغط الشعبي.
وهناك أنظمة دكتاتورية عربية أخفقت إخفاقا تاما في تعلّم أساليب ناعمة للاحتفاظ بالسلطة، مثل نظام بشار الأسد في سوريا، ونظام القذافي في ليبيا، لأن الزعيميْـن واصلا انتِهاج السُّبل الدكتاتورية القمعية التقليدية، وحوّلا بلديهما إلى ما يُـشبه الدولة البوليسية.
وماذا كان تأثير ثورات الربيع العربي على تكتيكات الحكّام الدكتاتوريين في المراوغة والظهور بمظهر ديمقراطي خادع؟
وليام دوبسون: لقد كشفت الثورات الشعبية العربية، مدى ضعف مفاصِل النُّـظم الدكتاتورية، وكيف أن ثورة شعبية في بلد مثل تونس يمكن أن تطلق شرارة ثورة شعبية خلال أيام في بلد آخر مثل مصر، وأعطت أخطاء نظام بن علي الجسيمة في تونس وانتفاضة الشعب التونسي، جسارة لم يسبق لها مثيل لشعوب عربية أخرى، بل إن ثورات الربيع العربي، كانت لها أصداء حتى في الصين وماليزيا.
فقد كُـنت موجودا في ماليزيا عندما اندلعت الثورة المصرية، وكانت حديث الناس هناك ليل نهار ومصدر إلْـهام لهُـم كدولة إسلامية، بل وشجّعتهم على تنظيم احتجاجات شعبية لتغيير النظام هناك. كما أن ثورات الربيع العربي أقنعت زعماء الحزب الشيوعي الصيني بأنهم سيخسرون إذا واجهوا احتجاجات شبيهة بما حدث في ميدان تيان آن من بالقمع والدبابات، كما فعلوا في الماضي.
إذا كان الحكّام الدكتاتوريون تفنّنوا في تعلّم آليات جديدة للحفاظ على السلطة، فكيف طور الناشطون من أجل الديمقراطية تكتيكاتهم وأدواتهم للانتصار في المعركة الدولية بين الدكتاتورية والديمقراطية؟
وليام دوبسون: أولا، بدأ النشطاء السياسيون يتعلّمون من بعضهم البعض. فقد لاحظْـت من جولاتي في روسيا والصين وفنزويلا وماليزيا ومصر، أن دُعاة الديمقراطية في كل بلد، يتحدّثون بدِراية ووعْـي عن تجارب نُـظرائهم في البلدان الأخرى، ووجدت من النشطاء مَـن تتلْـمذوا على يد مدرسة حركة التضامُـن في بولندا في بداية الثمانينيات، ومنهم من استلهموا تكتيكاتهم من حركة المقاومة المدنية التي قادها مارتن لوثر كنغ، زعيم حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، ومنهم من استوْحى توجّهه من فكرة العِصيان المدني للمَـهاتما غاندي في الهند.
ثانيا، اعتمد النشطاء السياسيون ودُعاة التحوّل الديمقراطي، على سبل جديدة لنقل رسائلهم السياسية بشكل أدّى إلى وصولهم لمخاطبة شعوبهم بوسائل توضِّح ما الذي يُمكن عَـمله، وما هي أخطاء وخطايا النظام، بدلا من أساليب الخطابة والطنطنة السياسية التقليدية.
ثالثا، استخدم النشطاء السياسيون أساليب غير متوقّعة لتعميق الفهْم الشعبي وإدراك الحقائق على أرض الواقع، من خلال الفايس بوك والتويتر ووسائل التواصل الاجتماعي عبْـر الإنترنت، وبذلك لم يكن سهلا على الأنظمة الدكتاتورية اجتِثاثهم من جذورهم، كما اعتادت عندما كانت تعرف أساليبهم التقليدية.
ذكرت في كتابك أن أحد المفكرين والأكاديميين الأمريكيين واسمه جين شارب، قدم نصائح للناشطين السياسيين حول العالم، حول كيفية الإطاحة بنُظم الحُكم الدكتاتورية. فما هي تلك النصائح؟
وليام دوبسون: نشر شارب كُـتبا أساسية حول الوسائل السِّلمية للمقاومة الاستراتيجية لتك الأنظمة، وناقش فيها أهمية التّفرقة بين السلبية والمقاومة السلمية، ونصح فيها دعاة التحوّل الديمقراطي باتِّباع أساليب تنظيم لتشكيلاتهم على النّسق العسكري المحكم، لضمان وحدتهم والتِـزامهم بمهامهم، مع الامتناع مُـطلقا عن اللجوء للعنف، لأنهم لو تبنَّـوا العنف كوسيلة، فستكون الغلبة للنظام، باعتبار أنه ليس هناك طَرف يمتلك من الأسلحة ما يفوق ما يحتفظ به الدكتاتور في تِرسانته ومدى استعداده لاستخدامها للبقاء في السلطة، كما حدث في سوريا.
كما أن شارب لفت نظَر الناشطين السياسيين إلى حقيقة أن الشعب تحت أيِّ نظام دكتاتوري، ينقسم غالبا إلى أقلية تُـساند النظام، لأنها مستفيدة منه، وأقلية تُـقاوم النظام وبطشه وفساده. وبين الأقليّتيْـن، توجد غالبية عُـظمى صامتة، يمكن اجتذابها من خلال التِـزام المقاومة السِّلمية، لتحقيق النصر والإطاحة بالدكتاتور، مثلما حدث في تونس ثم مصر.
ولكن، ما صحة ما يُـشاع عن تدريب النشطاء السياسيين في صربيا، وأثره في إشعال جذوة ثورات الربيع العربي؟
وليام دوبسون: لم يعُـد خافيا على أحد أن هناك تنظيما يُـسمى (كانفاس) في بلغراد، وهو منظمة صغيرة تضم أعضاء مُـخضرمين في النضال السِّلمي ضد الدكتاتورية، اكتسبوا خِـبرات واسعة من خلال تجرِبتهم في الإطاحة بنظام سلوبودان ميلوسيفيتش في جمهورية الصّرب عام 2000، وبعد نجاحهم في قيادة حركة من الطلاب للتخلص من ذلك الدكتاتور، عقدوا العزم على إقامة تلك المنظمة لتبادل الخِبرات مع جماعات المعارضة في أكثر من خمسين دولة حول العالم، لتدريبها في ورشات عمل على كيفية حشْد المعارضة الشعبية وتنظيم صفوفها، ولكن بشرطين:
أولا، أن تلتزم جماعات المعارضة التي تتلقى التدريب، بمبدإ السلمية واللاعنف. وثانيا، أن لا تنتظر جماعة المعارضة من بلد ما، من منظمة كانفاس، خطّة عملية لحشد المقاومة من أجل الإطاحة بالدكتاتور في ذلك البلد، باعتبار أن أهل مكّة أدرى بشعابها، كما يقول المثل العربي. وهكذا، تلقّت بعض جماعات المعارضة العربية التدريب على أيْدي خبراء كانفاس في تحليل الوضع الداخلي ورسم استراتيجية مناسِبة لظروف بلادهم.
نادي الدكتاتوريين العرب فقَـد في عام واحد زين العابدين بن علي، ثم حسني مبارك ثم معمر القذافي ثم علي عبد الله صالح. فلماذا تعذّر لِـحاق بشار الأسد بهم؟
وليام دوبسون: بسبب عدد من الصعوبات: أولا، أن الرئيس السوري لجَأ من البداية إلى قمْـع الانتفاضة الشعبية التي بدأت سِّلمية بالقوة. ثانيا، أن المعارضة السورية، وعلى عكس قوى المعارضة الأخرى في ثورات الربيع العربي، ظلت منقسِمة على نفسها، مما جعلها أقل قُـدرة على تحقيق أهدافها، ثم استخدمت العُـنف أمام قدرات عسكرية لا قبل لها بها كرسها النظام السوري. ثالثا، استمرار مقاومة النظام ورفْضه للحلول الوسَـط والنقل السِّـلمي للسلطة، رغم كل الضغوط. ومع كل تلك الصعوبات، فإن قبضة الدكتاتور السوري على الحُكم، تضعف يوما بعد يوم وسيلحَق الأسد بمصير مَـن سبِـقه في الخروج من نادي الدكتاتوريين العرب.
ومتى يُـمكن أن تصل رياح التغيير الديمقراطي التي أتت بها ثورات الربيع العربي إلى النُّظم الملكية العربية وإمارات الخليج؟
وليام دوبسون: عندما تُـقرّر الشعوب العربية في تلك الدول التي تحكمها الأسَـر المالكة. فعلى سبيل المثال، النظام الحاكم في المملكة العربية السعودية هشٌّ للغاية، رغم وفْـرة احتياطياتها البترولية، وذلك لأن الأسْرة المالكة تقدّمت في العمر وتسود بين أفرادها انقسامات عميقة. كما أن الشعب السعودي يمر بحالة من عدم الرِّضى، يمكن أن تصل يوما ما إلى مرحلةٍ لا يمكن معها شِراء الصّمت والسكوت بالمزايا والمسكِّـنات المادية، خاصة مع تزايد البطالة بين الشباب. ولكن لن تتحرّك الأمور نحو الإصلاح، إلا بمُطالبة شعبية من الداخل.
هناك مؤشرات على التململ الشعبي داخل أنظمة ملكية عربية. ففي الأردن مثلا، الذي لا يمتلك ثروات طائلة مثل السعودية لمواجهة المشاكل الداخلية والرفض الشعبي، أظهر النظام الملكي الأردني حصافة ومَهارة في احتِواء الغضب الشعبي بالتحرّك بسرعة لاستعادة مكانته، باتخاذ خطوات بسيطة وإصلاحات صغيرة هنا وهناك، دون الحاجة إلى إجراء تعديلات سياسية واسِعة النطاق، ومع ذلك، يمكنني القول بأنه سيكون من الصّعب على تلك الأنظِمة الإستمرار طويلا بدون إدخال الإصلاحات الديمقراطية التي تتطلّع إليها شعوبها.
محمد ماضي – واشنطن- swissinfo.ch